من كابول إلى شرق المتوسّط.. مشهد سايغون الحاضر

على الرغم من تغيّر بنية الأنظمة السياسيّة لكلّ من الصين وإيران وروسيا على مدى القرن العشرين، فإنَّ الجغرافيا السياسية فرضت نفسها من جديد على مسارات الصّراع في قلب آسيا.

  • استبقت الصّين وروسيا اللتان كانتا تستقرئان المستقبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فسارعتا إلى الإعلان عن مشروع منظمة شانغهاي.
    استبقت الصّين وروسيا اللتان كانتا تستقرئان المستقبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فسارعتا إلى الإعلان عن مشروع منظمة شانغهاي.

أثار إعادة مشهد سايغون في كابول والخروج المذلّ للأميركيين منها سؤالاً وحيداً: متى سيتكرر المشهد في العراق وسوريا ولبنان، بل في غرب آسيا بأكملها؟

أدّت الجغرافيا السياسية لقارة آسيا دوراً كبيراً في رسم مسار صراع الإمبراطوريات منذ بدايات القرن التاسع عشر، ما دفع الإمبراطوريات الغربيّة المتعاقبة إلى التعاطي مع التهديدات الآسيوية بشكل استباقي، إن كان مع الصين أو روسيا القيصرية أو إيران التي كانت مساحتها أكبر بكثير مما هي عليه الآن، وهو ما فسّر الاندفاعة البريطانيّة نحو احتلال أفغانستان في العام 1838، لمواجهة تهديدات التمدّد الروسي نحو الهند، الّتي كانت تمثل دُرَّة التاج البريطاني، وترافق ذلك مع بدايات التغلغل في الصين وإيران.

على الرغم من تغيّر بنية الأنظمة السياسيّة لكلّ من الصين وإيران وروسيا على مدى القرن العشرين، فإنَّ الجغرافيا السياسية فرضت نفسها من جديد على مسارات الصّراع في قلب آسيا، ما دفع وريثةَ بريطانيا الولاياتِ المتحدةَ إلى التدخّل استباقياً فيها من جديد، بصناعة الحالة الجهادية العالمية في أفغانستان التي تسبّبت بانهيار الاتحاد السّوفياتي.

استبقت الصّين وروسيا اللتان كانتا تستقرئان المستقبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فسارعتا إلى الإعلان عن مشروع منظمة شانغهاي ذات الأبعد السياسية الاقتصادية الأمنية، بعد اجتماع قادة روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان، لتدخل المنظمة حيّز التنفيذ في 19 أيلول/سبتمبر 2003. ولَم تكن هذه المنظمة سوى أحد أشكال الردّ على التهديدات الأميركيّة.

أدرك الأميركيّون باكراً حجم المخاطر المترتّبة على صعود الدول الثلاث، روسيا والصين وإيران، والَّذي قد يدفع إلى خروج الولايات المتحدة من كل قارة آسيا، فعمدوا إلى تقطيع أوصالها بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وبدأوا باحتلال أفغانستان للتموضع بين هذه الدول، ثم احتلوا العراق في العام 2003 للفصل بين إيران وسوريا ولبنان، وأتبع ذلك بمحاولة إسقاط سوريا ولبنان في حرب يوليو/تموز 2006، والعودة مجدداً عبر الحرب على سوريا، بحجة محاربة تنظيم "داعش"، لاحتلال شمال شرق سوريا ومنطقة التنف على الحدود السورية العراقية، لقطع التواصل البري بين البلدين، بعد أن استطاع التنظيم تأدية المهمة وإيجاد مبررات الاحتلال الأميركيّ.

لم تقف هذه الدول مكتوفة الأيدي أمام مخاطر التواجد الأميركي، فبادرت روسيا والصين إلى الاجتماع في بكين، الذي تحدث عنه وزير خارجية الصين يانغ جيتشي بجملة وحيدة: "سنعلّق مشنقة أميركا في أفغانستان"، على الرغم من نفيه دبلوماسياً في ما بعد، لكنَّ الرسالة وصلت، كذلك الأمر في إيران التي استطاعت تحويل التهديد إلى فرصة، والتواصل مع كل المجموعات الأفغانية، بما في ذلك الحكومة الأفغانية وتنظيم "طالبان"، وتقديم الدعم المناسب لإنهاك الأميركيين فيها، إضافةً إلى دعم مجموعات المقاومة في العراق ولبنان، ثم الانخراط المباشر في الدفاع عن بقاء الدولة السورية بشكل مباشر، والعمل المشترك مع روسيا عسكرياً، إضافةً إلى الصين سياسياً.

شكّلت الحرب على سوريا المنعطف الأقسى في الصراع. تغيّرت البيئة الاستراتيجية لوسط آسيا وجنوبها جذرياً، بعد الإعلان عن مبادرة "الحزام والطريق" في العام 2013 من كازاخستان، وخصوصاً بعد أن استطاعت الصين احتواء باكستان بشكل كامل في المشروع الصيني، وجعلها ممراً أساسياً للممرات البحرية والبرية، وبناء مرفأ غوادرو للتجارة، وللخلاص من استمرار التهديدات الأميركية في مضيق ملقا، واختصار مسافة نقل البضائع والمشتقّات النفطية إلى 3000 كم بدلاً من 12000 كم.

تمت إحاطة أفغانستان بإطار إقليميّ كامل من الدول المتفاهمة على مخاطر الوجود الأميركي فيها، ما جعلها منطقة لا يمكن أن تعيش بسلام إذا لم تكن متفهّمة لصعوبة الحياة من دون إدراك قيمة التعاون مع المحيط الإقليمي، وخصوصاً بغياب الإطلالة على المحيط الهندي، وهو ما أدركته قيادات حركة "طالبان"، فسارعت إلى إرسال وفود قيادية إلى طهران وموسكو وبكين، والتأكيد على التعاون والتنسيق مع هذه الدول لمنع نشاطات الجماعات الجهادية العابرة للحدود، وحتى لا تكون أفغانستان مصدراً لزراعة المخدرات وتجارتها.

مقابل ذلك، تلقَّت الحركة وعوداً صينية بإدخال أفغانستان ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، والاستثمار في المعادن الثمينة فيها، التي تتجاوز قيمتها التقديرية تريليون دولار، ما دفع هذه الدول إلى إبقاء سفاراتها في العاصمة كابول، على عكس دول التحالف الغربي التي سحبت موظفيها.

زلزل مشهد الانسحاب الأميركي قبل موعده الداخل الأميركي، ما أثار الانقسام الأميركي مجدداً حول مستقبل سياسات الولايات المتحدة في العالم، وأعاد التذكير بأنها لم تربح أية حرب بعد هزيمتها في فيتنام، رغم كل ما سببته من كوارث في الدول التي تدخّلت بها عسكرياً بشكل مباشر، ولَم تتوقف تداعياته فيها، بل وصلت إلى حلفاء واشنطن في الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل"، وأثارت الشكوك بعمق بمستقبل الغرب عموماً وانعكاسه على صورة العالم القادم، بحكم الانكفاء الأميركي المستمرّ أمام صعود الصين وروسيا ومن معهما بشكل متواصل.

ما حصل في أفغانستان غرز عميقاً في كلّ العالم، وخصوصاً في منطقة غرب آسيا، التي تشهد احتداداً متدرجاً بالمواجهة مع الأميركيين، وخصوصاً في سوريا والعراق اللذين يشهدان تصاعداً في عمليات المقاومة لإخراجهم منهما، وهذا بطبيعة الحال سيترك آثاره في الملف النووي الإيراني والملف السوري واللبناني والفلسطيني واليمني. وبالتأكيد، إنّ القلق يسيطر على الدول والقوى السياسية التي تعتمد في استمرار وجودها على المظلة الأميركية، ما يدفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها من جديد.

الواضح أنَّ مسيرة الانسحابات الأميركية من كلّ المنطقة ستستمرّ، مع البحث عن الكيفية التي تحفظ ما تبقى من وجه القوة الأميركية، وذلك بالبحث عن حلول تؤمّن المصالح الأميركية وما تبقى من هيبتها. ويبقى مستقبل المنطقة مفتوحاً على صراعات لا يمكن التكهّن بنتائجها النهائية على مستوى جغرافيا الدول وديموغرافيتها، بفعل غياب الرؤية المستقبلية لها، واستمرار تأكّلها الداخلي، وخصوصاً دول شرق المتوسط والجزيرة العربية التي لم تعمل على إنتاج دول حقيقيّة متكاملة.

 

مع بدء الولايات المتحدة تطبيق خطة الانسحاب من أفغانستان، بدأت حركة "طالبان" تسيطر على كل المناطق الأفغانية، وتوجت ذلك بدخولها العاصمة كابول، واستقالة الرئيس أشرف غني ومغادرته البلاد. هذه الأحداث يتوقع أن يكون لها تداعيات كبيرة دولياً وإقليمياً.