"إسرائيل".. على رُكبة ونص!
ميزان الرعب الذي نشأ بين قوى المحور و"إسرائيل" هو نتاج تطور "قواعد الاشتباك" التي تمّ ترسيخها على مدى سنوات عديدة، ويبدو أن المحور يسعى اليوم لتحدّي "إسرائيل" وتوسيع حدود معادلة الردع.
تعيش "إسرائيل" حالة ترقُّب وقلق بانتظار ردّ قوى المحور، الذي يبدو أن هناك إجماعاً في "إسرائيل"على أنه واقعٌ لا محالة، مع عجزها عن تقدير شكله وتوقيته ومداه.
وتُدرك "إسرائيل" كذلك أن قيادة المحور بدت أكثر إصراراً وعزماً هذه المرة مما كانت عليه في مرات سابقة على الردّ بشكل كبير على الاعتداءات الإسرائيلية. وبناءً على ذلك، أعلن "جيش" الاحتلال رفع حالة الاستنفار إلى الدرجة القصوى، وكذا فعلت الجبهة الداخلية الإسرائيلية وسفارات الاحتلال ومصالحه في الخارج.
يتحدّث الإسرائيليون منذ فترة طويلة عن أنهم لا يخشون مواجهة مفتوحة مع إيران وحزب الله، لكنهم يدركون جيداً أن مواجهة كهذه ستؤدي على الأرجح إلى حرب شاملة، ولن يكون من السهل وقف المواجهة حال اندلاعها، وبالتأكيد لن يحدث ذلك إذا قصفت "إسرائيل" البنية التحتية في لبنان ودمّرتها بالكامل كما تتوعد.
تدرك "إسرائيل" أن قوى محور المقاومة، وعلى رأسها إيران، تخوض ضدها اليوم حرباً نفسية، بالتوازي مع المواجهة العسكرية الدائرة في الميدان، في إطار الحرب النفسية "متعددة الجبهات" التي تُشن عليها في ضوء الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة في اليمن والاغتيالات التي نفّذتها في لبنان وإيران على التوالي.
تشير تصريحات وأفعال قادة محور المقاومة إلى تنامي "الثقة بالنفس" في القدرة على إلحاق الأذى الشديد بـ"إسرائيل"، وربما هزيمتها، وهم، أي قادة المحور، يقودون حملة نفسية متعدّدة الأوجه والمسارات ضدها تهدف إلى تمهيد الأرض لرد فعل قاسٍ يتناسب مع حجم الاعتداءات والتجاوزات الإسرائيلية.
يعلم قادة المحور أن هذه "الاستراتيجية النفسية" تعمل لمصلحتهم، وربما لهذا السبب بدا السيد نصر الله، تحديداً، واثقاً وحاداً في خطابه الأخير في ما يخص حتمية الرد وشدته، وهو خطاب يُعبّر عن عقيدته في ما يتعلق بالجوانب المعرفية والنفسية للصراع بين المقاومة و"إسرائيل"، فالمقاومة تُحقّق النصر أو تُهزم، لا قدّر الله، ليس بالقتال في ساحة المعركة على الأرض فحسب، بل في ساحة المعركة "الإعلامية والنفسية"، فالدعاية في "معركة الوعي" هي التي تصنع الانتصار، ولأنها كذلك يجب أن تُدار بطريقة ذكية لتثمر أفضل النتائج.
وفي هذا السياق، يُشكّل فهم العدو عوناً كبيراً في التعرّف إلى نقاط ضعفه أو قوته، بما يُمَكّنُ من ممارسة الضغط عليه بشدة، من خلال وسائل الإعلام والخطابات العامة التي لها وقعها على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه، الذي يستمر في الحديث عن إنجازات المقاومة وقادتها ومواقفها الحازمة أمام حالة الترقّب والفزع التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي بانتظار رد المقاومة.
يستند المحور في ما يقوله ويفعله إلى الحفاظ على توازن الردع بينه وبين "إسرائيل"، وهي معادلة لها جذورها العميقة التي جرى تطويرها التدريجي على مدار سنوات طويلة من الصراع بينه وبين "إسرائيل"، وهي تستند إلى المزج بين النشاط العسكري و"حرب الوعي".
تنظر "إسرائيل" إلى حزب الله اليوم بوصفه رأس حربة "محور المقاومة" الممتد الذي كرّس "وحدة الساحات" حقيقة واضحة في ظروف المواجهة المباشرة مع "إسرائيل"، فحربها على غزة قادت إلى مواجهة مع "إسرائيل" من ساحات مختلفة أو ما يمكن تسميته "التحرّك المتكامل متعدّد الجبهات" ضدها، وهو، أي الحزب، وإن تجَنَّبَ، منذ بداية هذه المواجهة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 استخدام قدراته العسكرية الكاملة أو القوة النارية الموجودة تحت تصرّفه التي تُغطي العمق "الإسرائيلي" بأكمله، إلا أنه أظهر فيها جرأة أكبر في إرساء معادلة "المعاملة بالمثل" التي نشأت بينه وبين "إسرائيل" منذ بداية مسيرته.
يأتي استخدام قوى المحور للوسائل العسكرية القتالية جنباً إلى جنب مع "حرب الوعي" للتأكيد على تثبيت وتطوير معادلة الردع بينها وبين "إسرائيل"، فتمسّكها، أي قوى المحور، إلى جانب قوتها العسكرية، بـ"العامل النفسي"، شكّل داعماً قتالياً للقوة العسكرية ضد "إسرائيل" بهدف إرساء الردع تجاهها. ولذلك، تدرك قوى المحور اليوم أنها إذا لم تردّ على الانتهاك الإسرائيلي الأخير، فإن ذلك سيؤدي إلى تأكّل معادلة الردع، بما يسمح لـ "إسرائيل" بمواصلة تقويضها.
والواضح أن سلوك هذه القوى يستند إلى أن ما تقوم به في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية يأتي رداً على تصرفات "إسرائيل" واعتداءاتها، بحيث يتناسب الثمن الذي تجبيه من "إسرائيل" مع نتائج أفعالها لتثبيت واقعٍ يمنعها من تصعيد اعتداءاتها مستقبلاً.
يمكن للمتتبع للإعلام والمجتمع الإسرائيلي أن يلحظ بكل سهولة حالة الإرباك والهلع والاستنفار التي يعيشها في إثر توعد قوى المحور الحازم بالرد على الاعتداءات الاسرائيلية. وكما يبدو، كلما طال أمد الانتظار تبخرت نشوة الإنجاز "الآنية" لنتنياهو ومجتمعه، وتحوّل الفرح إلى بكاء، حتى قبل أن يأتي الرد، ما يؤكد ما ذهبت إليه المقاومة مراراً حول مفهوم "بيت العنكبوت" الذي يفترض أن المجتمع الإسرائيلي واهنٌ، ولن يصمد أمام المزيد من هجمات المقاومة، ولن يكون قادراً على استيعاب الضحايا، وسرعان ما ينهار.
ومع الوضوح القاطع في موقف المقاومة من حتمية الرد، يؤكد الواقع الإسرائيلي "المُرجِف" أهمية الغموض الذي يكتنف شكل وتوقيت وطبيعة وحجم الرد الذي بات يؤثر في آلاف الإسرائيليين، ويحمل أهمية نفسية أكبر من "الإنجاز القتالي" للرد حال حدوثه، وهو جزء من توازن الرعب بين المحور و"إسرائيل".
إن ميزان الرعب الذي نشأ بين قوى المحور و"إسرائيل" هو نتاج تطور "قواعد الاشتباك" التي تمّ ترسيخها على مدى سنوات عديدة، ويبدو أن المحور يسعى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحدّي "إسرائيل" وتوسيع حدود معادلة الردع. وقد زاد الاحتكاك العسكري اليومي مع "إسرائيل" على حدود فلسطين الشمالية منذ بداية طوفان الأقصى، وفي البحر الأحمر وفي الضفة الغربية وغزة تحديداً، وفي الرد الإيراني على استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، ثقة المحور بقوته وقدرته على إحداث دمار وإضرار استراتيجي بـ"إسرائيل"، وهو ما نلمسه من توعد السيد نصر الله الإسرائيليين بالقول: "اضحكوا قليلاً وستبكون كثيراً".
يمكن القول إنّ جزءاً كبيراً من نجاح قوى المحور في إقامة معادلة ردع ضد "إسرائيل"، على الرغم من تفوّقها العسكري، ينبع من فهمه حدود قوته وأهمية وفعالية الحملة النفسية التي يقودها ضدها، وستكشف الأيام المقبلة ما إذا كانت المغامرة الإسرائيلية الأخيرة بمهاجمة ميناء الحديدة وعمليتي الاغتيال في بيروت وإيران عملية محسوبة أم أنها لحظة غرور جامحة أوقعت "إسرائيل" في مصيدة غرورها، وسرعان ما يُبددها نار ودخان رد المحور، بما يُبقي المجتمع الإسرائيلي من الآن فصاعداً على "ركبة ونص".