"7 أكتوبر"... الجنون الذي يغيّر العالم
لا يمكن وصف "7 أكتوبر" بأنه يوم مجيد، ولا أنه لحظة انتحار، فالأمور بخواتيمها. لا بدّ للمعركة أن تنتهي حتى يمكن تقييمها، وأيّ تقييم مسبّق لا قيمة له لا في السياسة ولا على الأرض، فضلاً عن أن الحرب لم تضع أوزارها بعد.
"لن يحرّر البلاد إلا المجانين، فالعاقلون دوماً يجنحون إلى السلام"، ليست هذه الإجابة مقولة مأثورة أو مَثَلاً، بل هي جزء من كلام المقاتلين على الأرض، واللبيب بالإشارة يفهم.
هل يعني أن "7 أكتوبر" كان لحظة جنون؟ لا، ليس بالضرورة، بل ربما لحظة عقل، فالفعل المبدع و"المجنون" في ذلك اليوم يتخطى "العقل" الذي رسم العالم موازينه، "العقل" الذي يقول إن على شعب استلبت أرضه منذ خمسٍ وسبعين سنة أن يقبل واقعه كما هو، وألا يفكّر في استرداد بلاده بأي طريقة، وليرضَ دون ذلك بفتات الحلول، أو الحلول المؤقتة التي ثبت أنها لا تنتهي إلا إلى نكبات متجددة.
هكذا، وُلد "7 أكتوبر". أتى ليقول: كفى!
في المقابل، ها هو العالم "الحرّ"، العالم "الأول"، العالم المتعولم، العالم "المتقدّم"، وقد جُنّ جنونه، لكنّ جنوناً عن جنون يختلف؛ جنون الفلسطينيين لم يتخطّ حواجز الأخلاق والدين وما يحملونه من قيم إلا بالنزر اليسير الذي يمكن وصفه بأنه "أضرار جانبية" بحقّ. يبقى هذا افتراضاً إن ثبت شيء، وكما يقال "على صحة السلامة".
أما الجنون الذي أظهره العالم بالصفات التي يدّعيها لنفسه، فتخطى كل الخطوط الحمر للإنسانية والأخلاق والأديان وحتى قواعد الإجرام نفسها، باعتراف المحامية العسكرية العامة في "إسرائيل" التي كانت "تراجع سلوك الجنود" متأخراً.
هذا السلوك هو نفسه ما يثبت شرعية "7 أكتوبر" بل صوابيّته. لقد كان حدثاً كاشفاً بكل ما للكلمة من معنى، كما أعاد تسمية الأمور والناس والدول كافة بمسمياتها. حتى إنه أعطانا محاكاة لنكبة 1948 بالصوت والصورة، وجواباً عن سؤال: كيف ضيّع العرب فلسطين؟، ثم أكد لنا حقيقة الاصطفافات التي خُلقت في المنطقة منذ الثورة الإسلامية في إيران حتى اليوم.
ما سبق لم يكن ليتضح للعالم كله من دون أدنى مواربة أو تشكيك لولا هذه الملحمة العسكرية التي قضت على ما تبقّى من رواية "الجيش الذي لا يُقهر"، وأظهرت إعجاز المقاومة وخلاصة 75 سنة من الغضب الفلسطيني وعقودٍ من تحضيرات "جبهة المقاومة".
في ماذا كانت تفكّر المقاومة؟
قبل الإجابة، وأولاً، لن نذهب إلى شخصنة الحرب كما يفعل الإسرائيليون (مرة محمد الضيف، ومرة يحيى السنوار)، فكلّ قيادي عسكري أو سياسي هو بالضرورة ابن البيئة التي وُلد وتربّى فيها، وقراراته أياً كانت هي نتاج مسار مجتمعي متواصل يمثّل فيه إحدى الذُّروات.
ثانياً، لن نغرق في الأسباب التي سردها التحليل السياسي (بدءاً من وضع المسجد الأقصى والأسرى، مروراً بالتخوّف من حملة اغتيالات، وصولاً إلى التطبيع السعودي، مع أن اللافت أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" عادت وتبنّت بنفسها هذه السردية)، إنما سنلجأ إلى تحرير مغاير، تحليل يأخذ مكانة غزة في البعد التاريخي والمجتمعي والسياسي الفلسطيني.
يُظهر تاريخ الشعب الفلسطيني أنه شعب مسالم، وكانت تغزوه حضارة، وتحرّره أخرى، أو تسيطر عليه دولة، ثم ثانية، وهكذا دواليك... باستثناء غزة التي كانت دوماً تقاتل، منذ زمن الإسكندر المقدوني حتى حملة نابليون بونابرت وغزوات صلاح الدين وهجوم الجيش البريطاني على العثمانيين..
صحيح أنّ مدناً أخرى اشتهرت في التاريخ الفلسطيني بالقتال مثل نابلس وعكا لكنها لم تكن أبداً كسيرة ومسيرة غزة، وهذا ما جعلها تبقى "شوكة" أو "عقبة" أو "كابوساً" لدى أيّ احتلال أنشأ عهداً في فلسطين. حتى في عهد الاحتلال الحالي، انطلقت الانتفاضة الأولى التي غيّرت الموازين وأجبرت "إسرائيل" على "خطأ أوسلو" ـــــ كما يصفه بنيامين نتنياهو ـــــ من القطاع، وتحديداً من مخيم جباليا.
أيضاً جاء الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 ليؤكد أن الاستمرار في هذه المنطقة ليس مكتوباً له الاستقرار. تكفي مشاهدة وجه نتنياهو خلال المؤتمر الذي أعلن فيه أرئيل شارون قرار "فك الارتباط" حتى نعرف ما هي غزة وما تمثّله في عمق نتنياهو خصوصاً و"إسرائيل" عموماً. لعلّ هذا ما يفسّر "الفرحة الإسرائيلية" الكبرى لدى الجيش و"المجتمع" بتدمير القطاع، فالثأر أكبر من "7 أكتوبر" وأقدم.
أما في الانتفاضة الثانية، وبخلاف أزمة الانسحاب ومشهد طرد المستوطنين، فظلت غزة تقاتل، وتطوّر وسائل القتال، حتى نفّذت الفعل الفلسطيني الخالص واللافت والمميّز على صعيد مقاومة الاحتلال من الداخل بعد ثورة الشيخ السوري عز الدين القسام ومعركته الأخيرة في جنين (لن نتطرّق إلى معركة "الكرامة" لأن ثمة خلافاً تاريخياً حول الدور العسكري الأردني فيها).
كان هذا الحدث هو "7 أكتوبر" بتوقيع غزي ـــــ فلسطيني خالص، وبأسلحة محلية وأخرى مستوردة وثالثة تعلّمها مهندسو المقاومة الفلسطينيون من أفضل حليف مرّ على تاريخهم منذ النكبة: إيران ومعها سوريا ولبنان. هذه هي الرواية الدقيقة وما دون ذلك هوامش أو غلط أو شيء ما يزعج الآخرين.
حتى قادة قوى المقاومة من غير الفلسطينيين، الذين أعلنوا بصراحة وشجاعة أنهم لم يكونوا على علم بـ "7 أكتوبر" إلا يوم وقوعه، لم يخفوا فرحتهم بهذا الحدث، رغم أن تداعياته لم تأتِ وفق كرّاسة الخطط. ثم جاءت الحرب ولا تزال غزة تقاتل وستبقى.
ليس للإنشاء أو الشاعرية مكان في هذا التوصيف، بل للتاريخ والحاضر أثرهما الحقيقي في قراءة المستقبل.
هذه هي غزة، وهؤلاء ناسها، الأصليون والمهاجرون.
الضغط (لا) يولد (إلا) الانفجار
قد تغيب أبسط القواعد في علم الاجتماع عن أذهان المستعمرين. يحسبون أحياناً أنهم حسموا النتائج وحسبوا حساب كل خطوة. لكن دائماً تقع المفاجآت، وضمن ذلك غزة التي انتهى سبع عشرة سنة من حصارها إلى انفجار قلب العالم كله، حرفياً.
حتى كل القراءات السياسية التي كانت تراقب الحدث الروسي ـــــ الأوكراني، والاحتكاك الأميركي ـــــ الصيني، وجدت نفسها فجأة أمام غربي آسيا، المكان الذي يكتب تاريخ العالم دائماً، وبؤرة الصراع المتقدة بين المشرق والمغرب.
ماذا كان يتوقّع بنيامين نتنياهو الذي يحكم منذ عقدين تقريباً من السياسات التي مارسها وأسلافه مع الغزيين؟ الاستسلام! السلام؟ لم يكن هذا وارداً على الأقل لأنه جُرّب ولم ينفع. الصبر السلبي؟ جيد، لكن حتى متى؟ في النهاية، كان لا بدّ من الانفجار.
نحن نتحدّث عن أجيال وُلدت وتربّت في إطار كيلومترات محدودة، أو كما يسميها بعض الباحثين الغربيين: أكبر سجن في الهواء الطلق. ليس هذا فحسب، بل "تفنن" الاحتلال في طرق الحصار وما يُسمح بدخوله تارة ويُمنع تارة.
ثمّة من وُلد ولا يعرف من العالم إلا السماء وبعض البحر، ولا يرى من "إسرائيل" إلا الصواريخ والنار، فلماذا يستغرب العالم أن ينفجر هؤلاء الناس حتى لو كانت العواقب "وخيمة"؟
ربما الموت السريع "ألطف" من البطيء، وربما لا، فكلاهما موت، والموت بالقهر سيّئ.
العزل خطيئة كبرى
أما عربياً وفلسطينياً، فما كانت غزة إلا عبئاً إضافياً لا بدّ من حلّه بالطريقة التي تناسب الآخرين، أو إعطائها إبر "بنج" لشراء المزيد من السكوت والوقت.
السلطة الفلسطينية لم تخطُ منذ 2007 نحو غزة إلا عزلاً وعقاباً. حتى إن "فتح" أطلقت النار على قدميها بتهميش التنظيم في القطاع وتدميره. كذلك مصر بقيت تتعامل بقسوة حتى وجدت نافذة تصالح وتبادل تجاري بدأها السنوار في 2017، وعندما حانت لحظة الحاجة، لم تردّ الجميل إلى "حماس" التي قدّمت تنازلات كثيرة لإرضاء القاهرة.
أما الدول الخليجية، فلم تجد في غزة سوى باب للسمسرة لدى "إسرائيل"، كلّ بالعنوان الذي يناسبه. وباقي العالم وضع القطاع ومن فيه على الرف، وخلص إلى أن سنة 2024 ـــــ في رواية 2027 ـــــ سيكون هذا المكان "غير صالح للحياة"، وفجأة يستغربون الانفجار!
عندما حاولت غزة في 5/2021 أن تقول كلمتها في القدس، اهتزّ شيء في أعمدة المعادلة الكبيرة وظهرت نذر التغيير، لكن "إسرائيل" كانت تسابق الزمن قبل عقدة الثمانين، وفهم قادتها أن ما حدث خطير، فحاولوا ردّ الاعتبار في 5/2022. وبينما كانت لعبة العزل متواصلة، ونية "التأديب" حاضرة"، سبق الغزيون العذل.
قصة بلا خاتمة
لا يمكن وصف "7 أكتوبر" بأنه يوم مجيد، ولا أنه لحظة انتحار، فالأمور بخواتيمها. لا بدّ للمعركة أن تنتهي حتى يمكن تقييمها، وأيّ تقييم مسبّق لا قيمة له لا في السياسة ولا على الأرض، فضلاً عن أن الحرب لم تضع أوزارها بعد.
لكن ثمة نتائج أولية يمكن قول بعضها بكل قلب مرتاح، وأهمها أنه مهما فعلت "إسرائيل" بعد 7/10/2023 فلن تستطيع محو ذلك اليوم من تاريخها حتى لو استمرت إلى جيلين وثلاثة، وما بعد ذلك هو "ما بعد 7 أكتوبر"، وليس "7 أكتوبر" بنفسه.
على أي حال، لننتظر ونرى، فغداً لناظره قريب، وللقصة فصولها التي لا تزال تُكتب، من حيث تحاك السجادة العجمية إلى باحات الجامعات في أوروبا وأميركا.