آفاق المقاومة الشعبية الراهنة في فلسطين (1)
مراجعة نقدية لظروف الانتفاضة الأولى والثانية وسماتهما واحتمالية انتفاضة ثالثة، ومقارنة الوضع الراهن بالتجربتين السابقتين. في هذا الجزء إحاطة بالظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية التي رافقت الانتفاضة الأولى.
بدايةً، لا بدَّ من التصريح بأنَّ المادة الموجودة بين أيديكم هي مراجعة نقدية وشخصية، إذ عايشت الانتفاضة الأولى بصفتي صحافياً ميدانياً في المناطق المحتلة في العام 1967. أما الانتفاضة الثانية، فتابعتها من خلال عملي في مؤسسة حقوقية داخل مناطق الـ48. وخلال ذلك، قمت بتوثيق أحداثها، بشهادات على عمليات قتل المتظاهرين الفلسطينيين داخل الـ48، ومتابعة عن قرب، وتوثيق لما صدر في وسائل الإعلام العبرية من تصريحات وتوجيهات للشرطة والجيش، والاطّلاع على تقارير حقوقيّة وأعمال قتل فرديّة ومجازر دمويّة، وما رافق ذلك من صراعات سياسيّة داخليّة في ما بين الإسرائيليين وفي ما بين الفلسطينيين أيضاً، وغيرها.
تتناول هذه المراجعة ظروف انطلاق الانتفاضة الأولى، والعوامل المحركة لها وميزاتها ونتائجها، مقارنة بظروف انطلاق الانتفاضة الثانية والعوامل المحركة لها وميزاتها ونتائجها، في محاولة لفحص احتمال انطلاق انتفاضة ثالثة، وظروف انطلاقها وعوامل نجاحها وتطورها الثوري، لتصل إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة.
الظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية التي رافقت الانتفاضة الأولى
أول ما يتبادر إلى ذهن من عاصر تلك الفترة هو خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان في العام 1983، ومحاصرتها في الصحراء التونسية، وانهيار منظمة التحرير الفلسطينية مادياً، إلى درجة أنها باعت عقاراتها، وأغلقت عدداً كبيراً من مكاتبها في العالم، بعد أن جفَّت منابع التمويل الذاتي والعربي.
وبعد أن كرّس بعض العرب جهودهم لمحاربة الثورة الخمينية في إيران، بدلاً من دعم الثورة الفلسطينية ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي، وانعكس ذلك على الفلسطينيين عامة، روّج من روّج بأنَّ "أبواب القتال ضد الاحتلال أصبحت مغلقة أمامكم"، فردَّ الدكتور جورج حبش في اجتماع المجلس الوطني المنعقد في الجزائر، متسائلاً: "هل الأبواب مغلقة أكثر مما كانت مغلقة في العام 1965 عندما انطلقت الثورة الفلسطينية؟"، مشيراً إلى ضرورة الاعتماد على الذات أولاً، وليس على العوامل الخارجية.
وأنهى خطابه بتأكيد قناعته، ومفادها: "إن فلسطين لن تُحرّر إلا من خلال ثورة فلسطينيّة ملتحمة مع حركة التحرر القومية العربية"، ودعا جموع أبناء الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، من فلسطين وحتى أميركا اللاتينيّة، مروراً بالدول العربية، إلى "عمل تعبوي إعلامي وسياسي ينادي بحق الشعب الفلسطيني في وطنه، لكي يبقى الشعب الفلسطيني طليعة للنضال ضد الصهيونية والإمبريالية".
بعد الخروج من بيروت، انعكس الإحباط على شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل خاصّ، حتى بدا ظاهرياً أنهم استسلموا للاحتلال الإسرائيلي، وانكفأوا لمعالجة حياتهم اليوميّة، بعيداً من حلم الثورة والاستقلال والسيادة. ورغم ذلك، شاهدنا في منتصف الثمانينيات خروج جموع فلسطينيّة في مسيرات سلمية حيناً، وصاخبة أحياناً أخرى، في الذكرى السنوية لانطلاق الثورة الفلسطينية، أو انطلاق هذا التنظيم أو ذاك، وانتهت هذه التظاهرات أحياناً بصدام عنيف مع قوات الاحتلال. مثل هذه الهبات القصيرة تكرّرت كلّ سنة في هذه المناسبات، إضافة إلى مناسبة يوم الأرض، وقد رأى فيها المتفائلون تمارين نضالية تسبق التحرك الكبير، بينما رأى فيها آخرون نضالات لا تؤتي ثماراً.
في النّصف الثاني من الثّمانينيات، واجه الشعب الفلسطيني انتكاسة إضافية على المستوى الدولي، بفقدان حليفه الدّولي الأكبر المتمثل بالاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وعشية اللقاء التاريخي بين ريغن وغورباتشوف في واشنطن يوم الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر 1987، بقيت العيون الفلسطينية شاخصة إلى هذا اللقاء الدولي، لعلّ وعسى أن يبحث المجتمعون قضية فلسطين، ويخرجوا بمبادرة دولية لحلّها بالطرق السلميّة، ولكن اللقاء بين الزعيمين الأكبرين في العالم انتهى من دون أن تذكر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، فأضاف هذا الحدث إحباطاً إضافياً إلى المحبَطين، لكنه في المقابل أوصل المتحفّزين إلى استنتاج يقول: إن الاعتماد على الذات هو الضمانة الأهم لاستمرار الثورة وانتصارها.
وفي اليوم التالي (9/12/1987)، قام سائق شاحنة عسكرية إسرائيلية بدهس مواطنين فلسطينيين في حي الشجاعية في غزة، فكان الرد الفلسطيني قوياً، وسرعان ما انتشر ليشمل قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ما سمي بالانتفاضة الأولى.
ساعد في ذلك معنوياً قيام فدائيين فلسطينيين ليلة 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 بعملية جريئة ونوعية، بركوب طائرتين شراعيتين، هبطت إحداهما في جنوب لبنان، فأطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على قائدها وقتلوه، بينما هبط الثاني قرب معسكر للجيش في شمال فلسطين، واستطاع أن يقتحمه ويقتل ستة جنود، منهم ضابط، وجرح 8 آخرين، واستشهد بعد أن نفدت ذخيرته. وقد أطلق على هذه العملية اسم "ليلة الطائرات الشراعية". مثل هذه العملية رفعت من المعنويات المتفائلة، وأخرجت البعض الآخر من الإحباط المسيطر عليه.
إذاً، انطلقت الانتفاضة الأولى بالاعتماد على الذات في ظروف فلسطينية سيئة، وظروف عربية وإقليمية أسوأ، وظروف دولية تهدد بتصفية قضية فلسطين بالكامل. انطلقت الانتفاضة الأولى بتحرك شعبي عارم، وليس بمبادرة نخبوية وعملية حشد للجماهير، كما اعتدنا أن نراقب الثورات، ومنها الثورة الفلسطينية في العام 1965.
إذاً، فرضت الجماهير الفلسطينية المنتفضة نفسها على النخبة من المثقفين الثوريين وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان قسم كبير منهم قد غرق في حالة إحباط أو تردّد.
يمكن تلخيص أهمّ سمات الانتفاضة الأولى بما يلي:
1. الاعتماد على الذات الفلسطينية، بغض النظر عن الظروف والعوامل الخارجية.
2. الطابع السلمي للحراك الجماهيري الواسع، والجرأة في مقاومة قوات الاحتلال.
3. الطابع التحرري فيها، الأمر الَّذي أكسبها تضامن الشعوب الأوروبية وشعوب العالم الثالث على حد سواء.
4. القدرة على اختراق الشارع الإسرائيلي، من خلال حركات إسرائيلية مناهضة للحرب، جذورها في حركة "يوجد حد" الّتي تشكّلت إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1982، وحركة "كفى للاحتلال" التي تشكّلت ونشطت خلال الانتفاضة الاولى، ومجموعة "نساء بالسواد" التي نشطت في القدس بشكل خاص، وحركات أخرى.
5. حدَّدت الانتفاضة أهدافها بالتحرر من الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، ما حدا بالمجلس الوطني الفلسطيني إلى أن يتبنّى هذا الهدف في اجتماعه المنعقد في العام 1988.
6. وأهم ما تميزت به الانتفاضة الأولى هو تنبّه القيادات الميدانية غير المعروفة إلى ضرورة تنظيم الانتفاضة وتحولها من حركة عفوية إلى حركة ثورية منظَّمة، بهدف تحويلها إلى ثورة شعبية للتحرر من الاحتلال، فصدر البيان رقم واحد من أفراد، داعياً إلى تنظيم الصفوف، فأنشئت "القيادة الموحدة للانتفاضة"، وصدرت البيانات اللاحقة باسم القيادة الموحّدة للانتفاضة، من دون أسماء.
وبغض النظر عن الانتماء الفصائلي، احتضنتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج في وقت لاحق. وقد عبّرت هذه القيادة عن وحدة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه الاجتماعية والسياسية وأماكن تواجده، لتحقيق الهدف الأساس، وهو التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وعجزت المخابرات الإسرائيلية في السنة الأولى عن معرفة أسماء أعضاء القيادة الموحدة وكيفية التواصل في ما بينهم، رغم طابور العملاء الذين خدموا الاحتلال لعقدين من الزمن.
7. هنا لا بدَّ من الإشارة أيضاً إلى أن العملاء كانوا خلال الانتفاضة الأولى الأداة الأهم للاستخبارات الإسرائيلية، وقد تجاوز عددهم، بحسب ما تبين لاحقاً، 10 آلاف عميل.
نتائج الانتفاضة الأولى
على الرغم من الطابع السلمي للانتفاضة الأولى، وربما بسبب الطابع السلمي هذا، وطابعها الجماهيري في الأساس، واحتضان منظمة التحرير الفلسطينية لها، كقيادة سياسية ووطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من الظروف العربية والدوليّة المتمثلة بغياب المنظومة الاشتراكية، إذ فقد الشعب الفلسطيني حلفاءه الذين دعموه لعقدين سابقين، وغياب الدعم العربي الرسمي، لا بل الضغط العربي الرسمي على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتقديم تنازلات توطئة لقبول "إسرائيل" بالتفاوض مع وفد فلسطيني غير مستقل، وإنما ضمن الوفد الأردني، فإن الانتفاضة استطاعت تحقيق أهداف كبيرة لم يكن يحلم بها أحد قبل انطلاقها، وذلك بفضل الاعتماد على الذات أولاً، وبفضل الالتفاف الجماهيري والتلاحم مع القيادة السياسية الوطنية في الداخل والخارج. وقد أجبرت المحتلّ الإسرائيلي على الاعتراف بمنظمة التحرير والتفاوض معها للوصول إلى حل سلمي.
وفي خضمّ الضغط العربي على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي قمة الانتفاضة، وتمهيداً لمفاوضات مدريد، رد المرحوم صلاح خلف (أبو إياد) على من يطالبون المنظّمة بالتخلي عن الكفاح المسلّح والتوجّه إلى المفاوضات فقط، فقال: "من هو الحمار الذي يذهب إلى التفاوض وهو يتخلى عن الكفاح المسلح، إلا من يريد أن يخدم أعداءه؟"، وهو ما يعني أنه يطالب بالدمج بين كل الأدوات النضالية المتوفرة للوصول إلى الهدف.
ربما كان هذا الموقف هو ما دعا إلى اغتياله تمهيداً لعملية التفاوض السلميّ، لكن في الواقع دخلت المنظمة إلى المفاوضات ضمن الوفد الأردني، وتحرَّرت منه لاحقاً، لتشكّل وفداً فلسطينياً مستقلاً، مع التزام بوقف الكفاح المسلّح، بينما بقي الاحتلال يمارس القمع والتنكيل والقتل والاستيطان في ظلِّ المفاوضات من دون توقف.
هل وصلت المقاومة آنذاك إلى "الحالة الثورية"؟
إذا أخذنا بالاعتبار أنّ كلّ حالة ثورية تكون مختلفة عن غيرها في التفاصيل، ولكنَّها متشاركة معها في الجوهر، يمكن الإجابة على هذا السؤال بنعم، ولكن ما المعوّقات التي حالت دون تحقيق الاستقلال والسّيادة؟
أعود للإضاءة على العامل الداخلي مرة أخرى، نظراً إلى أهميته. لم تكن العوامل الخارجية خلال سنوات الانتفاضة وما تلاها من مفاوضات في مدريد، مساعدة في انتصار المقاومة، بل على العكس، كانت عوامل ضاغطة. ورغم ذلك، حقَّق الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد إنجازات عظيمة اعترف بها العالم، ورفعت من شأن الشعب الفلسطيني، وكان أداء الوفد الفلسطيني قد أذهل الإسرائيليين أنفسهم.
لم يتأثر الوفد بأي ضغوطات خارجية، بل تصدّى لها، وبقي واضحاً في مواقفه، وصامداً أمام كل الضغوط العربية والدولية على عتبة إنجاز تاريخي حقيقي يناسب الحالة الثورية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، إلا أن المفاوضات الجانبية التي جرت في أوسلو من خلف الكواليس، تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبنفسية العاجز عن تحقيق الهدف، الذي يقبل بما يقدّم له، وبأيّ شروط، أحبطت الحالة الثورية والوفد المفاوض في مدريد، وخرجت النتائج باتفاق أوسلو بكل موبقاته التي نعرفها ونعيشها لغاية اليوم.
مرة أخرى، لم تكن العوامل الخارجية نصيرةً للمقاومة، ولم تستطع أن تثنيها عن تحقيق أهدافها، بل كان العامل الداخلي هو مصدر القوة، وكان قبول الضغوط الخارجية، العربية بشكل خاص، وتساوق بعض القيادات الفلسطينية معها، هو مصدر الضعف.
في التّلخيص، لقد ارتقت الحالة الفلسطينية إلى حالة ثورية في خضمّ الانتفاضة الأولى، ولكن هناك عوامل داخلية وأخرى خارجية، عربية بشكل خاص، أعاقت تحقيق الإنجازات المطلوبة بالتحرّر من الاحتلال.