فلسطينيون تحت سياط القضاء السّعوديّ.. غياب العدالة؟!
هذه المحاكمات لها هدفان أساسيان، الأول محاولة تغيير المزاج العربي المؤيد لفلسطين، أما الثاني فهو التقرب إلى الاحتلال والتماهي مع أهدافه في ظل هرولة بعض الدول العربية تجاه التطبيع.
لم يرتكب الفلسطينيون المقيمون في السعودية أيّ جُرم يستدعي اعتقال أكثر من 60 منهم منذ شباط/فبراير 2019، بينهم ممثل حركة حماس الدكتور محمد الخضري (81 عاماً) ونجله، وتعذيبهم ومحاكمتهم في محاكم غير شفّافة أو عادلة.
لم يعبث هؤلاء بالأمن السّعوديّ، ولم يتدخَّلوا مطلقاً في أي شأن داخلي يجعل الحكومة السعودية تُقدم على خطوة غير معهودة كهذه، وهنا السؤال المهم: لماذا يُعتقل هؤلاء؟ وما التهمة الموجهة إليهم؟ وأي قضاء هذا الذي يحاكم فلسطينيين يعملون لدعم قضية فلسطين ونصرتها؟ لكنَّ الإجابة الصادمة بكلّ أسف هي حشد الدعم المالي والتأييد للمقاومة الفلسطينية!
تحوَّلت المواقف في السّياسة السعوديّة بعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الأسوأ. كان ذلك واضحاً من خلال سلوك ولي عهد السعودية محمد بن سلمان تجاه القضية الفلسطينية، وباتت المواقف أكثر سلبية وحدّة تجاه كل من يعمل على دعم المقاومة الفلسطينية وتأييدها ومدّها بالمال، وهي ربما التهمة الأبرز لممثل حماس في السعودية ومن معه، والذين كانوا يعملون طيلة السنوات الماضية بعلم صانع القرار في السعودية، وتحديداً الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.
المعتقلون الفلسطينيون، بينهم طلبة ومقيمون وأكاديميون ورجال أعمال، تم تجميد حساباتهم ومنعهم من السفر، وهم يتعرضون منذ اعتقالهم، وفق ما قالته حركة حماس آنذاك، للتعذيب بأشكال متعددة، ويتم التحقيق معهم بشكلٍ قاسٍ. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قالت حماس إن محقّقين أجانب من جنسيات مختلفة يحققون معهم. وهنا تكمن خطورة السلوك السعودي الجديد تجاه فلسطين وقضيتها أولاً، ثم تجاه المعتقلين والأهداف، جراء استمرار اعتقالهم وتعذيبهم ومحاكماتهم أكثر من مرة، كان آخرها قبل أيام قليلة من تاريخ كتابة هذا المقال.
مطالبات تلو المطالبات كلها قوبلت بالتجاهل واللامبالاة، ومنها مطالبات دولية وأخرى حقوقية، كان آخرها من منظمة العفو الدولية قبل أيام، والتي عبّرت عن أسفها الشديد إزاء ما يجري، وطالبت السلطات السعودية بضرورة الإفراج الفوري عن كلّ الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون السعودية، وعلى رأسهم الدكتور محمد الخضري، الرجل الطاعن في السن، والذي وصفت حالته الصحية، بحسب تقارير إنسانية، بأنها صعبة.
المحاكمات الَّتي يتعرّض لها الفلسطينيون في السّعودية لا يمكن أن توصف إلا بكونها محاكمات سياسية وقمعية غير عادلة، وتشكّل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي والإنساني بالدرجة الأولى، وليس لها تفسير إلا التماهي مع أهداف الإدارة الأميركية الرامية إلى تقويض وتجفيف منابع الدعم للمقاومة الفلسطينية، وهي تبنٍ للموقف الإسرائيلي الذي يعتبر المقاومة الفلسطينية إرهاباً، لأنّ قيام أيّ إنسان بدعم الشعب الفلسطيني لا يعتبر جرماً يحاسب عليه القانون، ولا يعد موضع شُبهة في الأساس.
إن الهدف من هذا السلوك السعودي المشين تجاه كل من يدعم فلسطين ومقاومتها، هو التقرب إلى الاحتلال الصهيوني، ويكشف زيف المواقف التي تبيعها السعودية للقضية الفلسطينية، بل يعد تنصلاً صريحاً من تبني القضية الفلسطينية كقضية مركزية لها عمق عربي وإسلامي.
وتفسيراً لما يجري، فإن السعودية اليوم في عهد ابن سلمان تمارس دور الوكيل عن الاحتلال، وهي في الوقت ذاته تفتقد إلى القضاء العادل والشفاف، في ظل إجراء محاكمات سرية من دون توكيلات للمعتقلين، ومنعهم من حضور جلسات المحاكمة.
هذا السلوك يثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أن القضاء السعودي غير مستقل، ويتبع بشكل مباشر للتوجهات السياسية السعودية الجديدة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وليس لأسباب أمنية، كما تزعم بعض الأوساط السعودية، فما يجري اليوم من ملاحقة واعتقال هو محاولة صريحة لإيقاف كل ما يمكن أن يقوي ويعزّز حضور ودعم القضية الفلسطينية والتعاطف معها في داخل السعودية.
هذه المحاكمات لها هدفان أساسيان، الأول محاولة تغيير المزاج العربي المتعاطف والمؤيد لفلسطين، وخلق حالة جديدة ما بعد محاكمة الفلسطينيين الموجودين في المعتقلات السعودية، تصل إلى مرحلة كيّ الوعي العربي وتغيير الصورة النمطية المعروفة عن حركات المقاومة الفلسطينية إلى صورة جديدة، تتمثل بوصم حماس وكل حركات المقاومة الفلسطينية بالحركات الإرهابية، مع التذكير بأنَّ وصف "الإرهاب" لا يستخدمه إلا الاحتلال والإدارة الأميركية، الأمر الذي يشكل انتهاكاً للحق الفلسطيني الممنوح من جميع المنظمات الأممية والمحافل الدولية التي كفلت مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة والمشروعة، وفقاً للقانون الدولي الذي كفل حق المقاومة للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
أما الهدف الثاني لمثل هذا السلوك، فهو التقرب إلى الاحتلال والتماهي مع أهدافه في ظل الهرولة العربية من قبل بعض الدول تجاه التطبيع، والتوطئة والتمهيد للعلاقات العلنية مع الاحتلال بشكل علني وواضح في المستقبل القريب، كما أنّه يعدّ خدمة مجانية للاحتلال والإدارة الأميركية في إطار تعزيز هيمنتها على منطقة الخليج، ويعدّ كارثة تقوّي "إسرائيل" على حساب الشعب الفلسطيني وانتهاك حقوقه المشروعة.
أخيراً، لا بدَّ من التذكير بضرورة أن يكون للمستوى الرسمي الفلسطيني دور في معالجة ملف المعتقلين الفلسطينيين، بعد فشل كل الوساطات التي قامت بها حماس خلال الفترة الماضية، والتي قوبلت بتعنّت سعودي غير مبرر، الأمر الذي يعد مؤشراً واضحاً على أنّ نظام محمد بن سلمان الجديد اتخذ قراراً لا رجعة فيه بقطع أي علاقة ذات صلة بالقضية الفلسطينية، وهذا الموقف كان واضحاً بعد رفض السعودية إدانة السلوك الإماراتي في تطبيع العلاقات مع "دولة" الاحتلال الإسرائيلي.