هل تراجعت "الإمبريالية اللسانية" للغتين الإنكليزية والفرنسية؟

 بما أن الصين تشكّل أكبر قوة صاعدة في مسارات مختلفة، فيمكنها ببساطة تسهيل الطريق أمام توسيع استخدام لغتها في العالم، وهي تمتلك القرار في هذه المسألة، فمن يُنتج يستطيع أن يتحدث!

  • هل تراجعت
    هل تراجعت "الإمبريالية اللسانية" للغتين الإنكليزية والفرنسية؟

"في الإمبريالية اللسانية أو اللغوية، تستطيع اللغة الإنكليزية أن تمنحك تذكرة دخول إلى أفضل الوظائف وأرقى الطبقات. أما اللغات الأخرى، فتُترك لتتقيّح، ويعجز الناطقون بها عن نقل العلوم التي تراكمت لأجيال باللغات المحلية".

كان هذا لسان حال المحاضر الشاب بيراوات بنياغوبتا في "حديث تيد" عام 2018، في إطار عرضه مفهوم الإمبريالية اللسانية أو اللغوية؛ ولو جرّبت بنفسك البحث عن بيراوات في محرك غوغل، فإنك لن تتمكن من ذلك إلا باستعمال اللغة الإنكليزية، لا الهندية ولا التايلاندية. يشبه الأمر ما قاله بيراوات نفسه، باعتبار اللغة الإنكليزية "تذكرة دخول" إلى مكان ما.

في لحظة ما بعد الانهيار الكبير للاتحاد السوفياتي، والتحكم المنفرد للولايات المتحدة في العالم، كان الدولار يهيمن على احتياطات المصارف والتبادلات التجارية بطريقة غير منصفة وغير عادلة، فعندما استبدّ الدولار بأكثر من 70% من التبادلات التجارية أو احتياطي المصارف، لم تكن الولايات المتحدة تُطعم العالم، ولا تؤدي احتياجاته بمنتجاتها (بالمناسبة، الولايات المتحدة تعاني عجزاً في الميزان التجاري منذ عام 1976م، وكان العام 1975م هو العام الأخير الذي يرى فيه الاقتصاد الأميركي قيمة موجبة في الميزان التجاري). 

وفي واحدة من سمات الإمبريالية الاقتصادية الأميركية الفريدة، لا تمثل الدولة الأميركية مصنع العالم، ولا تطعمه، وتستورد منه أكثر مما تصدر إليه، وتراكم في ديونها مع عدم النية في سدادها. ومع ذلك كله، فإن عملتها هي المهيمنة في العالم. 

ولكن ما علاقة ذلك كله بالإمبريالية اللغوية واللغة الإنكليزية؟ على سكة مماثلة تسير اللغة، فعلى الرغم من أن عدد المتحدثين باللغة الإنكليزية بشكل أصيل (Native speakers) لا يتجاوز 350 مليون إنسان، فإنها اللغة المهيمنة في العالم، ويتحدث بها أكثر من مليار ونصف مليار إنسان، ولكن هذا العدد الكبير يتحدّث اللغة تسييراً لأعمال، وحاجةً إلى اللغة التي تعمل بها المصارف والمؤسسات المالية والشركات والبرمجيات، وأحياناً حاجةً إلى لغة مشتركة تمددت وتوسعت بشكل لا ينسجم مع حجم المتحدثين بها بشكل أصيل، وهي حالة تشبه تماماً وضعية الدولار في ميدان الاقتصاد.

بالنسبة إلى فرنسا، ما زالت لغتها تقتات على مبدأ "الآثار الاستعمارية"، واللغة التي لا يتقنها بشكل أصيل أكثر من 80 مليون إنسان، تتمدد في مساحات أوسع مما تنتشر فيه اللغة البنغالية التي يتحدث فيها بشكل أصيل 272 مليون إنسان.

انتفاضات لسانية 

 بعد خروج الاستعمار الفرنسي من الجزائر، راهنت فرنسا على أن تستكمل اللغة العبء الأكبر من مسؤولية "الأثر الاستعماري". كانت إعادة تفعيل اللغة العربية رسمياً وشعبياً في بلد احتُل 130 عاماً مهمة صعبة تصدّى لها هواري بو مدين، وكلّف بها "حارس اللغة العربية" الأمازيغي مولود قاسم.

بدأت المهمة بتحويل صف دراسي واحد في كل سنة إلى الدراسة باللغة العربية، وبدأت أيضاً بتحويل تدريجي لليافطات في الشوارع والمحال التجارية إلى اللغة العربية، وإلى جانبها الفرنسية بخط صغير مقارنة بالعربية. عملت الخطوات البطيئة والممنهجة بفعالية على إعادة اللغة العربية، ويمكن القول إن الجزائر في ميدان أكاديميا اللغة العربية، باتت من الدول المتقدمة والجهات المقصودة. 

ومع "الرمزية" المهمة لخطوة الثورة الجزائرية، إلا أنها تنطوي على جانب عملي من بناء الدولة، فاستعادة اللغة تعني ببساطة استعادة الموروث والخبرات التي حُفظت باستخدام هذه اللغة؛ لا يمكن لمشروع تنموي أن يستمر إذا لم يتمكن من استرجاع موروثه الخاص، حتى لو كانت لديه الرغبة في التغيير الجذري لجوانب فيه.

في دول الساحل الأفريقي، ومع الموجات المتتابعة لتغيير أنظمة الحكم فيها، برزت على السطح استعادة التجربة الجزائرية في مواجهة اللغة الفرنسية، والعودة إلى اللغات التي اعتاد السكان التحدث بها، من الهوسا والفولانية إلى اللغة العربية ولغة الطوارق. في مالي، تم خفض مرتبة اللغة الفرنسية من لغة رسمية إلى لغة عاملة، وجرى تأطير ذلك دستورياً في البلاد.

وإذا كانت فرنسا قد راهنت في الجزائر على الزمن (130 عاماً من الاستعمار) في تجفيف اللغة العربية عبر الأجيال، فهي تراهن في بلد مثل مالي على التنوع القبائلي والعرقي الكبير الذي ينطوي على عدد كبير من اللغات المحلية تصل إلى 70 لغة، ما يضع نظام الحكم في أزمة البحث عن لغة جامعة والقلق من الاضطرابات القبلية عند اختيار اللغات الرسمية في الدولة. وإذا كانت الجزائر قد اتكأت على مولود قاسم في تجربة التعريب، فما على دول الساحل الأفريقي إلا المزيد من البحث عن المختصين اللسانيين والتربويين للجمع بين اللغات المحلية المتعددة.

يكمن الفرق بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية من ناحية مواجهة الانتشار في أن الأولى سقطت من مرحلة الاستعمار البريطاني وتلقفتها مرحلة العولمة الأميركية العاملة باللغة نفسها بطبيعة الحال. أما اللغة الفرنسية، فقفزت من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة المحاولات الفرنسية في الحفاظ عليها في الروابط الفرانكوفونية في مستعمراتها السابقة، وعبر الوجود الفرنسي العسكري والوجود الاستشاري في هيئات التعليم والمنظمات المدنية، وحاولت إطالة عمر وجودها، وهي في كل الأحوال مهمة أصعب من مهمة اللغة الإنكليزية المحمية بالوجود الأميركي اللاحق بالبريطاني، الذي عمل على توسعها وانتشارها أكثر، وليس العكس.

ومع ذلك، تشهد اللغة الإنكليزية تحفظات على مستويين؛ الأول هو قلق الدول من ضياع لغاتها المحلية، وافتقارها إلى المصطلحات العلمية التي تنحت باللغة الإنكليزية في أقسام البحث والتطوير العاملة في الدول الناطقة باللغة الإنكليزية وتحت رعاية الشركات العالمية التي تستخدم اللغة نفسها (برز هذا التحفظ مؤخراً في عدد من الدول الصديقة للولايات المتحدة، مثل الدنمارك والنرويج وهولندا)، والآخر هو صعود قوى اقتصادية جديدة، وعلى رأسها الصين، التي يعتبر البعض أن لغتها سوف تكون لغة المستقبل، لا لشيء إلا لأن اقتصادها هو اقتصاد المستقبل/الحاضر. 

هل نبدأ بتعليم أبنائنا اللغة الصينية؟

يشهد العالم اهتماماً متزايداً بتعليم اللغة الصينية، باعتبارها لغة الاندماج في مركز الاقتصاد العالمي المقبل. على امتداد القرون الماضية، كانت المندرين لغة تعمل داخل حدودها، ولم تكن هناك روافع لحملها خارج الحدود البعيدة عن الطوق الآسيوي.

اليوم، يبادر عدد من الدول إلى دمج اللغة الصينية في مناهجه الدراسية؛ فالسعودية تعتمدها لغة تعليمية ثالثة، وتذهب صحيفة "سعودي غازيتا" إلى ما هو أبعد في الحديث عن اتفاق لتضمين اللغة الصينية في جميع مستويات التعليم في المدارس والجامعات. وقد وافقت إيران على تدريس اللغة الصينية، وعقدت الجامعات التركية اتفاقيات مع معهد كونفوشيوس في الاتجاه نفسه. 

يقول جيفري جين صاحب كتاب "صعود اللغة الصينية كلغة عالمية – الاحتمالات والعوائق" إن 100 مليون إنسان يتعلمون اللغة الصينية في لحظة كتابة الكتاب الصادر في منتصف عام 2021م، ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى إشكاليات بنيوية في اللغة الصينية تمنع انتشارها، ويعتبر أن قوة الدولة وحضورها الاقتصادي لا يكفيان لتعميم لغتها، ويرى أن اللغة الإنكليزية تمكنت من تضمين معظم الروابط اللغوية التي تسهل انتشارها، وهذا ما لن يحدث بسهولة في الحالة الصينية، بسبب ما اعتبره "جموداً" في اللغة.

تمتلك الصين عدداً من الخيارات في تسهيل انتشار اللغة الصينية، واحدة منها الانطلاق من مبدأ اللغة المبسطة (simplified Chinese)، وربما يصل ذلك إلى الاعتماد على أبجديات قريبة من معرفة الناس اليوم. لا ننسى أن تركيا تمكنت خلال 100 عام من تغيير أبجديتها في إطار المشروع الأتاتوركي المتوجه إلى الغرب. واليوم، لا تتمكن الأجيال التركية الجديدة من قراءة الأبجدية القديمة (تجري المقاربة هنا فقط لجهة الزاوية الفنية في اللغة، وليس المشروع). 

هل نحن نتحدّث الإنكليزية أصلاً؟

حتى اللغة الإنكليزية، وفي إطار سعيها للانتشار، تكيّفت مع عوائق تعلم الشعوب لها، وهي تعمل اليوم بمنطق "Globish" في اختصار لـ"global english"، الذي يعني: 

- تعتمد اللغة الإنكليزية العالمية على معرفة الكلمات الأكثر أساسية والجوهرية والمفتاحية (Core language) لتهيئة الحد الأدنى الممكن من التواصل والفهم، ولكن هذا الحد لا يسمح بمعرفة الفروقات الدقيقة للتعبيرات التي يستخدمها الناطقون الأصليون باللغة، تماماً كما الفرق بين Feelings وEmotions.

- إجادة موظف المصرف اللغة الإنكليزية مختلفة عن إجادة مهندس الاتصالات لها، فكل واحد منهما مهتم بجمع أكبر عدد ممكن من مصطلحات ميدان عمله، إضافة إلى الكلمات المفتاحية الأساسية. 

إذا كانت آليات انتشار اللغة الإنكليزية قد قامت على هذا المبدأ الميسر، فهل يمنع إعادة استخدامه مع اللغة الصينية أن تبدأ الفئات العاملة بتعلمها اليوم؟

إن إطلاق لغة المستقبل يعني ببساطة تحول اللغة الصينية إلى أداة تواصل (’Medium – Carrier) لازمة للتعامل مع المصارف والشركات والمصانع وشركات التأمين والخدمات المختلفة والتعلم لفروع العلوم الصاعدة (الذكاء الاصطناعي مثلاً).

 وبما أن الصين تشكّل أكبر قوة صاعدة في هذه المسارات، فبإمكانها ببساطة تسهيل الطريق أمام توسيع استخدام لغتها في العالم، وهي تمتلك القرار في هذه المسألة بعد قليل من الوقت، فمن يُنتج يستطيع أن يتحدث!