هل يتجاوب "محور الاعتدال" العربي مع المُتغيرات الراهنة أم يفوته القطار مجدداً؟
لم تعد الأنظمة العربية مضطرة إلى التودد إلى "تل أبيب" لكسب رضا البيت الأبيض، لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد اليوم قادرة على إخافة أحد.
عاشت الأنظمة العربية الحليفة للبيت الأبيض فترة عصيبة للغاية بسبب الفعاليات الشعبية المناصرة للقضية الفلسطينية، والتي استمرت طوال الشهور الماضية، واتخذت صوراً مختلفة، منها ما تمثل في التظاهرات والتجمعات في الشوارع والميادين الرئيسية، ومنها ما يبرز عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال حملات المقاطعة الاقتصادية للسلع الغربية.
أزمة تلك الأنظمة التي تجمعها بـ"إسرائيل" اتفاقات لتطبيع العلاقات أنها لم تعبّر يوماً عن خيارات الشعوب التي تحكمها تعبيراً أميناً، فالشعوب العربية، بأغلب المواقف، كانت في صف المقاومة وداعمة لتحرير الأرض العربية. وقد عبّرت عن ذلك بصورٍ مختلفة، وخصوصاً خلال شهر أكتوبر الماضي، مع الإعلان عن نتائج عملية طوفان الأقصى، ثم لاحقاً مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
انحسار حجم التظاهرات المناصرة للمقاومة والرافضة للجرائم الإسرائيلية في الميادين الرئيسية بالعواصم العربية من الخطأ تفسيره على أنه دليل عدم اهتمام الشارع العربي بفلسطين، فنشاط العرب في الشبكة العنكبوتية يؤكد عكس ذلك. غاية ما في الأمر أن القوى الأمنية في البلدان العربية نجحت في حصار التجمعات السياسية مبكراً، كما أن طول أمد الحرب أجبر الناشطين على العودة إلى أشغالهم الخاصة في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
عطّلت الحرب في غزة مشاريع عديدة للتطبيع بين الدول العربية من جهة، وحكومة الاحتلال من جهة أخرى، وبات الزعماء العرب يخشون التعبير عن دعمهم الصريح لـ"تل أبيب" أو إدانة المقاومة، كما كان يحدث في الماضي، وإن ظلّ التعاون الوثيق بصوره المعهودة يحدث من خلف الستار أو يتم تمريره في صورة "مجهودات للوصول إلى حالة من السلام".
المتغيرات الدولية والإقليمية
تغيّر العالم كثيراً خلال السنوات الأخيرة، وثمة عاملان مهمان على العرب التعامل معهما بجدية، هذا إن أرادوا عدم تفويت قطار الزمن:
الأول أن الشعب الفلسطيني لم يعد يخوض الصراع ضد "جيش" الاحتلال بمفرده، فطوال العقود الماضية، ومنذ انطفاء المشروع الناصري، ثم تراجُع المدّ القومي العربي بالتدريج، يواجه الفلسطينيون وحدهم آلة القتل الإسرائيلية. صحيح أن الشعب العربي لم يتوقف عن إعلان رفضه لأي صورة من صور الاعتراف بـ"إسرائيل"، لكن عملياً لم يتم تقديم ما هو أكثر من المساعدات.
اليوم، بات محور المقاومة أقوى مما سبق، وساحات المقاومة لم تعُد مقتصرة على جنوب لبنان أو سوريا، بل توسعت لتكتسب أرضاً جديدة، وهذا من ناحية الجغرافيا. أما من ناحية الكفاءة القتالية، فتكفي متابعة الصحافة العبريّة وتصريحات قادة جيش الاحتلال حول كفاءة قوات "حزب الله"، وتحذيرهم بنيامين نتنياهو من شنّ حرب على لبنان.
يُفترض أن تُدرك الأنظمة العربية هذا المُتغيّر، وخصوصاً أن محور المقاومة بزعامة طهران، التي لم تتردد في قصف الأراضي المحتلة في منتصف أبريل/نيسان الماضي، يمدّ أياديه للتعاون مع الحكومات العربية لتأسيس تحالفات سياسية واقتصادية يمكن عبرها تحقيق الرخاء للشعوب، وكذلك تحدي منظومة الهيمنة الغربية.
وستكون تلك التحالفات شبيهة بالتحالفات التي يعقدها محور المقاومة مع الأنظمة اليسارية في أميركا الجنوبية، وفيها تكون لكل دولة سيادتها الكاملة، فيما يتعاون الجميع لتحرير بلادهم من الضغوط الغربية.
أما العامل الثاني، فهو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد القطب الأوحد في العالم، فروسيا اليوم تتحدى الغرب بأكمله عسكرياً في الميدان الأوكراني، وتثبت القوات الروسية كفاءة لا نظير لها، كما أن موسكو قدّمت دليلاً على جدارتها لأداء دور الحليف بالنسبة إلى دول العالم الثالث عبر مناصرتها الدولة السورية خلال سنوات ما بعد 2011، وبالتالي أمام العرب الفرصة الذهبية للتحرر من تبعية واشنطن.
وفي الميدان الاقتصادي، تبرز الصين كنموذج لدولة استطاعت تنمية مواردها وتطوير صناعتها إلى الحدّ الذي مكّنها من غزو الأسواق الغربية ذاتها، وبكين على أتمّ استعداد لفتح قنوات اتصال سياسي واقتصادي مع الدول العربية، وذلك من دون إملاءات مسبقة أو تدخّلات في طريقة الإدارة، وذلك بطبيعة الحال على العكس من العواصم الغربية ومشاريعها الاستعمارية.
رهان إسرائيلي على إعادة إنعاش "محور الاعتدال"
في مقاله الأخير في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك إلى الموافقة على المبادرة الأميركية لإنشاء "محور الاعتدال" ضد "محور المقاومة" في المنطقة، وهو يوجّه خطابه إلى الإسرائيليين، محرضاً إياهم على إزاحة نتنياهو وحلفائه اليمنيين عن الحكم، لأنهم عثرة في طريق تنفيذ هذا المخطط.
عموماً، فإن إحدى مشكلات أحزاب اليمين الإسرائيلي، من وجهة نظر خصومهم السياسيين، أنها تسببت بتصريحاتها "المنفلتة" ودعوتها العلنية إلى "إبادة الفلسطينيين" أو "تهجيرهم قسرياً" بإحراج العديد من الأنظمة العربية غير الحليفة تاريخياً للمقاومة، ما جعل تلك الأنظمة "مضطرة" إلى إدانة السياسة الإسرائيلية حتى تتقي غضب شعوبها.
يدرك الحصفاء داخل "إسرائيل" أن من يعادي الجميع حتماً سيخسر، والانطباع اليوم داخل المدن الإسرائيلية الكبرى أن تسعة أشهر مرت على الحرب، ولم يستطع "جيش" الاحتلال تحقيق أهداف الحكومة.
والأنكى من ذلك أن الشلل الاستراتيجي الذي أظهرته القيادات الإسرائيلية ينذر باندلاع صراع إقليمي شامل، ويحدث ذلك كله في وقت يتفاقم الخلاف مع الولايات المتحدة، وتغرق "تل أبيب" في أتون عزلة دولية.
تسعى واشنطن إلى منع مشاعر الإحباط واليأس من السيطرة على الإسرائيليين، وخصوصاً أنهم لا يشعرون بالرضا عن الحرب في غزة، رغم استشهاد أكثر من 38 ألف فلسطيني، علماً بأن هذا الوضع المُعقّد الذي دمّر المجتمع الإسرائيلي معنوياً، كما أنهكه اقتصادياً، دفع البعض إلى مطالبات بأن تلوّح "إسرائيل" باستخدام قدراتها النووية المزعومة كوسيلة للخروج منتصرة من هذه الأزمة!
وسيلة الولايات المتحدة الأميركية دوماً لتحقيق مصالح "إسرائيل" هي جعلها مقبولة في منطقة الشرق الأوسط أولاً، وأقوى من الجميع ثانياً، بل إنها قد تدفع بعض الحلفاء لكي يخوضوا معارك "تل أبيب" نيابةً عنها، كما حدث طوال العقود السابقة من خلال الحملات الطائفية التي يجري تمويلها من قِبل بعض الأنظمة لتشويه سمعة محور المقاومة، وصرف الجماهير عن تأييده، أو عند رفض الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع السداسية الدولية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما.
الحصاد المُرّ لسنواتٍ من التطبيع الهش
منذ عام 2002، أقرّت الجامعة العربية "مبادرة السلام" التي طرحتها السعودية خلال قمة بيروت. وتتلخّص المبادرة في منح "إسرائيل" اعترافاً شاملاً وتطبيع العلاقات معها، بشرط إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. ومؤخراً، أعلن بعض القادة العرب شرطاً إضافياً، هو أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بما يُبطِل حجة حكومة الاحتلال القائلة إنَّ قيام دولة فلسطينية سيكون أكثر تهديداً من "دولة حماس".
قبل هذا التاريخ بأكثر من عقدين، كانت القاهرة كانت قد وقّعت اتفاقية للسلام مع "تل أبيب" مقابل استعادة سيناء منزوعة السلاح، وتبع ذلك اتفاق وادي عربة بين الأردن و"إسرائيل" عام 1994. وفي عام 2020، تم إبرام اتفاقات للتطبيع بين الاحتلال ودولتي الإمارات والبحرين في عهد دونالد ترامب، كما عقد المغرب اتفاقاً مماثلاً مقابل اعتراف واشنطن بحقه في ضم الإقليم الصحراوي الجنوبي. أما الرياض فقد تعطّل قطار التطبيع بينها وبين "إسرائيل" بفضل الأحداث الأخيرة.
في كل مرة، كان العرب يوقّعون اتفاقاً لتطبيع العلاقات مع حكومة الاحتلال، كانت تنتشر "الدراسات والتحليلات" التي تبشّر بأوضاع اقتصادية أفضل ومستويات معيشية أكثر رخاءً، وأن "زمن الحروب" مضى، وجاء "عصر الاستقرار وحصد المكاسب"، لكن الواقع بعد مرور كل تلك الأعوام لا يقول ذلك.
العكس هو ما تحقق، ففي بلد كبير وتاريخي مثل مصر، تمّت خصخصة العديد من الأملاك العامة، وضعفت الصناعة، وارتفعت فاتورة الاستيراد، وانخفضت القيمة الشرائية للعملة المحلية، وتراجع وزن القاهرة إقليمياً ودولياً. ورغم كل تلك العقود من "السلام"، لم يتردد الوزراء الإسرائيليون في الكشف عن نياتهم المتعلقة بتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر، كما تقدّم "جيش" الاحتلال، وسيطر على محور فيلادلفيا من دون مراعاة الاعتراضات المصرية.
الوضع في الأردن لم يبتعد كثيراً عن مثيله في مصر، سواء في الشق الاقتصادي أو الاجتماعي، حتى عندما أثيرت مسألة تهجير الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، شعرت عمّان بالخطر، تحسباً من تصور مماثل بالنسبة إلى سكان الضفة الغربية. أما دول الخليج، فما انتشلها من العوز الاقتصادي كان النفط وعوائده. ولا شك في أن القوى الغربية أدت أدواراً مباشرة وغير مباشرة، حتى لا تنشأ صناعات جادة في هذه الدول، اعتماداً على تلك الثروات.
اليوم، يسعى معسكر "الاعتدال العربي" إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، مدفوعاً بالضرر الاقتصادي الذي انعكس على المنطقة ككل، سواء بسبب عرقلة الملاحة في البحر الأحمر أو لتأثير الحرب في تدفق الاستثمارات الأجنبية أو تكلفة المساعدات الملحة لأهل غزة، كما أن العديد من العواصم العربية تشعر بالقلق من عودة الاستيطان الإسرائيلي إلى قطاع غزة، وهو ما يعني مزيداً من اليأس من أي "حل سلمي تفاوضي" للصراع.
الأمر المؤسف أيضاً أن بعض العواصم العربية قد تسعى لإيقاف الحرب لتفويت الفرصة على محور المقاومة الذي ربح بالفعل قلوب وعقول قطاعات واسعة من الشارع العربي. وكلما استمرت الحرب، وانخرطت عناصر محور المقاومة أكثر في المعركة ضد "جيش" الاحتلال بهدف تقديم الإسناد للحركات الفلسطينية، أدى ذلك إلى ارتفاع شعبية المحور داخل البلدان العربية.
الفرصة سانحة لمواقف أكثر استقلالية
لم تعد الأنظمة العربية مضطرة إلى التودد إلى "تل أبيب" لكسب رضا البيت الأبيض، لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد اليوم قادرة على إخافة أحد، وعدم إدراك الحقائق المتعلقة بتردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل أميركا ذاتها قد يدفع البعض إلى اتخاذ قرارات خاطئة تدور جميعها حول التعلّق بالسفينة الغارقة.
أمّا محور المقاومة، فهو آخذٌ في الصعود. ورغم كل حملات التشويه، استطاع الوصول إلى الشارع العربي، كما تمكّن من تجاوز كل المحاولات الغربية لحصاره واستنزافه وإرهاقه اقتصادياً، بل على العكس، تحولت العقوبات من محنة إلى منحة، لأنها دفعت عواصم المقاومة نحو الاعتماد على الذات وتنمية صناعاتها محلياً.
لا مفرّ من مراجعة الأفكار التقليدية التي تحكم الوضع داخل الوطن العربي منذ عقود، ولا بأس من تطعيم السياسة الخارجية بقدرٍ ولو قليل من الثوريّة السياسية، في سبيل تحقيق الممكن مرحلياً من الاستقلال السياسي والاقتصادي، وهو أمر بات مطلوباً من الجماهير العربية أكثر من أي وقتٍ مضى، بما يعني أنه المسار الديمقراطي السليم، إن كان القصد من الكلمة هو التعبير الحقيقي عن المطالب الشعبية.