"مبادرة بايدن": إقرار بالفشل فيما حاصل جمع "مأزومَين" لا يُنتج انفراجاً
مبادرة بايدن، مفخّخة بالثقوب السوداء، ولك أن تقول فيها ما تشاء، ولكن يخطئ من لا يرى فيها "نصراً للمقاومة"، وإقراراً بفشل وهزيمة المرامي البعيدة والأهداف الكبرى، للشريكتين في حرب التطويق والتطهير والإبادة في غزة.
"الفشل"، وليس "الخداع"، هو أبرز ما ميّز ويميّز مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن للتهدئة ووقف الحرب وتبادل الأسرى في قطاع غزة... لا يعني ذلك للحظة أنها ليست مبادرة مخادعة بأي حال، فصياغاتها العمومية والفضفاضة، والشروحات التي أضفاها الناطقون بلسان الإدارة عليها بعد إطلاقها، وتصويبهم القصديّ على حماس والمقاومة، جميعها عناصر أساسية في "المبادرة وما بعدها"، تدفع على القول إن واشنطن ما زالت تمارس ألاعيب الخداع والتضليل، وإنها جاهزة كعادتها، لتبنّي التفسيرات والشروحات الإسرائيلية، بل وقابلة للانتقال سريعاً إلى ضفاف "الرواية الإسرائيلية" بلا قيد ولا تحفّظ، لذا فالحذر واليقظة واجبان.
لكننا ونحن نقول ذلك، ونحذّر ككثيرين غيرنا من مغبّة الوقوع في الشرك والسقوط في الخديعة، لا يسعنا سوى أن نشدّد على أمرين اثنين: الأول؛ أن المقاومة، قيادة سياسية وميدانية، أنضج من أن تقع في الفخ، مهما كان منصوباً بإحكام، فنحن اليوم، لسنا في زمن أوسلو ولا في أيام طابا... والثاني؛ أن المبادرة المذكورة، تشفّ عن الفشل الذريع الذي منيت به الحليفتان الاستراتيجيتان، واشنطن و"تل أبيب"، في تحقيق أهداف هذه الحرب ومراميها، على الرغم من مرور ثمانية أشهر على اندلاعها، وعِظم التضحيات وضخامة الفاتورة الإنسانية على أهل فلسطين عموماً، وغزة على نحو خاص.
الفشل يتضح حين نرى بايدن يقول الشيء ونقيضه، فهو من جهة يجاري حكومة نتنياهو في تظهير أهداف الحرب، وفي مقدّمتها تصفية حماس والمقاومة، لكنه من جهة ثانية، لا يتردّد في توجيه الدعوة للحركة المصنّفة "إرهابية" بالجلوس إلى مائدة المفاوضات لإتمام الصفقة... هو لا يشاطر "إسرائيل" رؤيتها (أو لا رؤيتها) لليوم التالي للحرب، ولكنه يصمت عن الكلام المباح، ويُبقي أوراقه قريبة من صدره، وهي أوراق قليلة على ما يبدو، حين يتعلّق الأمر باليوم التالي.
فيروس التردّد واللا-أدرية الذي ضرب نتنياهو وحكومته طيلة أشهر الحرب، يضرب اليوم، بقسوة، بايدن وإدارته...لا الحرب في غزة مرشّحة للانتهاء في المدى المرئي بـ "نصر مطلق" للحليفتين، ولا كلفة استمرارها باتت محتملة على الرجلين، وبالذات على بايدن الذي يواجه استحقاقاً رئاسياً صعباً للغاية.
نتنياهو ظلّ عرضة لضغوط متقابلة ومتناقضة، وكذا بايدن... الأول؛ يتعرّض لضغط العائلات والرأي العام المحلي والعالمي، والجنائية والعدل الدوليّتين، وكلفة الاستعصاء في الميدان، من جهة، بيد أنه مدفوع من جهة ثانية، بقواعد "صراع البقاء" وغريزة البحث عن طوق نجاة... قراراته وسلوكه، محكومة باتجاهين متضادين، ولذلك تبدو المراوحة والمماطلة بالنسبة إليه، خياراً مناسباً حتى اللحظة، مع أنه يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، وهوامش المناورة المتاحة، تزداد ضيقاً، والحبل يشتدّ حول عنقه، وربما يشنق نفسه به أو يجد من يخنقه.
بايدن بدوره، ليس أفضل حالاً، فهو محكوم بضغوط متقابلة ومتضادة، في اتجاهين متعاكسين كذلك، إن ذهب بعيداً في الضغط على "إسرائيل" لوقف حربها الهمجية على غزة، فقدَ دعم لوبياتها وجماعاتها الثرية والمموّلة للحملات الانتخابية، والتي تتوفّر على قواعد تصويتية لا بأس بها... وهو إن استمرّ في شراكته مع مجرمي الحرب في "تل أبيب"، قامر بخسارة أصوات لا يستهان بها، لمعسكر عريض من الأميركيين العرب والمسلمين والأفارقة واللاتينيين، والتقدميّين والليبراليّين وطلبة الجامعات... المراوحة، وقول الشيء ونقيضه، محاولة بائسة ويائسة لتعويم حملته الانتخابية، والجلوس بين مقعدين، يمكن أن يتسبّب في سقوطه وكسر ظهره.
حاصل جمع "مأزومَين"، لا ينتج انفراجاً، ولا يؤسّس لمبادرات بأقدام قوية تسير عليها، وحصيلة المسافة المقطوعة تحت تأثير الضغوط المتقابلة والمتنافية، قد تظلّ صفراً أو فوقه بقليل... ولا ندري متى يمكن للرجل العجوز، أن يرجّح كفة على أخرى، كأن يُتبع أقواله بأفعال، ويضغط من أجل وقف الحرب وإتمام صفقة معقولة ومتوازنة.
وبالعودة إلى مضمون المبادرة ذاتها، ليس عجباً أن نرى حماس والمقاومة، تتعاملان معها بـ "إيجابية"، فمبادرة المراحل الثلاث، تستبطن برغم عمومية عباراتها وضبابيّتها، أهم مطالب وشروط المقاومة، كـ "الانتقال من الهدنة المؤقتة إلى الوقف التام" لإطلاق النار، وجلاء الاحتلال عن غزة وإن على مرحلتين، وصفقة تبادل جدية تعقب إدخالاً كثيفاً للمساعدات إلى أهل القطاع... والأهم أن بايدن ابتلع حديثه الممجوج عن "اليوم التالي"، وتلكم خطوة تُبقي المسألة برمّتها موضع صراع، لن يكون الطرف الفلسطيني المقاوم، هو أضعف حلقاته.
والحقيقة أن أسباباً ثلاثة، ربما تكون حالت دون تناول بايدن لسيناريوهات اليوم التالي: الأول؛ أن وقف النار، إن تمّ، سيحدث فيما حماس والمقاومة، في ذروة إثخانها بالعدو، وتعيد المواجهة مع جحافل "الجيش" الغازي، إلى سيرة أيامها الأولى...
والثاني؛ صعوبة إيجاد عملاء ومتعاونين لا من مدرسة "العشائر والحمائل" ولا من مدرسة "التنسيق الأمني المقدّس"، لتشكّل إدارة فلسطينية عملية ومطواعة، وهو أمر يجب أن يظلّ حاضراً في المعادلة الفلسطينية الداخلية، وعلى المقاومة، ألّا تتردّد في توجيه الرسائل التحذيرية الجادة والمتوعّدة، ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه، التعاون مع العدوان وخدمة مراميه...
والثالث؛ أن أحداً من العرب والإقليم، لن يكون بوارد إرسال دباباته لتحلّ محلّ الدبابات الإسرائيلية، ولن يقبل بسيناريو عودة "جنوده" من القطاع، في أكياس بلاستيكية، تلكم ستكون نكسة لا قبل للحكومات والأنظمة على تحمّل تداعياتها، إن قدّر لسيناريو من هذا النوع، أن يرى النور.
اليوم التالي للحرب على غزة، فلسطيني بامتياز، وعلى "الكل الفلسطيني" الاتحاد لجعله كذلك، وبمقدور القوى الحيّة في فتح والمنظّمة، أن تسرّع في تجسيد ولادته، وبكلفة أقلّ، وكرامة أعلى، إن هي لاقت المقاومة في منتصف الطريق، لكن في كلّ الأحوال، لدى المقاومة وجمهورها من الأدوات والتمثيل والشعبية، ما يمكنها من فعل ذلك بنفسها وجمهورها وحلفائها، وتحصين هذا السيناريو، حتى وإن تطلّب الأمر، جهداً أعلى وكلفاً أكبر.
مبادرة بايدن، مفخّخة بالثقوب السوداء، ولك أن تقول فيها ما تشاء، ولكن يخطئ من لا يرى فيها "نصراً للمقاومة"، وإقراراً بفشل وهزيمة المرامي البعيدة والأهداف الكبرى، للشريكتين في حرب التطويق والتطهير والإبادة في غزة، والطريقة التي تعاملت بها حماس مع المبادرة، صحيحة تماماً، فهي أبقت الباب مفتوحاً لتطويرها، وهي ألقت الكرة في ملعب نتنياهو وحكومته، برغم نفاق بعض أبواق الغرب ومسؤوليه، وهي أراحت الوسطاء العرب الذين تعرّضوا بدورهم لضغوط شديدة من واشنطن، وهي أكدت مرة أخرى، حرصها على تسريع رفع المعاناة عن شعبها، وهذه جميعها "أهداف نبيلة".