هل يذهب لبنان إلى "اتفاقية باريس" بدلاً من الطائف؟
انفجار حكومة حسّان دياب، على وقع نكبة بيروت، يدلّ على موت اتفاقية الطائف التي أدّت إلى الاهتراء والانهيار. لكن مسار إعادة البناء التي يطمح إليه ماكرون، يفرض عليه تعزيز محور المقاومة في المعادلات الجيوسياسية.
ما عدا الرئيس الفرنسي، الذي يتحدّث عن "ميثاق وطني" جديد، لم يشر أحد من آلاف المحلّلين والخبراء و"النُخب السياسية"... إلى أن انهيار الاقتصاد والسياسة ومؤسسات الدولة اللبنانية هو نتيجة "ميثاق الطائف" وما أسفر عنه لتوزيع نهب المغانم طيلة ثلاثين عاماً.
الأمين العام لحزب الله سبق استنتاج الرئيس ماكرون في دعوته إلى "مؤتمر تأسيسي" منذ منتصف العام 2012. لكن هذه الدعوة أُخذَت إلى سجالات الأزقة اللبنانية المقيتة، ما يدلّ على أن قوى المنظومة السياسية ومناوئيها بارعون في تفصيل ثياب البراغيث، لكنهم أعجز من وضع أصابعهم على جرح منبع الأزمات والانهيار ناهيك بالتفكير في الحلول.
لبنان لن يكون سعودياً أميركياً
استقالة حكومة الرئيس حسان دياب تؤدي إلى تنفيس الاحتقان، لكنها في سياق البحث عن تسوية سياسية كبرى على أنقاض "اتفاقية الطائف" التي أفضت إلى ما أفضت إليه من فساد في نهب الثروة العامة وتدمير مؤسسات الدولة وإداراتها، وإلى القضاء على أسباب العيش وسبُل العمران في السياسة الاقتصادية - الاجتماعية لخدمة مصالح الطبقة السياسية الناتجة عن تسوية الطائف.
لا مؤشّر على أن الحملة الأميركية - السعودية في استغلال نكبة لبنان للتحريض على إيران والمقاومة، يمكن أن تؤدي إلى أن يحل ترامب ومحمد بن سلمان محل الراعي السعودي - السوري لاتفاقية الطائف التي يجري دفنها. وفي هذا الإطار من المستبعد تبوّؤ نواف سلام ومحمد بعاصيري أو أحد من جماعة أميركا الداعية إلى "حكومة حيادية"، محل حسّان دياب. وكذلك من المستبعَد المراهنة على مجلس نوّاب جديد لانتخاب سمير جعجع وأشباهه رئيساً للجمهورية. فموازين القوى الفعلية الداخلية والإقليمية والدولية تميل إلى منحى آخر.
ترامب الذي يتخبّط بأزماته الداخلية، يخنقه فشل التعويل على استسلام إيران والمقاومة تحت وطأة "أقسى العقوبات" والحرب الاقتصادية، وهو ما يفرض تراجعه إلى الوراء أمام معضلة تحسين إيران مواقعها الاستراتيجية بانتظار مصيره في أميركا. وفي المقابل يشتد الخناق على ابن سلمان الذي بات مهدّداً بأزماته في الداخل والخارج ولا يملك القدرة على الحركة أبعد من ارتدادات أزمات خياراته.
بموازاة الشلل الأميركي - السعودي يتيح الإحجام الصيني والروسي عن المغامرة في تعقيدات لبنان وشرقي المتوسط، الفرصة الذهبية أمام الرئيس ماكرون أملاً بعودة فرنسا إلى المشرق العربي بعد اقتلاعها من العراق ثم من سوريا وغيابها عن لبنان نتيجة المراهنة على تدمير سوريا إثر غزو ليبيا.
"إنه الاقتصاد يا غبي"
هذه العبارة التي تسري كيفما اتفق، أطلقها جيمس كارفيل الاستراتيجي في حملة بيل كلنتون ضد جورج بوش القوي عام 1992 وأدّى انتشارها على نطاق واسع إلى سقوط بوش كما يُقال. فالرئيس الفرنسي الذي يطمع بنفوذ وموقع استراتيجي في شرق المتوسّط بمواجهة التمدّد التركي بحثاً عن موارد الطاقة، يأمل ومن ورائه "البنك الأوروبي للاستثمار" اتخاذ لبنان قاعدة انطلاق، لكنه يطمح أبعد من ذلك.
لا يقارعه في لبنان الكثير من المنافسين لخصخصة المرفأ ووضع اليد على الكهرباء والمياه والتنقيب عن الغاز والنفط، ورهن الممتلكات العامة التي يشترط صندوق النقد "استثمارها في صندوق سيادي" مقابل تسييل المصارف في "مؤتمر سيدر" والدول المانحة.. فتبدو "الإصلاحات" الموعودة السبيل الوحيد للإنقاذ من الانفجار والانهيار، وأنها الخيار الأمثل بين هذا النهب المنظّم وبين فجور السلطة والطبقة السياسية في التسيّب والخراب.
فرنسا تصوّب مع أوروبا على إمكانية الاستثمار لاحقاً في "إعادة إعمار سوريا" وفي العراق أيضاً. لكنها تستهدف راهناً بحر الغاز والنفط في شرقي المتوسط حيث يشتد القلق والتوتّر بحسب تعبير المفوضية الأوروبية، بين الأطماع الاستراتيجية التركية وبين استراتيجية الائتلاف الفرنسي - المصري - اليوناني - الإمارتي المناوئ لتركيا.
نحو إطفاء فتائل الانفجار؟
في هذا السبيل يقبل ترامب لجم التوسّع التركي، وربما يعوّل على فرنسا وأوروبا للتهدئة مع إيران التي قلبت مراهناته ضد محور المقومة إلى مأزق. ففشل هذه المراهنات أدّى إلى تخبّط الإدارة الأميركية أمام انتقال إيران إلى الردع الهجومي وإلى تحسين مواقعها الجيوسياسية التي وصلت إلى أميركا اللاتينية في فنزويلا، بدليل إقدام ترامب على مشروع جديد لتعديل صخب العقوبات على إيران.
في هذا السياق اضطر ترامب إلى وقف العمل بمشروع "صفقة القرن" وإلى وقف تصعيد الحرب الباردة ضد إيران أمام مصاعب إنقاذ نتانياهو و"إسرائيل" التي يقوّضها تهديد محور المقاومة وانفجار أزماتها الداخلية.
تأمل فرنسا مع الاتحاد الأوروبي قطف منحى التهدئة الأميركية من أجل تفعيل اتفاقية "أنستيكس" التي عطّلها ترامب مع إيران، كما تأمل تعزيز الجهود الإيرانية وجهود وحزب الله لمنع غرق لبنان في مآسي الانهيار والانفجار.
في هذا الإطار تعمل فرنسا بقبول أميركي حتى الآن، مع طرف ائتلافها المصري على تفكيك جموح المجموعة السعودية - الأميركية من أقطاب المنظومة الطائفية ومناصريها من المنظمات غير الحكومية.
هذه الجماعات التي تخوض معركة في سياق الحرب الأميركية - الإسرائيلية - السعودية ضد المقاومة وإيران، تراهن على استغلال نكبة لبنان في تفجير المرفأ نحو الفتنة وإشعال فتيل الحرب بدعوى مسؤولية حزب الله عن الانفجار ومسؤوليته عن خراب الدولة والانهيار السياسي والاقتصادي "خدمة لإيران".
في المقابل تنجح المساعي الفرنسية - المصرية وربما بتغطية إماراتية مع ابن سلمان، بتعطيل فتيل الانفجار الأمني في إبطال مطيّة الدعوة إلى "تحقيق دولي" عبر انخراط مصر وفرنسا في "الدراسة العلمية" بمشاركة روسية وبريطانية ودولية لمساعدة الجيش اللبناني في تقنيات التحقيق.
على الصعيد السياسي من المتوقع نجاح الجهود والمساعي لوقف المراهنة على إسقاط شرعية مجلس النواب تمهيداً لمعركة نزع شرعية رئاسة الجمهورية، للاستثمار السياسي في الخراب والفوضى الأمنية. فما يعبّر عنه رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط بشأن المشاركة في "حكومة جامعة"، دليل على سقوط مراهنات الانفجار وسقوط المراهنة على الحرب ضد إيران والمقاومة.
توافق الطبقة السياسية على إطفاء فتيل الانفجار والذهاب إلى حكومة وحدة وطنية من أجل تنفيذ "الإصلاحات"، لا يضمن العبور إلى برّ الأمان سواء بشأن النجاح بتأليف الحكومة أم بشأن طيّ مرحلة مأساوية طويلة شبّت عليها الطبقة السياسية وشابت فازدادت في غيّها نتيجة غياب الراعي الذي تحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة.
لعل فرنسا تطمح إلى احتلال فراغ الراعي في حديث رئيسها عن "ميثاق جديد" وإصلاح النظام. فهي بحسب ألفبائيات الذهاب إلى حلول سياسية لأزمة النظام ومنظومة الحكم، تحاول إمساك الثور من قرنيه لإصلاح منبع الانهيار والخراب.
في هذا الاتجاه تسعى المساعي الفرنسية إلى سحب الفتيل من الشارع وإطفائه على طاولة المشاركة في السلطة. ولهذا تعمل على تعزيز وجودها عبر تسليم بعض جمعيات المجتمع المدني وبعض الجماعات الداعية "إلى محاربة الفساد"، القدرات المادية ومساعدات الإغاثة والعمل مع الأمم المتحدة.
وفي هذا الاتجاه نفسه تتوخّى فرنسا امتصاص موجة المراهنة على الفيدرالية، عبر إجراءات الاصلاح السياسي في النظام والميثاق الوطني على غرار ما يُعرف في فرنسا بمجالس المحليات واللامركزية الإدارية الموسّعة.
وربما تعتقد فرنسا أن المرحلة الانتقالية تصطدم بمأزق الاتفاق على قانون انتخابات برلمانية تؤدي إلى العبور الآمن نحو انتخابات رئاسة الجمهورية في حينها. وهو ما يحتاج في أغلب الظن جهود الأمم المتحدة وجهود إيران وحزب الله لتعديل "ميثاق الطائف" على الأغلب في باريس إذا لم ينقلب ترامب على منحى التهدئة وتنقلب معه السعودية في المراهنة على مغامرة عدوان إسرائيلي مفاجىء.