"طوفان الأقصى" معاكسة الاحتلال واقتلاعه
"طوفان الأقصى" أكثر من عملية ضخمة وأبعد، وتضع وجود "دولة" الاحتلال تحت التهديد الجدّي، وهذا ناتج مبدئي عن المرحلة الأولى فقط.
مفاجأة، بحجم ثمانية عقود من الغطرسة الصّهيونية والضّعف العربيّ وعار السكوت الّذي يلاحق كلّ إنسان حرّ. مفاجأة، بحجم الضّمير الغائب للمرجعيّات والمؤسّسات الدّوليّة التي تبارك القاتل وتدين الضحيّة. مفاجأة، بحجم نفاق المنظومة الغربيّة الوالدة الشرعيّة لاحتلال بالأصل من صناعتها.
"طوفان الأقصى"، صفعة لكلّ هؤلاء وأكثر. صفعة انتقمت، لماضٍ لا يمكن أن يمضي من دون محاسبة، انتقام لثلاثة أجيال من الفلسطينيّين الذين انتظروا بلا كلل فجر محمد الضيف، وفيضان ضوء الحرّية ليجفّف عتمة الاحتلال.
ما قبل "طوفان الأقصى"، لن يكون كما بعده، لا على مستوى الوعي الفلسطينيّ والعربيّ ولا على وعي المحتلّين الإسرائيلييّن. ومرّة أخرى توقظ القضيّة الفلسطينيّة ضمير كلّ عربي وكلّ إنسان، وعلى مذبحها تمتحن مصداقيّة كلّ المزاعم في الأخلاق والسياسة والثقافة.
في "المنازل" المصنَّعة الّتي بُنيت على عجل كي تفكّك على عجل بحسب ما يظهره الذّعر والفرار بين المستوطنين، كانت الصدمة كبيرة، والأسئلة أيضاً. أحلامهم باستكمال اغتصاب الحقوق الفلسطينيّة، داسها المقاومون بأقدامهم، وخرافة "الوعد" احترقت على سدنة "الميركافا".
الصّدمة الأكبر ما زالت في "تلّ أبيب". حكومة بنيامين نتنياهو، تكرّر ما فعلته كل حكومات "دولة" الاحتلال بإعلان حرب بالأصل تعلن كل دقيقة. مع ذلك، لا يريد نتنياهو وعصابته أن يستيقظوا من أوهامهم باستخدام المزيد من الوحشيّة التي تزيد من إصرار المقاومين لا العكس. وهذا كان ولا يزال نتيجة حتمية لكلّ الحروب والجولات العدوانيّة على الفلسطينيين والعرب منذ العام 1948.
لقد قلبت (انتفاضة) "طوفان الأقصى"، طاولة الاحتلال على رأسه، لم تغيّر من المعادلات بقدر ما نسفتها وأعادت مفهوم الصراع إلى حيث يجب أن يكون على الجبهة في ميدان المقاومة، لا على طاولات صنعت خصيصاً كي يقدّم الفلسطينيّون التنازل عن بلادهم.
يستطيع نتنياهو دفن رأسه في الرّمال والهروب إلى الأمام نحو التّهوُّر بعدوان كبير على غزّة، يعرف هو نفسه بعدم جدواه كما كانت كلّ الحروب السّابقة التي لم تمح ذرَّة من تمسّك الفلسطينييّن بأرضهم، مع إضافة لا شكّ في أنّها ترعب نتنياهو، بأن غزّة لن تكون لوحدها في مواجهة العدوان الجديد، وهذه حتميّة واقعيّة لا يمكن لكلا الطرفين الهروب منها، ولن تنجح الضغوط مهما كان شكلها وحجمها في منع كلّ قوى المقاومة على امتداد العالمين العربيّ والإسلاميّ من الاستجابة لنداء فلسطين من غزّة.
يتبجّح نتنياهو برفضه قيام دولة فلسطينيّة، أو أن يحصل الشّعب الفلسطينيّ على أيّ من حقوقه، لا في "حلّ الدولتين" المجحف ولا بأقلّ منه حتى، وهو ما يُمثّل جوهر أهداف الاحتلال الذي يتجاوز الاستعمار التقليديّ إلى نهج الاستعمار "الاقتلاعي"، الّذي يتبنّاه محور المقاومة بطريقة معاكسة بجدارة.
لا ريب، أنّ الدهشة لدى الدول العربيّة في الخليج كبيرة كما هي في "تلّ أبيب"، والرهان على "اتفاقات إبراهام" لتطويق وخنق القضية الفلسطينية، أغرقها "طوفان الأقصى"، ولو كان من الصعب على أبو ظبي والمنامة الاعتراف بذلك، لخوفهما من أن يظهر "تطبيعهما"، استسلام الضعيف لضعيف مثله، وما فعلاه لا اسم له سوى تآمر مع "أبناء العمومة" على الشقيق الفلسطينيّ.
قد لا يشعر المطبّعون العرب في الخليج بالخجل من هذه اللحظة الفلسطينيّة الكبيرة، لكن عليهم أن يندموا، على "سلام" مزعوم قدّموه لاحتلال لم يدخلوا معه أبداً في مناوشة صغيرة أو كبيرة. وأسبابهم تتلخّص وتنحصر بقناعة بقوة "إسرائيل" العسكريّة (القاهرة)، وتأثيرها العميق على صناعة القرار في واشنطن ومعظم عواصم الدول الغربيّة، التي تؤمّن استمرار نظامها العنصريّ، وللمطبّعين استمرار أنظمتهم الاستبداديّة.
سيفرض "طوفان الأقصى" على المملكة العربيّة السعوديّة، التمهُّل في مسار التّطبيع مع "تلّ أبيب"، ولأجَل غير مسمّى، يسمح للملك ووليّ عهده تقدير الأحداث بلا تزييف ولا مواربة تفسّر فشل مؤتمرات التّسوية الجماعية كـ "مؤتمر مدريد 1991"، على أن فشلها نقيض لنجاح التّسويات الثنائية، وبهذا خداع للذّات قبل أن يكون للآخرين.
من حقّ المملكة العربية السعوديّة أن تضع مصالحها الخاصّة في أوَّل سلّم أولوياتّها، لكن لا يمكنها التغاضي عن (موقعها المكاني)، الذي يعني نحو ملياري مسلم حول العالم، لم يفوّضوا أحداً أن يمنح شرعيّة إسلاميّة تاريخيّة للاحتلال الإسرائيليّ باسمهم.
توقيت "طوفان الأقصى"، أطاح في ساعة واحدة بزمن الاحتلال المديد، وكشف هشاشته من داخل بناه الاجتماعية والعسكريّة وملحقاتها. فكلّ مستوطن وكلّ جنديّ (كأيّ مجرم)، يحتفظ في اللاوعي بخطّة للهرب من ضحيتّه ومن سيل الانتقام الفلسطينيّ المحتَّم.
الولايات المتحدة وجوقتها من حلفاء "الناتو"، يدركون أكثر من حكومة نتنياهو المخاطر التي تحدق بـ "عاملهم" في الناحية الفلسطينيّة، وتعرف أنّ "طوفان الأقصى" أكثر من عملية ضخمة وأبعد، وتضع وجود "دولة" الاحتلال تحت التهديد الجدّي، وهذا ناتج مبدئي عن المرحلة الأولى فقط من "طوفان الأقصى"، الّتي لا بدّ وأن تليها مراحل ترسم طريقاً لا رجعة فيه عن تحرير كامل الأرض، مع حسبان قتال جنود الغرب إلى جانب جنود الصّهاينة.