"طوفان الأقصى".. ومناهضة التطبيع مع سوريا
يأتي الإقرار الأولي للقانون الجديد في لحظة تاريخيّة حرجة بعد عملية طوفان الأقصى، فدمشق ما زالت تحاول الموازنة بين مشروعين متناقضين بحكم أهميتها الجيوسياسية.
على الرغم من الخلافات المستحكمة بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة، فإن ذلك لم يمنعهم من الإجماع والتوافق بالتوقيع الأولي على قانون "مناهضة التطبيع" مع سوريا، متناسين خلافاتهم على كل شيء ليجتمعوا على المزيد من الإنهاك والحصار لمن تبقى من السوريين في الداخل، بما يصيب منهم في الخارج الذين ينتظرون عودة الحياة إلى بلدهم للعودة إليه.
يأتي هذا القانون الجديد ضمن سياق متصاعد من العقوبات بعد بدء الحرب الدولية في سوريا عام 2011، ثم قانون قيصر عام 2019، وتلاه بعد ذلك قانون "تعطيل وتفكيك شبكات المخدرات والإتجار بها" عام 2021. وقد طرح القانون لأول مرة في شهر مايو/أيار 2023 بعد انفتاح دول الجامعة العربية على إمكانية التطبيع مع الحكومة السورية ضمن سياسة العصا والجزرة التي تقودها الإدارة الأميركية التي تسعى لإخراج سوريا من تموضعها الجيوسياسي.
الإقرار الأولي للقانون لا ينفصل عمَّا يجري من مواجهات قوى محور المقاومة مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" في إثر عملية "طوفان الأقصى" وتوسعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وهو يعبر عن أزمة النظام الغربي في سيطرته على منطقة غرب آسيا، بعدما أثبتت القوى الاجتماعية ذات البعد العقائدي التاريخي المتجذر قدرتها على تجاوز التفوق العسكري الأميركي الهائل، ودفعه إلى البحث عن خيارات متنوعة ومتعددة في كل الساحات لاحتواء نتائج المواجهات وتحويل مسارات الحرب.
لماذا سوريا من جديد؟
1- ساحة الحرب الدولية في سوريا لها أهميتها الخاصة بفعل جغرافيتها السياسية المتكاملة مع العراق وترابطها مع لبنان وفلسطين والأردن. هذه الحرب ما زالت مستمرة بأشكال ومستويات مختلفة، والأهم أنها تؤثر في مستقبل الكيان الصهيوني بالبقاء أم الزوال باعتبارها عقدة الوصل لقوى المقاومة.
2- هي الساحة الوحيدة التي توجد فيها 5 جيوش دفعة واحدة بشكل مباشر أم بإشرافها على بناء قوات سريعة الحركة، وبقاء قوات الاحتلال الأميركي في سوريا يحتاج إلى ذريعة حماية المدنيين بالحل السياسي إلى جانب ذريعة مكافحة تنظيم داعش بعنوان الإرهاب، وهذا البقاء يوفر التناغم مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، ويضبط إيقاع الاحتلال التركي المنضبط بقواعد العلاقات الروسية الأميركية، إضافة إلى كبح الوجود الإيراني الروسي وموازنته عسكرياً وسياسياً.
3- يشكل القانون الجديد وسيلة لاستمرار استنزاف القوى الحليفة لدمشق في سوريا، وخصوصاً إيران، وبشكل أقل روسيا، كما أنه يشكل عقبة أمام الانفتاح الصيني على سوريا وما يمكن أن يشكل من تهديدات للشركات الصينية تمنعها من الاستثمار في سوريا، وبالتالي عرقلة التموضع السوري في مشروع "مبادرة الحزام والطريق".
4- الساحة السورية هي الأضعف في ساحات المواجهة الدولية الثلاث المتتالية، فملامح الهزيمة أصبحت واضحة في أوكرانيا، كما أن الحرب التي تخوضها قوى المقاومة في منطقة غرب آسيا لدعم المقاومة في فلسطين لا تملك إلا خيار الانتصار في كل الساحات. وهنا، تشكل العودة الأميركية إلى الاهتمام بسوريا من باب الإنهاك الجديد بمنع الانفراج السياسي والاقتصادي كأحد الأدوات لكبح تداعيات الهزيمة.
5- يشكل القانون الجديد محاولة أميركية مهمة لإعادة رسم الخرائط في منطقة غرب آسيا احتواء لعملية "طوفان الأقصى" وما يمكن أن تفرض من خرائط جديدة ليست لمصلحة الأميركيين.
هو في هذا المجال بمنزلة اتباع سياسة العصا والجزرة، فتعويل دمشق على التطبيع مع الدول العربية القادرة على دعمها اقتصادياً ثمنه الانضمام إلى النظام الإقليمي الذي يتم العمل عليه أميركياً بما يؤمن بقاء "إسرائيل" بأمان، وهذا النظام لا يمكن أن ينجح باستمرار السياسات السورية على ما هي عليه.
يأتي الإقرار الأولي للقانون الجديد في لحظة تاريخيّة حرجة بعد عملية طوفان الأقصى، فدمشق ما زالت تحاول الموازنة بين مشروعين متناقضين بحكم أهميتها الجيوسياسية، فحاجتها للعرب لفك العقوبات الاقتصادية وتخفيف الضغوط الداخلية وإقامة توازن بين الغرب والشرق عبر بوابة العلاقات العربية التي يمكن أن تشكل ضغطاً على تركيا للانسحاب من الشمال السوري وإزالة العقوبات الغربية والعودة للعلاقات الطبيعية القوى الغربية من جهة، والبقاء ضمن محور المقاومة الذي يعتبر صمام أمان لإحداث التوازن مع طرف المحور الغربي، والرهان على انتصار روسي معترف به في أوكرانيا وعلاقة مميزة مع الصين يمكن أن تشكل جميعاً توازناً مع الولايات المتحدة وتخفيف ضغوطها على السوريين من جهة ثانية.
تبقى الخيارات السورية في مواجهة العقوبات الجديدة محدودة، وهي أمام مزيد من التدهور الاقتصادي الضاغط على ما تبقى من السوريين، وخصوصاً في ظل الاستقطاب الدولي الحاد في منطقة غرب آسيا المرتكز على مشاريع إقليمية جديدة متباينة الأهداف، كما أن حدودها مع فلسطين المحتلة واستمرار كيان ما زال يطمح للتوسع رغم تهشم صورته وهيبته بعد عملية طوفان الأقصى سيدفع بالمزيد من الضغوط على الداخل السوري.
يبقى الخيار الوحيد الأكثر سلامة هو المفتاح الأوسع والمدروس على القوى التي تخوض مواجهات متنوعة مع الأميركيين، ولكن هذا لا يكفي، فالنجاح بالخروج يتطلب سياسات داخلية مختلفة إدارياً واقتصادياً وسياسياً تدفع إلى استقطاب السوريين نحو حالة وطنية جامعة تنهي حالة الصراع والانقسام والتشرذم، ويبقى هذا الخيار هو الأسلم، ولكنه الأطول، الذي قد لا يتحمله السوريون الذين نفد صبرهم بالانتظار.