نحن و "إسرائيل".. والإنكار!

في مقابل سعي "إسرائيل" المحموم لفرض قوانين وعقوبات قاسية على كل من يُنكر سرديتها، أياً تكن صدقيتها، تلجأ، في تناقض فج صارخ، إلى ممارسة الإنكار مع جرائمها ومع كل ما يخالف سياستها ولا يروق لها من خصومها.

0:00
  • الإنكار، بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، ليس خللاً معرفياً فقط، إنه قصور أخلاقي مَقيت.
    الإنكار، بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، ليس خللاً معرفياً فقط، إنه قصور أخلاقي مَقيت.

أقر "كنيست" برلمان الاحتلال الإسرائيلي، يوم الثلاثاء، على غرار قانون إنكار الهولكوست، قانوناً يعاقب بالسَّجن مدة خمسة أعوام كل من ينكر الأحداث التي وقعت خلال هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، والتي وصفها مشروع القانون الإسرائيلي بـ"مذبحة السابع من أكتوبر".

وبموجب نص القانون الإسرائيلي الجديد، "سيواجه كل من يُنكر علناً أحداث السابع من أكتوبر عقوبة تصل إلى خمسة أعوام في السجن". وبحسب المذكِّرات التوضيحية لمشروع القانون، فإن الغاية منه هي منع الأكاذيب والافتراءات المتعلقة بالمذبحة، والتي من شأن انتشارها السريع تقويض الجهود الرامية إلى "إثبات الحقيقة التاريخية".

كما سيَحُول القانون الجديد دونَ المحاولات الرامية إلى حماية "الجُناة" والتعبير عن الدعم لهم، الأمر الذي قد يُسهّل إنكار المذبحة تحقيقه، وفقاً لمشروع القانون. ومن أجل ذلك ربما تَعمَدُ "إسرائيل" إلى تدويل القانون الخاص بها لمكافحة إنكار المذبحة خارج "الأراضي الإسرائيلية" أيضاً، من خلال اقتراح إنشاء مشروع "جريمة جنائية جديدة"، على غرار حظر إنكار الهولوكوست، المعمول به في عدد من دول العالم.

في مقابل سعي "إسرائيل" المحموم لفرض قوانين رادعة وعقوبات قاسية على كل من يُنكر سرديتها، أياً تكن صدقيتها، تلجأ، في تناقض فج صارخ، إلى ممارسة الإنكار مع جرائمها ومع كل ما يخالف سياستها ولا يروق لها من خصومها.

فمن عَارِ الإنكار الإسرائيليّ الشديد للنكبة، كما كتب البروفيسور إيلان بابيه، المناهض للصهيونية، حيث كان التجاهل سهلاً لأن "إسرائيل" كانت تنفي باستمرار وجود أشخاص في هذه الأرض، ناهيك بطرد أشخاص من أراضيهم، فشعار الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، كان كذبة واعية، أو إنكاراً لحقيقة، مفادها أن ضحايا معاداة السامية الأوروبية هم أنفسهم مرتكبو أعمال العنف والطرد والاحتلال، إلى إنكار مذابح العصابات الصهيونية في دير ياسين والطنطورة وغيرهما، إلى إنكار "إسرائيل" المستمر لحقيقة الاحتلال وجرائمه المتواصلة، وانتهاءً بإنكار إنسانية الفلسطيني في الحرب التدميرية على القطاع لشرعنة قتله وتهجيره.   

تركز هذه المقالة على مناهج وهيكلة المَدارك الخاصة بفلسفة "الإنكار" في الوعي الجمعي الإسرائيلي، كما تتكشف في الخطاب الإعلامي، الرسمي والعام، في "إسرائيل"، وتحديداً في قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، حيث التنكّر لشواهد إنسانية حية عنها، الأمر الذي قد يمكّننا من الإطلال على الشكل الذي يُنظر فيه إلى هذه القضية داخل الحيز الإسرائيلي العام، ومدى تأثيره في بلورة الأنماط السلوكية لدى الجمهور الإسرائيلي في الأشهر القليلة الماضية، وخصوصاً مع بعد بدء عملية تبادل الأسرى في إثر دخول الصفقة حيز التنفيذ.

ويبدو أن المعتقد الأبرز في الخطاب الإسرائيلي العام تجاه قضية الأسرى يكمن في الإنكار بهدف استمرار نزع الشرعية عن المقاومة والفلسطينيين، بصورة عامة، مع عدم إبداء الاستعداد للتعامل مع الشواهد الإنسانية، التي تفضح سردية الشيطنة التي يتبناها الاحتلال تجاه كل ما هو عربي وفلسطيني.

والإنكار، من وجهة نظر علم النفس، هو ببساطة رفض الإقرار بأن حدثاً ما تمّ بالفعل، أو هو مقدرة العقل على الحجب، والنسيان، والتهميش، والتقليل من قيمة المعلومات التي تكون غير مريحة أو مؤلمة للنفس أو لـ"الدولة" والمجتمع، في الحالة الاسرائيلية. وسماه سيغموند فرويد "آلية الدفاع"، فحينما تواجِهُنا ذكريات ما تهدد فهمنا لوضعنا في العالم، نختار أن نمحو هذه المعلومات من ذاكرتنا ووعينا. 

والإنكار، في شقه الأخطر، هو الاستراتيجية شبه الواعية وشبه المتعمّدة لتجاهل ما لا نرغب في رؤيته في أنفسنا وفي العالم. إنه العلاقة التي تربطنا بأنفسنا بحيث نُخفي المعلومات من خلال استراتيجيات متعمدة ولاشعورية، في الوقت نفسه.

لنأخذ مثالاً على ذلك تناول الإعلام والمجتمع الإسرائيليين، ككل، للحالة الصحية للأسيرات الإسرائيليات الثلاث اللواتي تم الإفراج عنهن في الدفعة الأولى من الصفقة الحالية، بعد أكثر من 15 شهراً في الأسر.

ومع أنه بدا واضحاً، بشكل لا تشوبه شائبة من الصور الأولية التي ظهرت لهؤلاء الأسيرات، أنهن حظين بمعاملة طيبة إنسانية أخلاقية تَبدّت في ملامح وجوههن وفي نظافتهن الشخصية وفي سلامة صحتهن الظاهرة للعيان، إلا أنه لم يأتِ أحدٌ في "إسرائيل" على نقاش هذا الأمر بالمطلق، أو ذكره، لأن تناوله ينسف ببساطة مجمل السردية المفبركة التي بنتها "إسرائيل" والتي تنطلق من النظرة الاستعلائية القائمة على أن الأسرى الإسرائيليين يعيشون في "جحيم" خَلَقته أخلاق الفلسطينيين وسلوكهم "اللاإنساني".

فهم، أي الفلسطينيون، "يقومون بعمليات اغتصاب واعتداءات جنسية" على الأسرى والأسيرات الإسرائيليين، وهم متهمون بكلّ الفظائع التي يمكن للعقل البشري أن يتخيّلها تجاههم. 

فاستخدام "إسرائيل" "حالة الإنكار" هدفه، في حالة الأسيرات، إبعاد الأنظار عنها، أو إبعاد التفكير في القضية الأساس، وهي "حالة الأسيرات الإسرائيليات الصحية الممتازة"، وتوجيه الانتباه والاهتمام إلى قضايا أخرى "تشتيتية".

فهنّ "مصدومات ومرتبكات... إلخ"، وهو ما عبّر عنه الكاتب الأسترالي، جيرمي غريفيث، عبر وصفه "حالة الإنكار" هذه بأنها محاولة للهروب من المشكلة، أو التهرب من مواجهتها، من خلال ادعاء، مفاده أن الأمور خلاف لما هي عليه في الواقع. إنه حالة دفاع موقت، لكن في اتجاه إغماض العين عن الواقع الحقيقي البادي للعيان، وهي "صحة الأسيرات العامة الجيدة" التي تعكس أخلاق آسريهن.

في هذا المثال، لا تترتب على الإنكار أيّ عواقب أخلاقية أو حتى قانونية واضحة، بل يتمتع الإسرائيليون بالحرية المطلقة للانخراط في سلوكات الإنكار هذه. فالإنكار ليس انعدام المعرفة، لكنه شكل مُعقّد من أشكال المعرفة، وهو في هذه الحالة لا يعني فقط تنحية ذكرى أو صورة ما بشكل متعمد، بل هو اختيارٌ لتجاهل الحقيقة الواضحة أمام أعين الإسرائيليين، فالإنكار هنا هو فن "تلفيق" الواقع، وتحويل الحقائق الصعبة إلى صور غامضة وضبابية.

بعبارة أخرى، الأمر الفريد من نوعه، بالنسبة إلى الحالة الإسرائيلية، هو أنها لا تُنكر فقط العنف الذي صاحب الحرب التدميرية على القطاع وما نتج منه من فظائع، لكنها تَعُدّ أن الأسرى الإسرائيليين الذين يعيشون داخل القطاع "في قبضة المقاومة" هم ضحايا "لاإنسانية" الفلسطينيين، وليسوا ضحايا عنف "إسرائيل" التدميري. هذا الاستبدال الغريب لدورَي الضحية والمعتدي هو مثال واضح وكلاسيكي للإنكار، الذي يمحو أخطاء جانب ما ويتهم الجانب الآخر بالقيام بها. لكن هذا التكتيك لا يخلو من السخرية، فالإنكار المستمر لأخلاق الفلسطينيين وإنسانيتهم، والتي تتبدّى في ملامح الأسيرات المُفرج عنهن ووجوههنّ، هو ما يجعل "إسرائيل" وروايتها أقل شرعية في نظر العالم. 

الإنكار، بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، ليس خللاً معرفياً فقط، إنه قصور أخلاقي مَقيت، فالفرضية العملية التي تبنتها "إسرائيل"، منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية، ومفادها أن العالم سيستمر في تجاهل الاحتلال وفظائعه وسيتبنى روايته "الترقيعية"، تحطمت خلال أشهُر الحرب التدميرية على القطاع، وقد تجد "إسرائيل" نفسها قريباً مُقاطَعَةً ومنبوذةً مثلما حدث لجنوب أفريقيا في إبان عهد الفصل العنصري.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.