جردة ترامب الشرق أوسطية: أميركا أقلّ أمناً
لا شكّ في أن الشرق الأوسط كان بشكل دائم معنياً بهوية قاطن البيت الأبيض، وذلك لاهتمام الولايات المتحدة بأمن "إسرائيل" وتدخلاتها التي لا تنتهي في الشؤون الشرق أوسطية.
يعيش العالم اليوم على وقع قرع الطبول الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تنظر كل دولة إلى مصالحها في بقاء الرئيس ترامب أو رحيله، وخصوصاً أن جو بايدن يشكّل استمراراً لسياسة باراك أوباما، ما يجعل من السهل توقّع سياساته الخارجية، إضافة إلى أن سياسات ترامب ستكون استمراراً للسنوات الأربع التي مرّت.
منذ 4 سنوات، وعد المرشح دونالد ترامب بإنهاء عصر الحروب العسكرية، معتبراً أن عصر تغيير الأنظمة بالقوة بات من الماضي، ومؤكداً نيّته الانسحاب من الشرق الأوسط، وأن السلام يجب أن يعمّ هذه المنطقة، وعلى الأميركيين الانتهاء من "الحروب الأبدية"، لكن الوعود الترامبية سرعان ما تبددت، باعتماده سياسات العقوبات الجماعية على كل من إيران والعراق وسوريا ولبنان، ودعمه المطلق لـ"إسرائيل"، وعزمه على تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء حلّ الدولتين، وتأييده السعودية في حربها ضد اليمن.
وقد شارفت المنطقة على الحرب في أكثر من مناسبة، ولعل أبرزها لحظة قيام ترامب باغتيال الفريق قاسم سليماني، الذي كاد يشعل حرباً إقليمية كادت تتحوَّل إلى ساحة حرب عالمية، لولا ضبط النفس الذي مورس من قبل الإيرانيين وردّهم المدروس.
لا شكّ في أن الشرق الأوسط كان بشكل دائم معنياً بهوية قاطن البيت الأبيض، وذلك لاهتمام الولايات المتحدة بأمن "إسرائيل" وتدخلاتها التي لا تنتهي في الشؤون الشرق أوسطية، والتي تزايدت بشكل مطَّرد بعد الحرب الأميركية على الإرهاب والاحتلال الأميركي للعراق. ومن دون الدخول في الرواية الأميركية الداخلية حول علاقة ترامب المشبوهة بالروس، فإننا نجد - وفي جردة لسياسات ترامب في الشرق الأوسط - أن نتنياهو وبوتين هما أكبر رابحين من سياسات ترامب الشرق أوسطية.
المؤكد أنَّ نتنياهو استفاد من تأييد ترامب المبالغ به، والذي ساهم في تكريس سياسات اليمين الإسرائيلي، ورفضه السلام، لكن - على المدى المتوسط والطويل - ما فعله ترامب لن يجعل السلام أكثر قرباً من ذي قبل، ولن يجعل "إسرائيل" أكثر أمناً.
أما الرابح الثاني فكان بوتين، الذي كرّس نفسه قطباً أساسياً في الجغرافيا السورية. جردة حساب جغرافية بين لحظة رحيل باراك أوباما منذ أربع سنوات واليوم، تؤكد أن سياسات ترامب في سوريا خدمت الروسي بشكل أكيد، وجعلته يكرّس حضوره في سوريا، ويعقد الاتفاقيات مع تركيا التي ساهمت في تعزيز نفوذه في المنطقة ككل.
ولعلَّ الدول الأكثر تضرراً هي إيران وحلفاؤها (لبنان وسوريا والعراق)، وهي الدول التي تعرّضت لعقوبات جماعية لم يسبق لإدارة أميركية سابقة أن لجأت إلى مثيلاتها. لقد تأثرت الساحات الثلاث بالحضور الإيراني في كل منها، فعانت من الضغوط الأميركية القصوى، على شكل عقوبات اقتصادية جعلت شعوب الدول الأربع على حافّة المجاعة.
وفي تقييم للعقوبات الأميركية، يمكن أن نميّز بين الوسيلة والهدف، فالوسيلة لا تقاس بحدّ ذاتها، بل بمدى قدرتها على تحقيق الأهداف. والمؤكد أن ترامب بعقوباته الجماعية التي ترقى إلى مستوى جرائم حرب، جعل الساحات الإيرانية واللبنانية والسورية والعراقية تئنّ تحت وطأة الجوع والعقوبات والخوف من فقدان المواد الغذائية، لكن الهدف المراد تحقيقه، أي دفع إيران إلى الاستسلام والذهاب إلى مفاوضات استسلام، لم يحصل، ولم تؤدِ العقوبات إلى استسلام حزب الله وإلى تغيير سياسي جذري في لبنان، وفشلت الأدوات الأميركية في تحقيق انقلاب سياسي على نتائج الانتخابات النيابية.
أما في سوريا، وعلى الرغم من العقوبات القاسية على السوريين، فإن ذلك لم يؤدِ إلى تنحّي الأسد أو خروج التظاهرات ضده أو قبوله بخروج الإيرانيين من سوريا، وما زالت الساحة العراقية تقاوم الوجود العسكري الأميركي، إذ أصبح وضع الجنود الأميركيين في العراق أقل أمناً بعد رحيل سليماني، لا العكس.
في النتيجة، إن التفاؤل الذي ساد عند نهاية عهد أوباما ومجيء ترامب بإنهاء عصر الحروب في الشرق الأوسط، تحطَّم على صخرة شخصية ترامب النرجسية وتوقه إلى إرضاء اليمين المسيحي المتطرف، خدمة لطموحات التجديد الرئاسية والبقاء في البيت الأبيض.
وعلى الرغم من سياسة الضغوط القصوى التي استخدمها، فإنه لم يحقق الأهداف التي كان قد وضعها، وجعل النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط أقل مقبولية وأقل أمناً... وعليه، هل يكون نجاح بايدن في الانتخابات مقدمة لتنفّس الصعداء في الشرق الأوسط، كما في العديد من أنحاء العالم؟