"طوفان الأقصى"… والانسحاب الأميركي؟ (2-2)
وضع الأميركيين مصطلح الانسحاب قيد التداول بعد عملية طوفان الأقصى وما تركت من وقائع جديدة على مؤشرات مستقبل منطقة غرب آسيا بأكملها، يؤكّد أن كلمة "انسحاب" وتنفيذها على الأرض مرتبط باستراتيجيتها العامة.
استمرت العمليات العسكرية الأميركية المترافقة مع عمليات عسكرية إسرائيلية وبريطانية بتناغم واضح بين الأطراف الثلاثة الذين يعتبرون طرفاً واحداً في الاعتداءات على العراق وسوريا واليمن، إضافة إلى رفض نتنياهو شروط حركة حماس التي أرسلتها، بما يشير إلى أن أجواء التصعيد مستمرة، وبما يطرح التساؤل حول جدية انسحاب الأميركيين من سوريا والعراق، فهل ما زال ذلك بعيداً؟
في الأساس، إن وضع الأميركيين مصطلح الانسحاب قيد التداول بعد عملية طوفان الأقصى وما تركت من وقائع جديدة على مؤشرات مستقبل منطقة غرب آسيا بأكملها، يؤكّد أن كلمة "انسحاب" وتنفيذها على الأرض مرتبط باستراتيجيتها العامة، ليس في هذه المنطقة، بل في العالم أجمع، نظراً إلى أهميتها القصوى في تثبيت قواعد لنظام دولي جديد.
أوراق القوة
1- النظام المالي العالمي الذي أسّسته ببرايتون وودز عام 1944 الذي يسَّر لها التحكّم في مصائر الشعوب والدول من خلال العقوبات المالية، ما جعل عدداً كبيراً من دول العالم تئنّ منها، وخصوصاً إيران والعراق وسوريا واليمن كتتابع زمني. هذا النظام يبقى السلاح الأمضى لتغييب القدرة على الاستقلال الكامل بشكل متفاوت.
2-ضعف القوى الدولية الناشئة أمام هذا النظام المالي العالمي، وخصوصاً روسيا والصين، وهما القوتان المعول عليهما لتغيير قواعد النظام الدولي، على الرغم من رغباتهما الكبيرة بانسحاب الأميركيين واعتبارهما من أكثر الرابحين من جراء هذا الانسحاب المحتمل. ومع ذلك، فإن موقفهما العام هو في الموقع الدفاعي في المواجهة مع الأميركيين، وهما ينتظران جلاء معارك المحور مع القوى الثلاث الأساسية سابقة الذكر، ليساهما في المكاسب الكبرى التي لما يقدما شيئاً يذكر مقابلها.
3- الخاصرة الرخوة العراقية، فالعراق يعيش انقساماً سياسياً مزمناً ترك آثاره في المواجهة بين المقاومة الإسلامية في العراق وقوات الاحتلال الأميركي، ما كشف غطاء الحكومة العراقية عن المقاومة من ناحية النتائج، رغم الاعتراضات على عمليات الاغتيال الأميركي وارتقاء شهداء عراقيين في قواعد عسكرية شرعية لقوى المقاومة، وهي تستطيع من خلال هذا الانقسام الضغط على الحكومة العراقية وتمييع مفاوضات الانسحاب لتأخذ شكلاً جديداً وشرعية جديدة، ويبقى عالقاً في ذهن المسؤولين العراقيين مصير رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي الذي حاول العمل على استقلال العراق والتوجه نحو الصين.
4- الخاصرة الرخوة السورية بفعل تمزق سوريا والسوريين وعدم قدرتهم على إنتاج مشروع وطني جديد، بعدما أصبح تمزقهم مرتبطاً بمصالح القوى الإقليمية والدولية، وخصوصاً الولايات المتحدة التي امتلكت تأثيراً كبيراً في السوريين الذين ربطوا مصالحهم الخاصة بها، فهي تحيط نفسها بأسوار اجتماعية وعسكرية دفاعية في أماكن وجودها المباشر وغير المباشر، كما أنها تملك نفوذاً واسعاً على عدد كبير من السوريين في الداخل الذين يؤمنون لها المعلومات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية الواسعة، نتيجةً للتمزق من جهة، ونتيجة للأوضاع الاقتصادية القاهرة والمشردة للسوريين من جهة ثانية.
5-عودة إحياء تنظيم داعش الدموي وإطلاقه، فقد وفَّر هذا التنظيم الذي صممته وأشرفت عليه الاستخبارات الأميركية الذريعة لوجود القوات الأميركية في العراق وسوريا، وهي تعول على إعادته في حال قررت الانسحاب من البلدين. وقد أرسلت من قبل رسائل واضحة للبلدين بإطلاق عمليات استهداف القوات السورية والمقاومة العراقية في البادية السورية انطلاقاً من مناطق وجودهم قرب قاعدة التنف.
بين خيارات الانسحاب والبقاء
استناداً إلى نقاط القوة الخمس السابقة، فإنَّ قرار الإدارة الأميركية بالانسحاب أو البقاء يمنحانها القدرة على المناورة ما دامت معاركها مع المحور لم تتوقف بعد، فهي تستطيع البقاء من دون أكلاف بشرية كبيرة، ويمكنها الانسحاب إلى أربيل والأردن، والاعتماد على شبكة المصالح العربية الكردية التركمانية التي بنتها في كل سوريا، وليس في منطقة الجزيرة السورية فقط، إضافة إلى رهانها على الدور الوظيفي المستفحل للفساد في سوريا والعراق الذي يرتبط فعلياً وموضوعياً بالسياسات الأميركية ويصب في خدمة مصالحها.
كما أن انسحابهم من العراق وسوريا ووجودهم في أربيل والأردن يمنحهم القدرة على الاستمرار في تهديد قطع التواصل البري من شرق المتوسط إلى شانغهاي في الصين، بما يعوّضهم عن بقائهم في منطقة يكونون معرضين فيها لتصاعد عمليات المقاومة وارتفاع أعداد القتلى الأميركيين.
تتصارع الإدارة الأميركية مع الزمن في الفترة القصيرة المتبقية نحو الانتخابات الأميركية، والاحتمال الأكبر أن تنحصر الانتخابات بين جو بايدن ودونالد ترامب، وأحد الخلافات بين الطرفين هو قرار الانسحاب من سوريا والعراق. وقد يقدم الديمقراطيون على منع استخدام خصمهم لهذه الورقة بقرار انسحاب شكلي مع استمرار الرهانات السابقة.
كما أنَّ ضغط زمن المواجهة مع محور المقاومة في كل الساحات يدفع إلى استعجال احتواء انتصار المحور في كل الساحات، وخصوصاً في قطاع غزة، بالعمل على تأسيس بناء نظام إقليمي جديد بعنوان "أورشليم جدة" يستطيع احتواء المقاومة الفلسطينية وتفريغها من انتصارها، والوصول إلى شكل من تفاهم جديد بمحاولة استقطاب سوريا إلى هذا النظام الإقليمي الجديد، بما يفرض قواعد جديدة للصراع وضمان أمن "إسرائيل" إلى أجل غير مسمى، وبما يترك من تصورات جديدة حول ضرورات بقاء قوات الاحتلال الأميركي بشكل مباشر في سوريا والعراق.
على الرغم من كلّ الخيارات الأميركية المفتوحة وأوراق القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، فإن محور المقاومة بمواجهاته المفتوحة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، ومعهم إيران الداعمة إلى أقصى الحدود، يمتلك أوراقاً موازنة للأوراق الأميركية، فقد أثبتت قواه القدرة على إحباط كل المخططات الأميركية والضغط عليه للوصول إلى حالة الإقرار بواقع جديد ما زال الأميركيون يمتنعون عن الاعتراف به.
المحور يخوض مواجهته وحيداً من الناحية الفعلية، رغم العدد الكبير من الدول التي ستستفيد من متغيرات "طوفان الأقصى"، وخصوصاً الصين وروسيا اللتين لم تقدما شيئاً من المساعدة والمؤازرة للمحور، وليس أمامه إلا الاستمرار بالاعتماد على نفسه بشكل أساسي، والعمل على رفع مستوى المواجهة مع الأميركيين حتى إخراجهم من منطقة غرب آسيا بأكملها بشكل فعلي. هذه القوى تستطيع ذلك إذا ما ربطت معركة الداخل مع معركة الخارج، وخصوصاً في سوريا والعراق.