هل تلتصق موسكو بدمشق؟
تعاطت موسكو مع الأزمة السوريّة منذ البداية باعتبارها مركزاً للصراع الدولي والإقليمي الَّذي يستهدفها أيضاً، ومعها بكين وطهران.
كان لوقع الخديعة الَّتي تعرَّضت لها موسكو بعد صدور قرار مجلس الأمن 1973 حول ليبيا بتاريخ 21 آذار/ مارس 2011 وموافقتها عليه، الأثر الأكبر في رسم سياساتها لاحقاً، وخصوصاً أنَّ فرنسا قادت معركة إسقاط النظام السياسيّ الليبيّ في إطار الصراع على حوامل الطاقة، ما دفع موسكو وبكين إلى التصلّب في مواجهة المشروع الغربي في سوريا، باستخدام الفيتو المزدوج لأول مرة في نيسان/أبريل 2012، لتبدأ بعدها مسيرة المواجهة في سوريا، وصولاً إلى مرحلة الدخول العسكري بالاتفاق مع دمشق وطهران.
تعاطت موسكو مع الأزمة السوريّة منذ البداية باعتبارها مركزاً للصراع الدولي والإقليمي الَّذي يستهدفها أيضاً، ومعها بكين وطهران، فدفعت إلى مقاربتها من الجانب السياسي والعسكري بقرار متّفق عليه بين العواصم الثلاث بمنع سقوط دمشق مهما بلغت الأثمان، من منطلق تهديدات الأمن القومي لها، فبحثت عن إطار للشّراكة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإيجاد حلّ سياسيّ يرضي الأطراف الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، ويحفظ الموقع الجيوسياسي الذي اتخذته دمشق بالاصطفاف مع القوى الآسيوية الناهضة، فكان القرار 2254 الذي صاغته مع واشنطن في العام 2015، ثم محاولة اختبار عرض دستور جديد لسوريا ينصّ على اللامركزيّة في مطلع العام 2017، ما أدى إلى استياء عام بفعل التجربتين العراقية واللبنانية، فسحب المقترح من التّداول.
استمرّت المحاولات الروسيّة لاحتواء الأزمة السورية باتباع السّياسات العسكريّة الداعمة لدمشق، والعمل مع طهران وأنقرة في اتفاق أستانا في العام 2017، لإيجاد مخارج لتسويات عسكريّة وسياسيّة، والعمل على منع الصدام مع الولايات المتحدة عسكرياً في الجزيرة السورية ومناطق التنف، وظلَّت موسكو تحاول إيجاد حل سياسي يرضي دمشق التي تقف معها طهران بكلّ خياراتها، وتقبل به كلّ من واشنطن وتل أبيب والرياض وأنقرة، في محاولة لإثبات القدرة على إدارة الملفات الشائكة والمتناقضة بين العواصم الآنفة الذكر، في ظلّ انكفاء واشنطن في حوض البحر الأبيض المتوسط وشرقه، وتوجّهها للتمركز في جنوب شرق آسيا لمواجهة الصّين.
أدركت موسكو بأنَّ الفراغ الحاصل نتيجة هذا الانكفاء ينبغي أن تملأه بموافقة جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين، رغم كل الضغوط والعقوبات التي تعرضت لها إبّان ضمها جزيرة القرم، فانخفضت قيمة الروبل الروسي إلى قرابة 10% فقط، إضافة إلى وصول حلف الناتو إلى خاصرتها الرخوة في أوكرانيا.
وصل الفريق الروسي الاقتصادي إلى دمشق الأحد الفائت، برئاسة نائب رئيس الوزراء يوري بوريسوف، حاملاً مغريات اقتصادية بعشرات المشاريع، بهدف إحياء الدورة الاقتصادية لمواجهة عقوبات قانون قيصر الأميركي، وتبعه في اليوم التالي عرّاب سياسات موسكو الخارجية، بعد أن أرسل مجموعة من الرسائل إلى دمشق خلال الأسابيع السابقة، عبر نشر مقالات لشخصيات تحمل صفة استشارية في وزارة الخارجية الروسية، تنتقد بشدة السياسات السورية الداخلية وتغوّل الفساد الإداري والاقتصادي، والإصرار على عقد اجتماع اللجنة الدستورية قبل الانتخابات الأميركية في فيينا وإيصال الوفد الحكومي إليها، إضافةً إلى الإعلان عن المناورات العسكرية مع تركيا في إدلب بعنوان مواجهة الإرهاب، على الرغم من تعرض دورية روسية لهجوم صاروخي على طريق M4، وإصابة جنديين روسيين بجراح من قبل تنظيمات تدعمها تركيا.
والرّسالة الأهم لدمشق تمثلت في الاتفاق الذي تم بين مجلس سوريا الديموقراطية المتحالف مع واشنطن وحزب الإرادة الشعبية الذي يعتبر بمثابة التوجّه الروسي في المعارضة السورية، ممثّلين بكلّ من إلهام أحمد وقدري جميل. وتعتبر هذه الرسالة تتويجاً لجملة من الضّغوط التي توحي بأنّ هناك تفاهماً ما حصل بين واشنطن وموسكو، ثم يأتي الإعلان عن توجّه سيرغي لافروف إلى دمشق بعد مباركته لاتفاق موسكو.
وعلى الرغم من هذه الرسائل، فإنَّ الوفد وصل مترافقاً مع رسائل تهديد من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي لموسكو، بتحريك الشارع البيلاروسي في وجه رئيسه لوكاشينكو، ما أشعرها بتزايد الضغوط والتهديدات في حال نجح المتظاهرون البيلاروس بإسقاط مينسك؛ حليفة موسكو المتبقّية على حدودها الغربية.
وترافقت تلك الأحداث مع محاولة اغتيال النجم المعارض أليكسي نافالين بالغاز السامّ من قبل أطراف مشبوهة، وضغوطات الإعلام الغربي واتهام موسكو بها، ما دفع الأخيرة إلى إنكار مسؤوليتها عن ذلك، وإرسال المعارض إلى ألمانيا للعلاج لإثبات حسن النية، ولكنَّ التهديدات والضغوط تصاعدت على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كي توقف العمل بخطّ السيل الشمالي الثاني تحت بحر البلطيق، ما دفعها إلى التلويح بإيقاف العمل به.
في هذه الظروف، استقبلت دمشق المأزومة اقتصادياً بفعل الداخل والخارج الوفد الروسي، وهي مدركة أنّ المقترحات التي يحملها لافروف لا تمثل الموقف الروسي بشكل خالص، وإنما تعدّ إطاراً خاصاً للبدء بتسوية دولية تحقق لجميع المتصارعين في الساحة السورية مكاسبهم، وتحقّق للسوريين إيقاف الخسائر، وهذا يقتضي من دمشق أن تغضّ النّظر في هذه المرحلة عن مشكلة إدلب ذات الطابع الدولي، بحكم تواجد المسلّحين التكفيريين الأجانب، وعدم وجود أيّ عمل عسكريّ لفتح الطّريق بين حلب اللاذقية، إضافةً إلى غضّ النظر عن المناطق التي احتلتها تركيا في عفرين وجرابلس ورأس العين وتل أبيض، والتوافق مع الكرد في شمال شرق سوريا، والقبول بالدور الأكبر للفيلق الخامس الذي أنشأته روسيا في الجنوب السوري من مسلّحي المصالحات على الحدود مع فلسطين المحتلة، بما يجعل "إسرائيل" تشعر بالأمان مع ابتعاد القوات الحليفة لدمشق عن منطقتي درعا والجولان المحتل.
تصلّبت دمشق تجاه المقترحات الروسية، وأصرت على موقفها المعارض لأغلب الرسائل التي سبقت وصول لافروف، وهي تستند إلى موقف طهران، اللاعب الأهم في منطقة غرب آسيا، واحتياج موسكو لها في آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق والخليج والبحر الأحمر، إضافة إلى لبنان وغزة اللذين يشكلان تهديداً مستمراً لـ"إسرائيل" مع اليمن.
استطاعت دمشق أن تطوي معظم الرسائل المحمولة مع الوفد الروسيّ بشكل مؤقّت بانتظار توقيع الاتفاق الاقتصادي في كانون الأول/ديسمبر المقبل، وفصلت بين الاتفاق السياسيّ والاتفاق الاقتصاديّ، مع الإبقاء على القنوات مفتوحة مع القيادات الكردية بالحدود الدنيا، بانتظار متغيّرات خارجيّة ذات طابع إقليميّ، إضافةً إلى ما ستتمخَّض عنه الانتخابات الأميركية وتأثيرها في بقاء القوات الأميركية في العراق، ما قد يغيّر المعادلات الإقليميّة لصالح دمشق، ويجعل موقف موسكو أقرب إلى التطابق مع موقفها، ولكن كل ذلك مرهون بإصلاح الوضع الداخلي السوري، وخصوصاً ما يتعلّق بالملفّ الاقتصادي الضاغط على الغالبية العظمى من السوريين الّذين غدوا تحت خطّ الفقر، فهل ستفعل ذلك وتردم الفجوة المتوسّعة بينها وبين السوريين؟