هل ترسو "آلتالينا" سفينة الحرب الأهلية الإسرائيلية عند شواطئ يافا مرةً أخرى؟
اليوم، بعد ما يقارب 75 عاماً على حادثة السفينة "آلتالينا"، تعود نُذر الحرب الأهلية الداخلية إلى الساحة الإسرائيلية من جديد، ومرةً أخرى من بوابة الجيش.
كادت حادثة قصف السفينة الإسرائيلية "آلتالينا"، بعد أيامٍ قليلة من إقامة "دولة إسرائيل" عام 1948، أن تقود إلى حرب أهلية "مُصغّرة" لم تكتمل فصولها في "الدولة العبرية" الوليدة وقتها. رَست ألتالينا عند شواطئ فلسطين وكانت محمّلة بالأسلحة، من ضمنها نحو 5 آلاف بندقية، وعشرات الآلاف من القنابل، وملايين الرصاصات، ورشاشات، ومركبات مصفّحة ومعدات ثقيلة أخرى، أحضرها تنظيم "الإيتسيل"، أحد التنظيمات السرية اليهودية المُسلحة في فترة الانتداب البريطاني، إلى "الدولة" الناشئة من فرنسا، في محاولةٍ لكسب الحرب بين "إسرائيل" والعرب، والتي كانت بدأت وقتها.
كان مناحيم بيغن يقود تنظيم "الإيتسيل"، الذي لم يكن رسمياً ضمن القيادة الإسرائيلية، بل كان أشبه بشريكٍ لتنظيم يهودي آخر هو "الهاغاناه" الذي كان يقوده ديفيد بن غوريون. لم يكن بيغن "القومي" وبن غوريون "الاشتراكي" متفقين في الأفكار والسياسات، فقد كان لكلّ منهما مواقف متناقضة تخص فكرة إنشاء "دولة إسرائيل"، وكيفية التعامل مع الحرب التي تهدف إلى فرض الدولة الجديدة على خريطة العالم، بل وجّه بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ "إسرائيل"، اتهاماتٍ متعددة إلى بيغن حينها، أبرزها أنه فاشي ويشبه هتلر، في درجةٍ كبيرة.
أراد بن غوريون تفكيك كل التنظيمات المسلحة بهدف دمجها في جيشٍ واحد يمثل "دولة إسرائيل"، مؤكداً أنه لا يجوز أن يكون هناك توزيعٌ للسلاح على اليهود ليتحولوا إلى تنظيمات تَعُمُّها الفوضى، مؤكداً أن "الجيش" الإسرائيلي هو فقط المسموح له بامتلاك السلاح واستخدامه. فطلب بن غوريون من أعضاء تنظيم "الإيتسيل" أن يسلّموا كل الأسلحة التي كانت تحملها السفينة للجيش اليهودي، لكن بيغن أصر على الاحتفاظ بجزءٍ من هذه الأسلحة، وهنا بدأت شرارة الحرب الأهلية، إذ عدّت "الدولة" الإسرائيلية هذا الأمر تهديداً لها، وتعامل بن غوريون مع هذا الرفض باعتباره تمرداً رسمياً على قرارات حكومة "إسرائيل".
صَعدَ بيغن على السفينة وقرر التمرد، فلم يتسامح بن غوريون مع ذلك، وعدّه إعلانَ حرب، بحيث طلب من الجيش وقتها قصف السفينة، وكان الهدف كسر تنظيم "الإيتسيل"، فشهد الساحل الفلسطيني حرباً أهلية بين أفراد مختلف التنظيمات اليهودية، ثم تحوّلت النيران في اتجاه آلتالينا.
تسبب الاقتتال وقتها بمقتل وإصابة العشرات من اليهود، أغلبيتهم من "الإيتسيل"، في مقابل بضعة أعضاءٍ من تنظيم "الهاغاناه"، لكن سرعان ما توقف الأمر بعد أن طَلبَ بيغن من رجاله الاستسلام.
وكتب في مذكراته فيما بعد إنه أمر رجال "الإيتسيل" بعدم الرد على إطلاق النار، صارخاً: "حربٌ أهلية، مستحيل"، مُنبهاً لأهمية منع وقوع حربٍ أهلية، ومضيفاً: "لو حدثت حربٌ أهلية متبادلة، لكانت دمّرت إسرائيل".
اليوم، بعد ما يقارب 75 عاماً على تلك الحادثة، تعود نُذر الحرب الأهلية الداخلية إلى الساحة الإسرائيلية من جديد، ومرةً أخرى من بوابة الجيش. ويبدو كذلك أن "الجيش" الإسرائيلي يخوض حقل ألغامٍ سياسياً، فالتوترات بين قيادة الجيش والحكومة المُقبلة، على خلفية حادثة جنود "لواء جفعاتي" في الخليل، تتصاعد، وأزمة الثقة مع أجزاءٍ كبيرة من المجتمع الإسرائيلي تضع "الجيش" عند مفترق طرق، قد تقود إلى استمرار التصادم بينه وبين أجزاءٍ من التحالف الحكومي المقبل.
مَرَّ أكثر من شهر على فوز ائتلاف نتنياهو في انتخابات الكنيست الأخيرة، وأكثر من أسبوعين على الحادثة التي قام فيها جندي من جيش الاحتلال من "لواء جفعاتي" في الخليل بالاعتداء على ناشطٍ يهودي "يساري"، في حين ظهر جندي آخر وهو يؤيد بن غفير ويتوعد بعض "اليساريين" الإسرائيليين أيضاً قائلاً إنه، أي بن غفير، "سيغير القواعد التي كانت سائدة".
أحدثت هاتان الحادثتان ضجةً كبيرة في الأوساط العسكرية والسياسية، بل في المجتمع الإسرائيلي برمته.
وبالطبع، فهذه ليست هي المرة الأولى التي يجد فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسه في قلب جَدلٍ سياسي داخلي مُحتدم، فلقد سبق لحادثة إطلاق النار على فلسطيني مُصاب من جانب إليؤور أزاريا، الجندي الإسرائيلي اليمني، في تل الرميدة في الخليل في عام 2016، أن تسببت بعاصفةٍ كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي ومؤسسة الجيش، وما زالت ارتداداتها تهز المجتمع الإسرائيلي حتى اللحظة، لكن الانتقاد الحاد لـ"الجيش" الإسرائيلي لا يأتي هذه المرة من أوساطٍ شعبية بل من داخل الائتلاف الحكومي المستقبلي، بل من أركانه الأساسية، فلقد هاجم إيتمار بن غفير رئيس حزب "القوة اليهودية" ووزير الأمن القومي المنتظر في حكومة نتنياهو، رئيس الأركان أفيف كوخافي، وكذلك الضابط الذي حَكَمَ بإرسال جندي جفعاتي إلى السجن على خلفية ما تلفّظ به، قائلاً: "لا أرى أي خطأ في سلوك الجندي تجاه المتنمرين، وأنا آسف للعقوبة غير المتلائمة والتي فُرضت عليه، وبدلاً من دعم جنودنا يُصر النظام على الإضرار بهم".
لكن الجدل لم يقتصر على السياسيين، بل شمل مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث انهال المغردون الإسرائيليون على القيادة العليا للجيش الإسرائيلي بالشتائم، واتهموها بالتقصير في دعم الجنود.
وفي المقابل، تجنّد وزير حرب الاحتلال ورئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، وحتى رئيس الحكومة الحالي يائير لابيد، للردّ على تصريحات بن غفير وعلى مجمل ما جرى من ترتيباتٍ ائتلافية، يعتقد هؤلاء أنها ستُحدث شرخاً عميقاً في "دولة" الاحتلال بين الجيش من جهة، والسياسيين من الجهة الأخرى، بحيث بات الحديث علانيةً في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن خطر تفكك الجيش.
وحذّر بني غانتس وزير حرب الاحتلال ورئيس الأركان الأسبق، من مغبة نقل المسؤولية عن "حرس الحدود" إلى وزارة الأمن القومي بقيادة رئيس حزب "القوة اليهودية" إيتمار بن غفير. وبحسب غانتس، فإن القرار نابعٌ من الرغبة في "تشكيل ميليشيا" لبن غفير، كما حذّر من تسلل السياسة إلى الجيش الإسرائيلي التي ستُحوّله إلى "جيش نصف الشعب".
وهاجم قرار نقل وحدة الإشراف في الإدارة المدنية إلى وزارة المالية، بحيث تُصبح في يد رئيس الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، قائلاً: "يجب أن نحمي صورتنا وقوتنا الأخلاقية، لذلك سنحمي جنودنا أيضاً". وأضاف وزير حرب الاحتلال: "أنا على ثقة بأن القادة والجيش الإسرائيلي لن يرضخوا للمطالب غير القانونية. ففي جيش الدفاع الإسرائيلي، رئيس الأركان هو الذي يضع قواعد إطلاق النار، وهو الشخص المُخول فتح وحدات في الجيش وإغلاقها، والتدخل في هذه القرارات سيُعَدّ تجاوزاً خطيراً للسلطات المختصة. أنا واثقٌ بأن رئيس الأركان سيقف كجدارٍ صلب من أجل المحافظة على جيش الدفاع الإسرائيلي".
ووصل الأمر بوزير حرب الاحتلال إلى تحذير خَلَفه المنتظر في "وزارة الدفاع"، يوآف جلانت، المحسوب على حزب الليكود، من أن يقبل تولي المنصب كما هو معروضٌ عليه، "لأنك ستكون وزير دفاع من الدرجة الثانية، وستصبح المقاول لتفكيك وزارة الدفاع والجيش الإسرائيلي". وختم متوعداً بالرد "في مواجهة هذه الإجراءات، في مواجهة حلّ الجيش الإسرائيلي، في مواجهة تحويل الشرطة إلى كتيبة سياسية، وإنشاء جيوشٍ خاصة، سنقاتل ولن نُسقط الراية، ولن نُغادر، بل سنهُزّ البلاد".
وكذلك، فَعَلَ رئيس الأركان الحالي، أفيف كوخافي، الذي ندّد بالهجمات على قادة الجيش، وأوضح "أن مهاجمة قيم الجيش أمرٌ خاطئ، وأي تدخل سياسي في قرارات القادة أمر خاطئ، فالقادة فقط، هم من يُحددون المعايير وطريقة التعامل مع الحوادث في وحداتهم ولن نسمح لأي سياسي، لا من اليمين ولا من اليسار، بالتدخل في قرارات القيادة واستخدام الجيش في ترويج أجندة سياسية. إن التدخل السياسي في الجيش الإسرائيلي يُضر بصورة مباشرة بقدرة الجيش على القيام بمهماته وشرعيته. وإن الافتراء على القادة لأسباب سياسية هو مُنحدر زلق يجب علينا كمجتمع ألّا ننزلق إليه".
أثار الاتفاق الائتلافي بين الأحزاب الصهيونية الدينية والليكود، والذي تم الكشف عنه، غضبَ رئيس الوزراء المنتهية ولايته، يائير لبيد، الذي قال إن "نتنياهو باع الجيش الإسرائيلي للحريديم المتدينين، وأعطى مفاتيح البلد لبن غفير وسموتريتش. نحن هنا، سنحارب حكومة الفوضى، سننقل الناس إلى الشوارع".
أمّا العقيد المتقاعد إيال بن رؤوفين، نائب قائد المنطقة الشمالية الأسبق، فهاجم بن غفير قائلاً إنه "يواصل التصرف بنوع من البلطجة السياسية، عندما أرى أنه يهدد رئيس الأركان، فإنه يهدد قيم الجيش الإسرائيلي وقيم المجتمع الإسرائيلي التي ربحنا بها الحروب. هذا الرجل الذي أعطاه أحدهم له لقب وزير الأمن القومي يشكل خطراً جسيماً على الأمن القومي لإسرائيل".
يبدو أن الصدمة التي تصيب الجيش الإسرائيلي سببها أنه لطالما اعتقد أنه "فوق السياسة"، فهو "جيش الشعب الذي يرمز إلى الوحدة الإسرائيلية"، كما يصفونه، ولم يُخَيّل إلى قادة الجيش الإسرائيلي أنه سينتهي بهم الأمر في وضعٍ يكون فيه اليمين الإسرائيلي، وقادته على وجه الخصوص، دُعاة نزع الشرعية عن "قيم الجيش، ورموزه"، إلى حد إحداث شرخٍ بين الجيش واليمين الإسرائيلي. وبات من الواضح أن "الجيش" الإسرائيلي رمز الإجماع في "دولة" الاحتلال منذ إنشائه، يقترب فعلاً من مفترق طرق، فعلامات التمرد تزداد بين جنوده الذين يواجهون تأثير الرأي العام الذي يدعم في أغلبيته مثل هذا السلوك المتمرد، وخصوصاً من اليمين الإسرائيلي الذي يتعزز لديه الاتجاه إلى مهاجمة "الجيش" الإسرائيلي ونزع الشرعية عنه.
والواقع أن هنالك عدداً كبيراً من جنود الاحتلال الذين هم أقرب في مواقفهم، فيما يتعلق بالجيش، إلى مواقف سموتريش وبن غفير، بل إن جزءاً كبيراً من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم يتفقون تماماً مع هذا الموقف المتمرد، والذي يستسهل إطلاق النار على الفلسطينيين وإسكات الخصوم الإسرائيليين.
يذهب بعض المتابعين والمختصين الإسرائيليين إلى تفسير هذه الظاهرة بربطها بما يحدث داخل الجيش الإسرائيلي منذ الثمانينيات، بحيث إن العائلات التي تنتمي إلى "مجموعات القوى" في المجتمع الإسرائيلي تقوم بإرسال أبنائها إلى وظائف عسكرية ليس فيها ما يهدد حياتهم، كالوظائف الإدارية، أو التقنية والتكنولوجيا، والسيبرانية، وذلك بدافع الأهمية الاقتصادية المرتبطة بما بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية.
ويرى هؤلاء أن الفراغ الذي ينشأ في الوظائف القتالية في الجيش تملأه الجماعات التي كانت على الهامش في الجيش فيما مضى، مثل اليهود الشرقيين، والمهاجرين من الاتحاد السوفياتي وإثيوبيا، وبالطبع أنصار الصهيونية الدينية.
وحين يرى هؤلاء أنهم يتحملون العبء القتالي الأكبر في جيش الاحتلال فإنهم يُدركون أن لديهم القدرة على المساومة، ومطالبة الجيش بإعادة تشكيل ثقافته وقيمه بطريقة تعكس قيمهم، سواءٌ كان ذلك في تعليمات إطلاق النار على الفلسطينيين، أو فيما يخص سياسة العقاب تجاه الجنود.
وقد صوّت كثيرٌ من هؤلاء لبن غفير وسموتريتش لأنهما وعدا الجمهور الإسرائيلي بحلٍّ "سحري" حادٍّ شافٍ لمشاكلهم الأمنية على وجه الخصوص، أو كما عبّر عن ذلك رئيس أركان حرب الاحتلال الأسبق غادي آيزنكوت: "هؤلاء شبان لم يفهموا الوضع المعقد بعدُ، لذا حينما يأتي بن غفير وسموترتش ويقولون لهم "الموت للعرب"، يظنون أن حلّ مشاكلهم يكمن في قتل العرب، هكذا بكل بساطة"!
من الواضح أن هذا الصراع بات لحظةً فاصلة تمثل تحطم "الإجماع الإسرائيلي" بشأن ما سمّته الأدبيات الإسرائيلية "طهارة السلاح"، اللحظة التي ستُعيد بناء العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي وفق قواعد جديدة يُمليها اليمين الفاشي، وبات المراقب للمشهد الإسرائيلي يسمع شعاراتٍ تحريضية ضد قادة "الجيش" الإسرائيلي كتلك التي أطلقها جمهورهم ضد رئيس أركان حربهم السابق آيزنكوت، بعد حادثة استشهاد الشاب عبد الفتاح الشريف على يد جندي الاحتلال أزاريا في تل الرميدة في الخليل عام 2016، بحيث ردّد جمهورهم "أزاريا ملك إسرائيل"، و"احذر احذر يا غادي رابين يبحث عن رفيق"، في إشارة إلى مقتل رابين على يد أحد غُلاة المستوطنين قبل أعوام.
ولخّص آيزنكوت رئيس أركان حرب الاحتلال الأسبق مَنحَ بن غفير صلاحياتٍ واسعة وغير مسبوقة كوزيرٍ للأمن القومي، وتحريضه المستمر للجنود على مخالفة تعليمات الضباط، قائلاً "إن اللقب الذي حصل عليه بن غفير يشير إلى حجم العبثية التي نعيشها بسبب سلوك الائتلاف الذي قد يؤدي الى تفكك الجيش".
فهل تخطى بن غفير الخطوط الحمر، وهل يُثبت هذا الصراع الطاحن في "إسرائيل" أنها ليست "دولة" لديها جيش، بل العكس صحيح. وهل "الجيش الإسرائيلي" ذاهب ٌإلى التفكك فعلاً؟ وكيف سيتعامل قادة المؤسسة العسكرية مع تحالفٍ حكومي يميني يطمح أعضاؤه باستمرار إلى التدخل سياسياً في المؤسسة العسكرية والتأثير فيها؟ وهل يمكن رأب الصدع المتزايد باستمرار بين تعليمات القادة ورغبات الجنود؟ وأخيراً، هل سيكون رئيس أركان حرب الاحتلال المقبل، هرتسي هاليفي، الذي سيتولى منصبه في غضون شهر من الآن، قادراً على التعامل مع هذه التحديات التي تعصف بمؤسسة "الجيش"، أم أننا سنشهد الدخان يتصاعد من السفينة الإسرائيلية مرة أخرى؟