كيف بنى ريغان- تاتشر العولمة النيوليبرالية؟
أزمة كورونا العالمية تكشف نذراً من توحّش العولمة النيوليبرالية، ولا يزال الكشف عن نتائجها المأساوية في البداية، لكن كيف حملها ريغان ــ تاتشر إلى الحكم العالمي؟ وما هي إيديولوجيتها؟
انهيار القطاع الصحي أمام الجائحة في الدول الغربية هو عيّنة من النتائج المعادية لإنسانية الجنس البشري، والتي أدّى إليها تخلّي الدولة عن القطاعات العامة الحكومية وتسليمها لاستثمار الرأسمال الكبير، فهذه العيّنة تدلّ على ما آل إليه هدر الحقوق الإنسانية والاجتماعية بعد تبنّي الحكومات الأوروبية النموذج النيوليبرالي الأميركي، الذي يعتمد على "تشجيع حرّية الاستثمار" في التعليم والطبابة والمأوى والمياه والضمان الاجتماعي والأمن الغذائي، وغير ذلك مما كان يُعرف في الدول الديموقراطية بالحقوق الإنسانية المكتسبَة.
هذا التحوّل هو بدوره وجه من أوجه إيديولوجية التوحّش المعادية للحياة الآدمية، في نظرتها إلى أن سوق التجارة الحرّة والعملة الصعبة هما هدف الوجود والكائن البشري (نظرية العملة في الاقتصاد الحرّ، ميلتون فريدمان، جامعة شيكاغو، 1956)، فهي ترى سعادة الإنسان في "تنعّمه" باستهلاك كميّات السلع لإشباع حاجات الشركات في السوق، وأن الإنسان نفسه هو مجرّد مادة خام في خدمة حرّية الرأسمال، وكذلك ثروات الإنسانية الثقافية والحضارية والثروات الطبيعية، ولا سيما المياه والمناخ والبيئة والأرض... فما تسمّيه إيديولوجية التوحّش "السعادة والحرّية" هو تمجيد لكلّ برّي قبيح في العالم والكون.
هذه الإيديولوجية كانت متداولة في أوساط ضيّقة في كل الدول الأوروبية الغربية والشرقية منذ القرن السابع عشر، لكن وصول تاتشر وريغان إلى الحكم، حملها إلى دوائر القرار في الحكومات والمؤسَّسات والمنظومة الدولية.
مدارس "إيديولوجية - اقتصادية" في سبيل عولمة التوحّش
النموذج الأميركي هو نيوليبرالي بالولادة القائمة على الحريات الفردية المستمدّة من حرّية أفراد العرق الأنكلو - ساكسوني الأبيض، في استئصال السكان الأصليين واستباحة أرضهم. وعلى قاعدة الحريات الفرديّة، شيّد النموذج صرح "الحلم الأميركي"، في استناده إلى الاستثمار المالي في الحقوق الإنسانية والخدمات الاجتماعية، وإلى تكتلات (لوبيات) المصالح الخاصة في المنظومة السياسية، فخلافاً لديموقراطية الدولة الأوروبية التي كانت قائمة على إعاقة حرية الرأسمال الكبير في مراكزها، من أجل حماية الديموقراطية الاجتماعية التي تتولاها الدولة في القطاعات العامة الحكومية، لم يعرف النموذج الأميركي قطاعات عامة حكومية في الخدمات الاجتماعية والحقوق الإنسانية وغيرها.
الكينزية التي تبنّاها روزفلت بين الحربين لم تذهب أبعد من تدخّل الدولة في منشآت البنية التحتية من أجل التحوّل إلى الحرب والصناعة الحربية، لكن تدخّل الدولة لم يعمّر طويلاً، إذ طوَته "عقيدة ترومان" إثر انتهاء الحرب العالمية في العام 1947، لدى إطلاق الحرب الإيديولوجية في ترويج الحريات الأميركية "لمواجهة الاستبداد الذي يهدّد السلم العالمي"، بحسب ترومان. وفي هذا الإطار، نشأت مدارس إيديولوجية ومراكز قوى عديدة، أهمها اثنتان:
أ ــ تكلّفت وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إي" بإنشاء "المؤتمر من أجل حرية الثقافة" (كونغرس فور كولتوريل فريدوم)، الذي أطنبته قيادة الاستخبارات بعد حظره في فرنسا العام 1967، "بأنه أعظم إنجاز في تاريخ الحرب الباردة"، فأسّست الوكالة مؤتمرها عبر تنظيم مجموعة من المنشقين عن الشيوعية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، أبرزهم إيفرينغ كريستول (تحقيق "نيويورك تايمز"، 23 نيسان/أبريل 1966).
لكن خلايا المؤتمر ومكاتبه توسّعت إلى 35 بلداً، مسلّحة بعشرات المجلات "الأكاديمية" والهيئات الإعلامية و"الثقافية" التحريضية، التي جمعت حولها تيّارات واسعة من المثقفين المعروفين الذين كان بعضهم معادياً للإمبراطورية الأميركية، مثل برتران راسيل، ومن بينهم عالم الاجتماع المعروف ريمون آرون، الذي ينفي في مذكراته معرفته بصلة المخابرات التي تموّل مجلته "إثباتات"، تحت إشراف مسؤول "سي آي إي" الإقليمي في ألمانيا الغربية مايكل جوسّيسون (ريمون آرون، مذكرات، روبير لافون، باريس، 2003).
هذا التيار الإيديولوجي الواسع أرسى النواة الأولى لما بات لاحقاً ثقافة سياسية شائعة، بل "ثقافة حضارية" باسم "مكافحة الاستبداد"، التي تنخرط فيها مجموعات وتيّارات كثيرة، يتخيّل بعضها أنه يدافع عن الديموقراطية الليبرالية، لكن مقولة "الحرّيات الفردية ضد الاستبداد" نيوليبرالية، وليست ليبرالية كلاسيكية، تنبع من إيديولوجية تصبُّ، عن دراية أو من دونها، في طاحونة غابة التوحّش المعولَم، وتغذّي التعمية عن الحقوق الوطنية والجيوسياسية في العالم الثالث، وعن قضايا الديموقراطية الاجتماعية والحقوق الإنسانية.
هي تلغي فكرة الدولة من أساسها، التي وُجدت لتقييد الحريات الفردية من أجل تنظيم ذئبية الغابة (توماس هوبز 1588 - 1679)، وتطوي دور الدولة الديموقراطية ومسؤوليتها في إرساء السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية، وتقضي على دورها الأساس الناظم لتوازنات المصالح المتباينة بين الفئات الاجتماعية، التي تُنتج مصلحة وطنية عليا في السياسة الوطنية وفي السياسة الاقتصادية - الاجتماعية.
ب ــ وفي هذا السياق، نشأ مع "عقيدة ترومان" في العام 1947، على الهضبة السويسرية، "مجتمع مون بيلران"؛ الأب الروحي "لمنتدى دافوس" وعلى شاكلته.. فضمّ 36 شخصية نال معظمها جائزة نوبل في الاقتصاد، على رأسهم ميلتون فريدمان وفريدريك هايك وجورج ستيغلر وموريس ألياس، ثم توسّع سريعاً في العام 1950 إلى 21 دولة، لكنه جمع في منتدياته حوالى 100 معهد نيوليبرالي من المدرسة النمساوية في أوروبا الوسطى، ومدرسة شيكاغو، والمدرسة الألمانية، ورؤساء البنوك والشركات الكبرى والكوادر ذات الإرث الكولونيالي... فأفاضوا بالتمويل والتوزيع، واستثمروا في النشاطات "الفكرية" والثقافية والفنية والموسيقية والأدبية، من بينها حملة إعلامية واسعة لحرمان بابلو نيرودا من جائزة نوبل في العام 1963.
الإيديولوجية الجامعة لهذا "المجتمع" حملها ما يسمى "المركز الدولي للدراسات من أجل تجديد الليبرالية"، الذي استند إلى التوجهات "الإيديولوجية ــ الاقتصادية" المشتركَة التي عظّمها هايك في كتاب "طريق العبودية ودستور الحرّية"، فهو يرى أن العبودية تجسّدها دولة الرعاية الاجتماعية التي تلبي طموح الإنسان للحماية من الخوف وإشباع الحاجات بغير استهلاك السلع التجارية. لذا، يدعو هايك إلى "الحرّية" بهدم كل ما يقيّد حرّية الأفراد من أن يلقوا مصيرهم إذا اختاروا "الكسل" والجوع والبطالة والموت.
كما يدعو الدولة إلى المساعدة في تحقيق الغرائز البرّية، عبر هدم كل تعبير عاقل لتنظيم الجماعة من دون شفقة في محاربة الاتجاهات الإنسانية، سواء كانت سياسية أم روحية وأخلاقية.... ويقتضي هذا الأمر، في رأيه، تشجيع حريات السوق واستثمار الشركات العملاقة في الكون، "لكي تنهض بمسؤوليتها الاجتماعية، وهي تحقيق الأرباح"، كما يقول.
إيديولوجية هذه الغابة المتوحّشة ترتكز على ما تسميه "الاقتصاد الحر المتجدّد"، فهي تختلف عن كل الإيديولوجيات الأخرى، بما فيها الإيديولوجية الليبرالية الديموقراطية، في ذهابها مباشرة إلى الإجراءات التنفيذية في موقع القرار السياسي نحو عولمة التوحّش. وفي هذا السبيل، تعتمد على تربية الكوادر التنفيذية التي أصبحت شائعة بمّا يسمى "الخبراء والتكنوقراط"، فتؤمّن لهم دعم مراكز النفوذ في الطبقة السياسية والاقتصادية، لتنصيبهم في مواقع تنفيذ السياسات والإجراءات النيوليبرالية.
ولا تضيّع وقتها في بحث الإشكاليات الوجودية والفكرية والسياسية، بل تنطلق من معتقدات جاهزة وأحكام مسبقَة، كمقولة "موت الإيديولوجيات"، من دون تبرير وبحث علمي وفكري وأكاديمي، لكنها تستثمر في"بيوتات الخبرة" وشركات التسويق لترويج مقولاتها الشعبوية في السوق كأي سلعة استهلاكية، ثم تسري أحكامها المعدَّة للاستهلاك السريع كالنار في الهشيم، بصفتها خيراً مطلقاً "أعلى من الإيديولوجيات". وفي هذا الإطار، تسري دغدغة الأحلام الطوباوية المغرية بسردية الفرد "المبدِع" وأعاجيب الاقتصاد النيوليبرالي (حرية السوق والتجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي والتصدير من أجل العملة الصعبة...)، بصفتها مسلّمات لكل نشاط "ديموقراطي" أو اقتصادي.
على الرغم من انصراف "مجتمع مون بيلران" إلى تربية التكنوقراط "وخبراء الاقتصاد" النيوليبرالي وشركات التسويق الإيديولوجي، فقد ضمّ بين صفوفه أساتذة جامعيين في معظم المجالات، ومن ضمنها تعليم الفلسفة. وقد تناولوا بشكل أو آخر تمجيد معتقدات التوحّش "قيَماً عليا".
لكن لويس روجيه (1889 ــ 1982)، أنشطهم وأبرزهم في التعبير عن تفوّق العنصرية البيضاء كأحد أوجه العولمة المتوحّشة، يقول: "الانتقاء الطبيعي أثبت أن عقلية العرق الأبيض هي الأكثر تطوّراً منذ ثورة غاليله... (وفي بيت القصيد يقول) هي ضمان سيطرة الإنسان على الطبيعة، وضمان نجاح شركاته". (لويس روجيه، عبقرية الغرب، روبير لافون، باريس، 1976).
من الإيديولوجيا النيوليبرالية إلى سيطرة التوحّش
بين الأعوام 1973 ــ 1975، برزت في أميركا وبريطانيا أزمة الرأسمالية العالمية القصيرة، فانتشرت "الأحزمة الصدئة" على أراضي مصانع الفولاذ والسفن ومناجم استخراج الفحم والصناعات الثقيلة الأخرى، لكن هذه الأزمة عزّزت نفوذ مراكز "الخبراء" وبيوتات الخبرة والترويج والتسويق... بتمويل سخي من الشركات الصناعية الكبرى والمؤسسات المعروفة، من مثل "فورد" و"فوكلر" و"روتشيلد"... المدعومة من إدارة الدولة وصناديقها.
شركة "جنرال إلكتريك" تستقطب وتوظّف الكوميدي رونالد ريغان الذي وصل إلى الرئاسة في العام 1980. وبالتوازي، تموّل مؤسسة "وليام فولكر فوند" وظيفة وأعمال فريدريك هايك (1899 ــ 1992) لإدارة مدرسة شيكاغو، من أجل تموين إدارتي ريغان وتاتشر بمجموعات "الخبراء" الذين عزّزت تاتشر سطوتهم فور وصولها إلى الحكم قبل ريغان بسنة.
أميركا هي التي مهّدت الأرضية لعولمة التوحّش في العام 1947 في "عقيدة ترومان" وفي القمع المكارثي (جوزيف مكارثي في العام 1950)، الذي امتدّ تنكيله إلى شارلي شبلن عبر "محاكم التفتيش" بحرق 30 ألف كتاب علمي وأكاديمي، وصولاً إلى عهد ريتشارد نيكسون في العام 1971، لكن ميلتون فريدمان (1912 ــ 2006) حقنها بالمقوّيات الاصطناعية، نتيجة نشاطه المميّز في أعمال الاستخبارات الأميركية وإعداد "الخبراء" في جامعة شيكاغو.
في المقابل، أدى فريدريك هايك الدور المؤثر في تربية تاتشر الجامعية وإشرافه على تعليمها الجامعي. ولم تقتصر طموحات هايك على وصول ريغان وتاتشر إلى الحكم، بل وظّف إرث "مجتمع مون بيلرين" في تنظيم الفِرَق اللولبية التي وظّفتها تاتشر في التنسيق المشترَك بين بريطانيا وأميركا للغزو الإيديولوجي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، في سبيل عولمة التوحّش.
انتقى ريغان كوادر إدارته من أجهزة الاستخبارات أو من الشركات الكبرى الساعية لغزو الأسواق وعولمة التوحّش، فوزير الخارجية جورج شولتز، على سبيل المثال، جاء به من شركة "بكتل"، وجاء بجيمس بيكر من وزارة الخزانة التي تزعّمها النيوليبرالي المحارب بول فولكر. وفي هذا السياق، احتضنت إدارة ريغان معظم الذين عُرفوا في ما بعد باسم "المحافظين الجدد"، أمثال ريتشارد بيرل وديك تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز... في إطار الحرب الإيديولوجية على "التوتاليتارية" في الاتحاد السوفياتي والتهديد "بحرب النجوم"، من أجل "نموذج الأسواق الحرّة وتعميم الديموقراطية"، بحسب تعبير ريغان في جامعة موسكو في العام 1988.
تاتشر سبقته على "مكافحة الاستبداد" في التصويب على أوروبا الشرقية، اعتماداً على "مؤسسة أولن" في ألمانيا، واعتماداً على الكنيسة في بولندا، الداعمة لحركة ليش فاليسا "سوليدارنوك"، ما أدّى إلى سقوط جدار برلين، لكنه أدّى لاحقاً إلى بناء الجدران في أميركا و"إسرائيل"، عدا عن الجدران الافتراضية السميكة. وفي السياق، عزّزت نفوذ حلقات هايك في دعم مؤسسات الترويج والتسويق الإيديولوجي، أمثال "أنتربرايز أميركان" و"هيرتيج فوندايشين" ومعهد الشؤون الاقتصادية...
في إطار مساعي عولمة التوحّش، خردقت تاتشر مع ريغان المؤسسات والهيئات الدولية "بالخبراء" وكبار الإداريين. وإلى جانبهم، أطلقت العنان لفقاعة جماعات الضغط المعروفة باسم "ثينك تانك"، التي كانت باكورتها في بريطانيا "معهد الاقتصاد والأعمال، وآدم سميث أنستيوتت"...
ابتدعت تاتشر طريقة تفريغ الدولة من داخلها، في اعتماد إدارات الدولة ومؤسساتها على "المستشارين" من "الخبراء والتكنوقراط"، الذين باتوا طريقة شائعة في عمل كل الحكومات تقريباً، وكان أبرزهم مستشارها الاقتصادي "كيث جوزيف"، بصفته تلميذ هايك النجيب. وإلى جانب ذلك، نظّمت وعمّقت التحريض الإيديولوجي عبر ما يسمى "مراكز الأبحاث ودراسة السياسات" التي نشرها هايك ــ تاتشر لتفتيت أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق، ففرّخت ووصل منها استنساخ إلى العالم العربي في العام 2011، لتفتيت دول المنطقة عبر ترويج الديموقراطية النويوليبرالية والحريات الفردية، بدعوى "محاربة الاستبداد".
أزمة كورونا توجّه صفعة ثقيلة إلى أوهام منظومة التوحّش النيوليبرالي، التي تعترضها تحوّلات لم تتضح أبعادها ومآلاتها بعد، وهي فرصة ثمينة للبدائل والحلول، في سبيل إعادة بناء الدولة في بلادنا على أسس الديموقراطية الاجتماعية في مواجهة التوحّش النيوليبرالي. ولعل أهمها في هذا السبيل العمل على إرساء منظومة التعاون والتكامل في المنطقة، من أجل منظومة إقليمية ناهضة في مواجهة التفتيت والدمار، عمادها الترابط بين المقاومة الوطنية والمقاومة الاقتصادية- الاجتماعية والمقاومة الإيديولوجية.