نظرية "المؤامرة" في أزمة كورونا.. الإعلام في خدمة السياسة
السلوك البشري للقادة والزعماء والرؤساء يفرض عليهم الركون إلى نظرية المؤامرة، لمُمارسة الضَبْط والسيطرة على مُجتمعاتهم ودولهم في الدرجة الأولى.
شهدنا خلال الأسابيع الماضية لجوء قوى دولية إلى إطلاق اتهامات مباشرة إلى بعضها البعض، في سياق تحميل المسؤولية عن "تطوير" فيروس كورونا المُستجد و"صناعته" و"نشره".
على المستوى الأول، كان هذا الأمر مُتوقّعاً ومفهوماً بالنسبة إلى علماء النفس السياسيين والمُختصّين في عِلم النفس عموماً.
السلوك البشري للقادة والزعماء والرؤساء يفرض عليهم الركون إلى نظرية المؤامرة، لمُمارسة الضَبْط والسيطرة على مُجتمعاتهم ودولهم في الدرجة الأولى.
يستلزم تحقيق السيطرة الاجتماعية إعطاء تفسير للشعوب كي "تهدأ". من هذا المُنطلق، لا ضَيْرَ في اتهام "الآخر الشرّير" وتشويهه وتحميله المسؤولية عن كل ما يحصل في العالم.
ينطبق هذا الفعل على جميع الحكومات من دون استثناء، حتى لا نخوض في تسمية إحداها دون الأخرى.
حريّ بقادة العالم الدعوة إلى التعاون وتحييد الصراعات السياسية جانباً، بدلاً من تعزيز الاتهامات السياسية، وتأليب الشعوب على بعضها البعض، وبثّ روح "التمييز العنصري" والتقاتُل على شحنات الكمّامات العابِرة للحدود.
على المستوى الثاني، يُساهم الإعلام نفسه للأسف في نَشْرِ نظرية المؤامرة وتعزيزها لأسبابٍ بنيويةٍ في طبيعة المهنة. العاملون في الإعلام هم ضحية للاختصاص نفسه. فكما تعلمون، نتعرَّض كإعلاميين وصحافيين لدَفْقٍ دائمٍ من الأخبار – مُعظمها سلبي – طوال الوقت. غُرَف من الأخبار تتلقّى سيلاً من السلبية على مدار الساعة من دون انقطاع.
قلّة يلحظون تأثير ذلك في السلوك النفسي للإعلاميين والصحافيين، لكن بإمكانكم مُلاحَظة السِمات الشخصية العامة لدى الغالبيّة المُنتمية إلى هذه الشريحة، تقلّب واسع في المزاج لدى الكثيرين من الإعلاميين، انفعالات حادّة على الهواء، ومُفردات ومُصطلحات لا تليق بعقلٍ هادئ.
هذا يُفسِّر أيضاً اختلاف الإعلام ما بين المناطق المُضْطَرِبة في العالم والدول "الهادئة". أعني بالدول الهادئة النرويج وهولندا وسويسرا على سبيل المِثال.
وبما أن الإعلام في العالم يتعامل مع السياسة بشكلٍ مباشر، فهو يتأثّر - شاء أمْ أبى - بما ينتج منها، بل يصبح إحدى قنوات السياسة لتمرير نظرية "المؤامرة"، ولو عن غير قَصْد. تلحظون في بعض وسائل الإعلام كثرة العناوين الجذَّابة هذه الفترة بشكلٍ أعلى من المُعتاد، وميل هذه الوسائل إلى الإثارة أكثر في تغطية أخبار كورونا، بدلاً من التركيز على مُساعدة الجمهور على الوقاية نفسياً وجسدياً، وإطلاق مُبادرات وأفكار لمُساعَدة الناس على الصمود.
على المستوى الثالث، هناك تغيّر كبير يشهده العالم بسبب كورونا وما أفرزه من أزمة اقتصادية وأمنية واجتماعية عالمياً. تحتاج الأنظمة السياسية إلى استخدام "الأخبار الزائِفة"، وأحد أشكالها نظرية "المؤامرة"، لتُعيد رَسْم عالم ما بعد كورونا.
ليس من المُبْكِر أبداً التفكير في عالم ما بعد الوباء، بل إن البشرية في سباق مع الزمن لتصل إلى نظامٍ مُستقرّ، وهو تحدٍ ليس سهلاً، في ظلّ تعقّد شكل النظام العالمي الراهِن، وتداخُل عناصره، وتضارُب مصالح اللاعبين الأساسيين فيه.
تؤدي الطَفْرة المعلوماتية دوراً مباشراً أيضاً في تعزيز الاستخدام السياسي لنظريّة "المؤامرة". شاهدنا في الأيام الماضية كيف لوّح إعلاميون مشهورون في العالم العربي بأوراقٍ أبحاثٍ علميةٍ على أنها دليل على أن كورونا موجود منذ أعوام طويلة، وأنه صناعة أنظمة سياسية. في الواقع، أحد أكبر التحديات التي تواجهها البشرية في المدى القريب هو في فَهْم المعلومات، لا الوصول إليها فقط.
لا حاجة للتفسير أن الإعلاميين الذين روَّجوا لتلك الوثائق لم يفهموا أساساً مضمون الأوراق العِلمية، وأن المهنية الإعلامية تفرض عليهم إيصال رأي الاختصاصيين والعُلماء، لا تقديم التفسير بأنفسهم. هذا يُعطي المجال للسياسيين أيضاً لتقديم تفسيراتهم واستغلال العِلم والاختصاص في غير محله.
يطول الحديث عن الاستخدام السلبي السياسي لأزمة كورونا ونظرية "المؤامرة"، ولكن الأهم هو أن نرتقي جميعاً كمُتلقّين ومُسْتَهْلكين للأخبار والمواقف السياسية إلى مستوى التمييز ما بين الحقيقي والزائِف منها.