"إسرائيل"... الوجوه المتعددة لعملة واحدة
إطلالة سريعة على المحطات المختلفة في تاريخ "إسرائيل" تظهر أن المشكلة ليست في نتنياهو أو بن غفير أو سموتريتش أو في اليمين أو اليسار أو في هوية الأشخاص الذين يتبوأون مواقع المسؤولية، إنما المأزق ينبع من السياسة الإسرائيلية نفسها.
بعد أكثر من 8 أشهر على الحرب التي تخوضها "إسرائيل" على قطاع غزة، وعلى الرغم من الصراخ والضجيج داخل "إسرائيل"، فإنَّ الثابت هو اصطفاف كل المكونات الإسرائيلية وراء قرار استمرار الحرب، ما يؤكد أن مواقف نتنياهو وسلوكه السياسي ليس أمراً شاذاً أو خارجاً عن السياق الإسرائيلي العام، كما أن رئيس الحكومة الإسرائيلية لا يعبر عن التيار اليميني المتنامي فقط، كما يحاول الكثيرون تصويره.
محاولة تكريس هذا الانطباع تأتي في سياق عملية تجميل الوجه القبيح لـ"إسرائيل"، وهو قبح تؤكده الوقائع التاريخية التي تثبت أن سلوك نتنياهو وحلفائه اليمينيين تجاه الفلسطينيين ينسجم بنسبة كبيرة مع سلوك بقية المكونات.
إطلالة سريعة على المحطات المختلفة في تاريخ "إسرائيل" تظهر أن المشكلة ليست في نتنياهو أو بن غفير أو سموتريتش أو في اليمين أو اليسار أو في هوية الأشخاص الذين يتبوأون مواقع المسؤولية.
المأزق ينبع من السياسة الإسرائيلية نفسها ومن المؤسسة الإسرائيلية نفسها ويتساوى في ذلك الإسرائيليون جميعاً. لا شكّ في أن بين الأحزاب والتيارات فروقاً أيديولوجية عديدة تنعكس على الوضع الداخلي في "إسرائيل"، ولكنهم يكادون يتساوون في النظر إلى المسألة الفلسطينية وأسلوب التعامل معها، بحيث يسعون في النهاية إلى تطبيق سياسة واحدة.
أبرز ما يتشاركه الإسرائيليون في هذا السياق هو الشعور بامتلاك "شيك" على بياض من واشنطن. يكرر الإسرائيليون المحطات التي تراجعت فيها الولايات المتحدة الأميركية أمام الإصرار الإسرائيلي.
مؤخراً، كتب رئيس تحرير صحيفة هآرتس الوف بن مذكراً بما سمّاه "الخطوات التي رأت إسرائيل أنها حيوية" وأصرّت عليها على الرغم من الاعتراض الأميركي، مثل "الإعلان عن قيام إسرائيل، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، والإعلان عن القدس كعاصمة لإسرائيل، وإقامة المفاعل النووي في ديمونا، وإقامة المستوطنات وتوسيعها".
ولعل العنوان الأخير الذي أشار إليه "بن" والمتعلق بالاستيطان يعدّ من أبرز الملفات التي نفذ فيها الإسرائيليون رغباتهم وقراراتهم وقناعاتهم بإجماع ومن دون أي تردد. يمكن الحديث عن "عقلية استيطانية مستحكمة".
هذه العقلية خالصة وراسخة عند كل المكونات في "إسرائيل" من دون استثناء. هدف الانتشار اليهودي الاستيطاني تمت خدمته من قبل الجميع من دون أخذ أي أمر آخر بعين الاعتبار. عمل الجميع على إقامة بناه التحتية الاقتصادية وتعاطوا مع "الدولة" باعتبارها أداة استيطانية.
وإذا أخذنا مرحلة ما بعد أوسلو، يلاحظ أن الاستيطان لم يتوقف منذ العام 1993، وفي ظل الحكومات المختلفة. لا فرق بين رابين ونتنياهو وبيريز وباراك وأولمرت وغانتس. في عهود هؤلاء جميعاً، استمرت المستوطنات اليهودية في التوسع. ولعل ما نقل عن شارون كان يعبر عما في مكنونات نظرائه جميعاً.
قال شارون لوزرائه في إحدى الجلسات الحكومية: "ابنوا ولا تتكلموا"، مشدداً على أن بناء المستوطنات يمثل مشروعاً، ليس من أجل الحاضر فحسب، إنما من "أجل الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد أيضاً".
ليست العقلية الاستيطانية وحدها المستحكمة. تلازمها بشكل وثيق "العقلية الإجرامية". شكل ارتكاب المجازر استراتيجية اعتمدها الجميع من دون استثناء. تبنت القوى الإسرائيلية المختلفة النزعات العسكرتارية المغامرة، ومجّدت الجندي العبري الذي يمثل وفق بن غوريون "الإنسان اليهودي الجديد"، وتم التباهي بالتسلل إلى خلف خطوط العدو لذبح المدنيين.
هذه النزعة لم تقتصر على تيار اليمين في يوم من الأيام، حتى في الحالات التي كان مرتكبو المجازر ينتمون إلى هذا التيار، فهم كانوا جنوداً نفذوا أوامر زعماء يساريين، مثل بن غوريون الذي أعطى الأوامر للعصابات اليمينية لارتكاب أفظع الجرائم عام 1948.
استطلاعات الرأي التي تشير إلى تأييد أغلبية إسرائيلية استمرار حرب الإبادة القائمة على غزة تعبر عن هذه العقلية الإجرامية الجمعية، وعن رغبة الجمهور الإسرائيلي بكل تلاوينه في إحداث "نكبة ثانية في غزة".
صحيح أن اليمين يعلن الهدف من دون أي مواربة، إلا أن الأطراف الأخرى تعبر عن تبنيها له من خلال الدعم المستمر لقتل الفلسطينيين وتدمير القطاع كمقدمة لطرد الفلسطينيين وصولاً إلى تهويد غزة.
يتحدث الوف بن في مقالته عما يسميه "الموقف الجوهري" لبني غانتس الذي "يؤيد سياسة الحكومة التي يعد عضواً فيها، ويؤيد استمرار القتال وتوسيعه إلى رفح"، على الرغم من تهديده بالانسحاب من الحكومة.
موقف غانتس هذا ليس سوى ترجمة أمينة لمبدأ إضافي أجمع عليه الإسرائيليون من كل الأطياف، وهو مبدأ "استخدام القوة العسكرية لتحصيل نتائج سياسية". الكل في "إسرائيل" لديه قناعة بأن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق باستخدام المزيد منها.
هناك إيمان قوي وبشكل حاسم بدور وتأثير سياسات القوة، وأن "إسرائيل" عليها أن لا تتردد بالاعتماد على القوة والقمع من دون هوادة، وأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف السياسية، بدليل أن استخدام القوة كان شرطاً لقيام "إسرائيل"، وهذا ما تحدث عنه بيغن في مذكراته بعنوان "الثورة".
قال زعيم الأرغون: "لولا أعمال القتل التي نظمتها في قرى ومدن الفلسطينية لما وجدت إسرائيل". يتعارض هذا تلقائياً مع التسليم أصلاً بوجود طرف فلسطيني ومع مبدأ التفاوض الإسرائيلي العربي.
لذلك، يعلن المسؤولون الإسرائيليون واحداً تلو الآخر ومرحلة تلو الأخرى، سواء في اليمين أو في اليسار، أنه لم "يعد ثمة شريك فلسطيني للتفاوض معه"، وهذا ما يصر عليه نتنياهو اليوم علناً، ويوافق عليه غانتس ضمناً، من خلال رفضه أي وجود لجهة فلسطينية في إدارة القطاع، بما فيها السلطة الفلسطينية.
وصلت النظرة المتطرفة تجاه الفلسطينيين عامة، ومن ضمنهم "الشريك" في العملية التفاوضية، إلى حدود قصوى. يشهد المجتمع الإسرائيلي إجماعاً على رفض فكرة الدولة الفلسطينية، ويرى المختصون في الشأن الإسرائيلي أن فكرة الدولة الفلسطينية مرفوضة، حتى لو رحل نتنياهو واستمر الضغط الأميركي، وكما قال الوف بن في مقالته في هآرتس، فإن "إسرائيل ستصغي إلى الأميركيين،
ولكنها ستفعل العكس"، بمعزل عن هوية شاغل موقع القرار الإسرائيلي الذي يتشارك مع نتنياهو وغانتس وشارون وبيغن وبن غوريون وغولدا مائير وبيريز ورابين الجذور النفسية الثقافية الواحدة؛ هذه الجذور التي نمت خلال 76 عاماً لتنتج خلال الحرب في غزة إجماعاً بين كل مكونات "إسرائيل" وأحزابها وتياراتها التي بدت أوجهاً عديدة لعملة واحدة تنضح بالقبح والظلم والإجرام.