"تقاسم العبء".. عنوان الانقسام الإسرائيلي المقبل!
وزارة حرب الاحتلال، برئاسة يوآف غالانت، والتي تقف مع الجيش في مطالبه، تواجه مُعارضة شديدة من جهات علمانية ترى في سن قانون التجنيد، في صيغته الحالية، تكريساً للتمييز ضد جمهور العلمانيين الذين يخدم في أغلبيتهم في "الجيش".
دَفع طوفان الأقصى "إسرائيل" إلى بدء أكبر عملية تجنيد لاحتياطي "الجيش" في تاريخها، إذ جندت خلالها 287 ألفاً، بينهم 40 ألف مجندة.
وعوضاً من الذهاب إلى فرض التجنيد على المتدينين الأرثوذكس "الحريديم"، ودمجهم في إطار قانون الخدمة الإلزامية، دَفعت الأعباء القتالية الهائلة واعتبارات إرضاء حلفاء نتنياهو من المتشددين، الحكومةَ إلى طرح قانون تجنيد جديد، ينُصّ في جوهره على زيادة العبء على جنود الاحتياط والجنود النظاميين الحاليين، الأمر الذي صعّد حِدَّةَ الخلاف الإسرائيلي الداخلي بسبب تعاظم الشعور بزيادة التمييز بين شرائح المجتمع، خدمةً لاعتبارات الائتلاف الحاكم واستقراره.
ونظراً إلى استمرار اشتعال جبهتي المواجهة مع "جيش" الاحتلال، جنوبي فلسطين المحتلة وشماليها، يستعدّ "الجيش" الإسرائيلي للتحدي الهائل والمُعقد والمتمثّل بإدارة القوى البشرية وفقاً للاحتياجات التي تتعاظم يومياً.
يسعى "جيش" الاحتلال لزيادة عدد قواته في الكتائب المقاتلة بنسبة 120% في العام الحالي، على أن تكون إحدى المهمّات العاجلة هي تدريب القادة والجنود ليحلوا محل أولئك الذين قُتلوا أو جُرحوا في المواجهة.
أحد الحلول التي ارتأت حكومة نتنياهو الذهاب إليها هي تمديد الخدمة النظامية من عامين وثمانية أشهر إلى ثلاثة أعوام، ورفع سن التسريح من الخدمة الاحتياطية من 40 إلى 46 عاماً للجنود، وإلى 50 عاماً للضباط.
ويبدو أن أحد دروس الحرب الحالية، والذي تعلمته "إسرائيل"، هو أنه لا يوجد بديلٌ من "الجيش الشعبي"، لا لأغراض القتال، ولا لبناء القدرة الوطنية على "الصمود" والتماسك الاجتماعي، إذ إن الجمع بين القوات النظامية وقوات الاحتياط في الحرب الدائرة خَلَق "روح تضامن مجتمعي" ساهمت في استمرار حشد التعبئة والتجييش لأهداف الحرب وفق رغبة القيادة السياسية.
لكنّ المعضلة هي أن وزارة حرب الاحتلال، برئاسة يوآف غالانت، والتي تقف مع الجيش في مطالبه، تواجه مُعارضة شديدة من جهات علمانية ترى في سن قانون التجنيد، في صيغته الحالية، تكريساً للتمييز ضد جمهور العلمانيين الذين يخدم في أغلبيتهم في الجيش.
وتطالب هذه الجهات بأن يتضمن القانون بنوداً واضحة تُلزم الشبان اليهود المتدينين، "الحريديم"، بأداء الخدمة العسكرية، وتُجبر الشبان العرب على أداء خدمةٍ مدنية، في حين ترفض الأحزاب الدينية أي إلزامٍ لشُبانها بالخدمة العسكرية، إذ يَعُدّ تكريس هؤلاء الشبان لدراسة التوراة في المدارس الدينية بمثابة مهمة يهودية مقدسة لا تقل أهمية عن القتال في الحرب.
يبدو اليوم أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين "الحريديم" وحكومات الليكود، وبالذات بشخص بنيامين نتنياهو، بحيث ثَبُت بصورة خاصة في الأعوام الأخيرة أن لا استقرار لأي حكومة إسرائيلية من دون "الحريديم"، مهما كانت قاعدتها الائتلافية كبيرة بسبب قوة "الحريديم" الانتخابية الفعلية، ونسبة التصويت المرتفعة في أوساطهم.
وهو ما يفسر موقف "الحريديم" المتصلب بشأن قضية التجنيد، إذ يؤمنون بأن حاجة نتنياهو واليمين القومي إليهم تلبي مصالح الطرفين السياسية والاقتصادية الاجتماعية، وخصوصاً مع تنامي قوة "الحريديم" البرلمانية، وتنامي جمهورهم بفعل التكاثر الطبيعي، في الوقت الذي باتوا في حاجة إلى سلسلة من المطالب لضمان استمرار مجتمعهم، وانغلاقه، وحمايته من الانصهار في المجتمع المفتوح، وبالذات العلماني، وتحديداً بشأن موضوع رفض التجنيد الإجباري الذي ظل مكفولاً لهم بوحي اتفاقية "الوضع الراهن" التي وقّعها بن غوريون مع ممثليهم منذ إقامة "الدولة".
وعلى هذا الأساس فهم يعارضون انخراط أغلبية شبانهم في الخدمة العسكرية، على رغم مواقفهم اليمينية المتشددة. وعلى رغم الضغوط التي مارسها ما يسمى "اليسار الصهيوني" وأحزاب "المركز السياسي"، من أجل حثّ "الحريديم" على الخدمة العسكرية والانخراط في سوق العمل، ورصد حكوماتها برامج ضغط ومحفزات مالية لجذب "الحريديم" إلى الجيش وسوق العمل، وسعيها لتقليص ميزانيات المعاهد الدينية ومخصصات طلبة تلك المعاهد، فإنها فشلت في مسعاهم لجر "الحريديم" إلى الانخراط في الجيش.
في المقابل، فإن نتنياهو وحكومته اليمينية الاستيطانية يدركان، اليوم، أنه من أجل ضمان "الحريديم" قوةً سياسية ضامنة لاستقرار ائتلافهما يجب التخلي عن برامج كهذه، وهذا ما يتضح مع عودة مشروع قانون التجنيد، الذي يسعى نتنياهو واليمين لتمريره لسد النقص في القوى البشرية الناتجة من الحرب، مع استمرارهما في إعفاء شبه كامل لـ"الحريديم".
تبدو الأمور ذاهبة نحو مزيدٍ من التصعيد مع موقف وزير حرب الاحتلال غالانت، الذي قال أمس إنه لن يَعرِض قانون التجنيد الجديد للتصويت على الكنيست قبل أن يحظى بإجماع كل الأطراف المُمثَّلة في الائتلاف، بما فيها حزب "المعسكر الوطني" بقيادة غانتس، الذي يُعلن صراحة أنه يرفض القانون في صيغته الحالية ما لم يضمن تحمّل الأعباء ودمج "الحريديم" في الخدمة الإلزامية أسوة بسائر الإسرائيليين.
وهذا يعني أن غالانت منح غانتس حق النقد "الفيتو" على القانون، ورحّل الكرة إلى ملعب "الحريديم" وغانتس، ووضع نتنياهو أمام مأزق مع شركائه في الحكم، والذين يرفضون بصورة مطلقة فكرة التجنيد، بالتوافق أو بالإكراه، مطمئنين إلى حاجة نتنياهو واليمين الاستيطاني إليهم لضمان استقرار الائتلاف الحاكم.
بالتوازي، فإن أحزاباً و"قوى مجتمعية" تسعى لإلزام الحكومة والكنيست بأن يشمل القانون تجنيد "الحريديم"، على رغم أنه صدر في الماضي أكثر من قرار مُلزم من المحكمة العليا، لكن أياً منها لم يطبَّق. الموقف ذاته عبّرت عنه أغلبية إسرائيلية ترى أن مقترح قانون التجنيد، في صيغته الحالية، يتعارض مع مبدأ العبء المتساوي، بحيث تدفع شريحة من السكان فقط ثمناً باهظا للغاية من أجل "عبء حماية الدولة"، في مقابل شريحة أخرى تستمر في التهرب. بالنسبة إلى كثيرين من الإسرائيليين، فإن المسألة ليست عسكرية أو اقتصادية فحسب، بل هي سياسية في جوهرها، وتتعلق بـ"نضالهم" الطويل من أجل "العبء المتساوي"، بعد أن بات واضحاً للجميع أن زيادة العبء، وفق مسودة القانون الحالي، لا تتضمن أي تحرك نحو إقرار "المساواة في الأعباء".
ووفق هؤلاء، لا يمكن لنتنياهو أن يستمر في ترداد شعار "معاً ننتصر"، مع استمراره في السماح بتملّص "الحريديم" من الخدمة العسكرية.
الواقع أن المشكلة، في جوهرها، أعمق كثيراً من قضية توزيع الأعباء، فالنقص في صفوف الجيش النظامي، وزيادة الجدل بشأن المساواة في العبء، يؤديان إلى تأكُّل الدافع إلى الخدمة القتالية لدى كثيرين من الإسرائيليين، وحتى في صفوف الجنود المنخرطين في الخدمة العسكرية، وهو ما عكسه بصورة واضحة تمرّد بعض الوحدات القتالية الإسرائيلية، ورفضها تنفيذ ما أُوكِل إليها من مهمّات خلال الحرب الدائرة على قطاع غزة.
في المحصِّلة، يبدو أن طرح هذا القانون في هذا التوقيت بالذات، سيزيد في حدة الانقسامات المجتمعية ويعمقها، وربما في حال تفاقم الأزمة يطيح حكومة نتنياهو التي تعصف بها الأزمات من كل جانب.
وعلى رغم ما تمر فيه "إسرائيل" من تحديات كبيرة، خلال الأشهر الأربعة الماضية، حيث ارتفاع أعداد قتلى جيشها ومصابيه، فإن المواجهة في حكومة ذات تركيبة لا تسمح بتغييرات جذرية، تقترب وتنذر بعواقب ربما لن يكون في مقدور نتنياهو تجنّبها هذه المرة.