لعبة الورق الأميركية في سوريا ولبنان
يستحق الأمر أن نفرد مساحة مخصصة للدولار في جانب الثقافة ولكننا هنا سنخصص المساحة لعالم الاقتصاد والسياسة، ومحاولات ضرب المحاور المعادية للسياسة الأميركية عبر تأثير الورقة الخضراء.
قد يتساءل البعض عن مكمن قوة الدولار كأداة للهيمنة، وعن القوة التي تمتلكها الورقة الخضراء في محاولة الهيمنة على العالم . ربما نحن لا نبالغ عندما نقول إنها أدت مهمات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، وقدمت خدمات للإمبريالية الأميركية وللسينما والمنظمات غير الحكومية والقصف والاحتلال.
يستحق الأمر أن نفرد مساحة مخصصة له في جانب الثقافة (ثقافة الدولار) ولكننا هنا سنخصص المساحة لعالم الاقتصاد والسياسة، ومحاولات ضرب المحاور المعادية للسياسة الأميركية عبر تأثير الورقة الخضراء.
عن هيمنة الدولار والتجارب السابقة
بعد تدمير أوروبا واليابان في الحرب العالمية الثانية، تمكنت قطاعات الإنتاج الأميركية من غزو الأسواق في ظل انشغال الكتل الرأسمالية الكبرى في التعافي من الآثار المدمرة للحرب، وتمكنت في ظل هذا الانشغال وتراجع الإنتاج الأوروبي، وتكثيف الوجود العسكري في العالم، من فرض التبادل عبر الدولار (الذي كان مرتبطاً بالذهب إلى لحظة فك الارتباط في السبعينيات).
بعد التعافي الأوروبي والياباني، كان قطار الورق قد فات، وكانت 7 دول تستخدم الدولار كعملة رسمية، وأكثر من 85 دولة تربط تجارتها بالدولار الأمر الذي يعني أن العامل المالي الذي فرضه السلاح، نما كعامل ضغط مستقل على أسواق العالم واقتصاداته، وليس هنالك من دالة على ذلك أكثر وضوحاً من المقاربة بين الإنتاج الأميركي من جهة وحجم استخدام الدولار من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تستحوذ على 22% من الإنتاج العالمي، يشكل الدولار 63% من احتياطات البنوك المركزية في العالم، و90% من تعاملات فوركس و40% من ديون العالم. يمكن القول إن وزن الدولار مقابل وزن الولايات المتحدة الإنتاجي في العالم غير متماثل؛ فالقيمة الاقتصادية التي يمتلكها الدولار هي نتيجة تاريخية وتراكم معايير سابقة غير متناسقة مع قيمة الولايات المتحدة الأميركية إنتاجياً في عالم اليوم.
فيما تحتاج دول العالم الى رفع مستوى صادراتها للحصول على العملة الصعبة كي تتمكن من شراء احتياجاتها الأخرى، سواء الاستهلاكية منها أو التي تدخل في عمليات إنتاج سلع أخرى؛ في الوقت نفسه لا تضطر الولايات المتحدة الأميركية لكل ذلك، على الرغم من أنها تعاني عجزاً في حسابها الجاري (الفرق بين صادراتها ووارداتها) حيث بلغت صادراتها 1.65 تريليون دولار مقابل 2.52 تريليون دولار لوارداتها ، لكنها لا تخضع للشروط نفسها التي يخضع لها باقي دول العالم في الحصول على الدولار، لا لشيء إلا لأنها تمتلك المطبعة والحبر.
في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ السابقة (من الحرب العالمية الثانية إلى سيطرة الدولار)، تحاول أميركا استخدام سيطرة الدولار في الحروب وإثارة الاضطرابات وزعزعة الأنظمة السياسية. إنها تنطلق في ذلك على محورين: الأول محاولة تجفيف احتياطي الدولار في البلد الذي تريد تدميره، والثاني منعه من الحصول على السلع التي تلزمه من السوق العالمي، من دون مراقبة العمليات المالية في العالم.
إن ما يجري يشبه رمي الصنارة لاصطياد الأسماك، وهذا ما تفعله البنوك العالمية بالتنسيق مع الإدارات الأميركية بالضبط؛ إنها عندما تمنح الأموال وتخفض سعر الفائدة، يشعر الناس بالرخاء النسبي وتزدهر الاقتصادات الصغيرة، وترتفع شعارات التأييد للحكومات (fishing in). وعندما تحين اللحظة المناسبة (المزيد من الأرباح لرؤوس الأموال، الرغبة في زعزعة نظام سياسي ما) تسحب الصنارة ببساطة؛ وكثيراً ما يكون ذلك بمساعدة رجال الأعمال في الداخل (fishing out) فتغضب الجماهير، وتعم الاحتجاجات، ويصبح الدولار سلعة نادرة مرتفعة السعر، ما يخفض العملات المحلية ويولّد التضخم.
أطلقت أميركا هذه الحروب ضد كوبا وفنزويلا وإيران؛ ففي كوبا التي عزلت نفسها بالمطلق عن الدولرة، وكانت تتبادل تجاريا مع منظمة الكوميكون، اضطرت الدولة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية لأن تصرف الدولار عام 1993 للمرة الأولى منذ انتصار ثورتها عام 1956، ووجدت نفسها في ساحة المواجهة ذاتها. المنهج نفسه يتكرر في العقوبات المفروضة على فنزويلا وإيران. إن التجارب المقاومة الثلاث تجد نفسها محتاجة لرفع نسب الإنتاج الداخلي، أو البحث عن تبادلات بوسائل أخرى (المقايضة كما يحدث بين الصين وإيران)، أو الاستفادة من محاور صديقة كنافذة على النظام المالي المدولر.
لكن، هل ينطبق ذلك على سوريا ولبنان أيضاً؟
لبنان وسوريا
تباينت الإحصائيات المتعلقة بحجم الودائع السورية في البنوك اللبنانية بين 24-28% (بعض الدراسات تحدث عن 45 مليار دولار) وشكلت الحوالات المالية ما يقارب 19% من الدخل في سوريا في أزمتها. يتواجد في لبنان قبل بداية الحرب على سوريا – بحسب منظمة العمل الدولية – نحو 300000 سوري، وبعد الأزمة أصبحوا مليون ونصف. كل ذلك شكل حصة جيدة وكافية لإثارة شهية الحرب الأميركية.
عودة إلى الصنارة وثمار سحبها لإحداث التوترات السياسية (fishing out). فقد بدأت الولايات المتحدة الأميركية، وبالتعاون مع وكلائها الداخليين في لبنان، بنقل أرصدة الدولار من البنوك اللبنانية، وفي ذلك محاولة لتجفيف أرصدة الدولار فيها، الأمر الذي سيرتد على الاقتصاد السوري من ثلاث جهات: إغلاق النافذة على العالم المدلور، وتجميد أموال السوريين التي بقيت ولم تنتقل من البنوك اللبنانية على شاكلة أموال الوكيل الأميركي، وقطع الطريق على حوالات العاملين السوريين في لبنان.
لا تختلف المسألة في جوهرها عن الحرب الاقصادية التي شنت على كوبا وفنزويلا وإيران، فالهدف الذي جمع بين كل المحاولات هو تجفيف أرصدة الدولار وحجب التبادل، ولكن ما يختلف في الحالة السورية المزاوجة بين الحرب المباشرة (قانون قيصر المطبق فعلياً منذ عقود) والضرب في الخاصرة (الأزمة اللبنانية)، وفي السياق نفسه تأليب الجمهور اللبناني ضد مشروع المقاومة "لاعتباره السبب في الضائقة المالية" تماماً كما تم تأليب الشعب الإيراني على النظام بحجة الفشل في التعامل مع ملفات اقتصادية مثل التضخم، وتأليب الشعبين الفنزويلي والكوبي على النظام بحجة الفشل في تأمين السلع الأساسية!
إن ما يجمع بين الحروب التي شنت على التجارب المقاومة في كوبا وفنزويلا وإيران وسوريا ولبنان هو تأليب الجمهور في المسار الخاطئ؛ فالمسبب الرئيسي للفعل (صاحب الصنارة) هو الخصم الواقعي، و"المتهم" هو الحليف الحقيقي.
من المؤسف أن يصبح اصطياد رأس الأفعى صعباً إلى هذا الحد!
هل ثمة حل؟
الدولار ليس قدراً نهائياً فبعدما حكم الجنيه الاسترليني 60% من مجمل التبادلات التجارية في العالم، انسحب ليترك الساحة للدولار الأميركي، بعدما انسحبت بريطانيا من مستعمراتها وتراجع موقعها السياسي والإنتاجي والتجاري.
تقف أميركا على حافة مشابهة، تراجع في الإنتاج مقارنة بوزن عملتها، وانهيار منظومة السيطرة العسكرية المطلقة، ونمو حالات مقايضة جديدة، ورغبة في بناء سلال العملات، أو التبادل في العملات المحلية، ووصول 4 بنوك صينية إلى المراكز الأولى في العالم.
ثمة فرصة تاريخية لمشاريع المقاومة في العالم، وعلى الجمهور ألا يفوتها بتصويب السهم على الطرف الخطأ!