من تدمر إلى الطيّونة.. مفاوضات بالنار
لم تكن معركة الصراع على غاز شرقي المتوسط بعيدةً عن دوافع الاستعجال الأميركي بشأن حسم ملفات المنطقة.
يأتي الهجوم على تدمر واستهدافُ القوات الحليفة لسوريا من دون الإنذار المسبّق والمتفَق عليه مع روسيا، وبعده الهجوم المدبَّر في مكيدة على المعتصمين في الطيونة ببيروت، بفاصل ساعات بينهما، ليرسما حدود التفاوض بالنار بشأن كل منطقة غربي آسيا، وليس سوريا ولبنان فقط.
منذ أن تغيّرت توجهات الإدارة الأميركية في طريقة تعاملها مع منطقة غربي آسيا، بدأت المؤشّرات على ذلك بالتضافر، بدءاً من الصمت بشأن عودة الجيش السوري إلى الجنوب السوري، ولَم تتوقف حتى الآن على الرغم من عدم انعكاسها فعلياً على الداخلَين السوري واللبناني، بل إن بعض الأحداث المتتالية يشير إلى عكس ذلك.
تخوض الإدارة الأميركية، بقيادة جو بايدن، صراعاً مع الزمن. فهي تدرك حدة الانقسام الأميركي الداخلي، نتيجةً لسياسات العولمة، التي اتخذت أبعاداً متسارعة بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوڤياتي، الأمر الذي جعل القسم الأكبر من الشركات الكبرى تنتقل، مع إمكاناتها، نحو الصين بصورة أساسية، وسائر دول جنوبي شرقي آسيا، الأمر الذي أحدث مديونية عالية مترافقة مع البطالة، وخصوصاً في الولايات الصناعية في وسط أميركا وغربيّها.
هذا الأمر دفع واشنطن إلى التعاطي مع غربي آسيا من منظور مغاير، بالإضافة إلى مخاطر تهديدات الصعود الصيني الكبير، وتشابك مصالح كل من بكين وموسكو وطهران، في مواجهة التهديدات الأميركية المشتركة لها. ولَم يكن لهذا التعاطي أن ينجح، بالنسبة إلى واشنطن، إلاّ بالإقرار بعجزها عن إكمال مشروعها للشرق الأوسط الكبير، وضرورة التعاطي مع طهران من منطلق الاعتراف بحجم الدور الكبير الذي أدّته هي وشركاؤها في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
من هنا، كانت إرادة العودة إلى الاتفاق النووي مدخلاً لنظام إقليمي جديد، غير مندمج في المشروعين الآسيويين الكبيرين، بالاستفادة من الضغوط القصوى في إثر تمزيق ترامب للاتفاق النووي في 8 حزيران/يونيو 2018، والعقوبات الشاملة التي نجمت عن ذلك، الأمر الذي انعكس على دول المحور وقواه، التي تشهد صعوبات اقتصادية كارثية.
لكن طهران لم تكن مستعجلة العودةَ إلى الاتفاق ضمن الشروط الجديدة، وخصوصاً بعد بَدء تنفّسها الاقتصادي غداة بَدء الصين استيرادَ النفط الإيراني، وارتفاع صادراتها إلى دول منظمة أوراسيا بنسبة 47 %. وترافق ذلك مع تصعيد نووي كبير، عبر رفع تخصيب اليورانيوم إلى حدود 60 %، الأمر الذي دفع الأميركيين، ومعهم دول الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل"، إلى أعلى درجات التوتر.
كان التصوُّر الأميركي لغربي آسيا يعتمد على إمكان إغراء طهران عبر رفع العقوبات الاقتصادية، والاعتراف بنفوذ محدود في محيطها الإقليمي، ورسم حدود مقبولة لدورها، على نحو لا يشكّل تهديداً للمصالح الأميركية وأمن الاحتلال الإسرائيلي، لكن هذا الأمر لم يدفع طهران إلى التجاوب مع المطالب الأميركية، بل تحوّلت إدارة المعركة إلى يدها، عبر التمنُّع عن الذهاب نحو المفاوضات، بدعم روسي صيني، وممارسة مزيد من الضغوط العسكرية الميدانية على الوجود العسكري الأميركي في كل من العراق وسوريا، من أجل دفع الأميركيين إلى الخروج الكامل من هذين البلدين.
لم تكن معركة الصراع على غاز شرقي المتوسط، وخصوصاً لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة، بعيدةً عن دوافع الاستعجال الأميركي بشأن حسم ملفات المنطقة، وخصوصاً بعد تدمير جزء كبير من بنية سوريا، اقتصادياً وديمغرافياً، وما تلاه من عقوبات غير معلنة على لبنان، كانت شديدة الوطأة على كل اللبنانيين، لتصل الأمور في "تل أبيب" إلى تسليم شركة "هاليبرتون" الأميركية مهمةَ التنقيب عن الغاز في حقل كاريش، في المنطقة البحرية اللبنانية عند الحدود مع فلسطين المحتلة، وهي الشركة نفسها التي أدارها ديك تشيني قبل أن يصبح نائباً للرئيس الأميركي جورج بوش عام 2001، وهي الشركة التي كانت لها أدوار قذرة في الجزائر وليبيا ومصر وقبرص، والتلاعب بالخرائط البحرية بين مصر وقبرص و"إسرائيل" منذ عام 2003، بالإضافة إلى دورها القذر أيضاً في العراق بعد احتلاله.
تباينت الإرادات الأميركية والإيرانية في العراق وسوريا، وتحوّل الأمر إلى معركة كسر إرادات بين الطرفين، فاستطاع السيد حسن نصر الله كسر قاعدة الحصار النفطي، بدعم إيراني سوري، وعمل على إدخال الوقود الإيراني عبر مرفأ بانياس النفطي في سوريا، واشتدّ ضغط "أنصار الله" على مأرب في اليمن، ووصل عناصرها إلى مداخلها الجنوبية في مديرية جوبة.
في المقابل، استطاعت واشنطن تحقيق ما خطّطت له في العراق، وتم إنجاز انتخابات عراقية مشكوك في أمرها، تخدم نتائجها مشروع استمرار الوجود الأميركي، بالإضافة إلى إرسال نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند إلى بيروت، وهي المعروفة بتشدُّدها الصهيوني، من أجل تثبيت بقاء القاضي طارق بيطار في تحقيقات مرفأ بيروت، لاستمرار حالة الضغط على حزب الله، ودفعه إلى الإقرار بـ"حق إسرائيل" في دورها الإقليمي وأمنها.
لم يكن لهذا النجاح الأميركي أن يتمّ قبوله، وخصوصاً بعد نجاح دول المحور وقواه في تجاوز القطوع الأخطر من المواجهة، وبدء مؤشّرات تحوّله إلى مبدأ الهجوم في اليمن، وفي غزة خلال معركة "سيف القدس"، ونجاحه في تثبيت وقائع جديدة أرغمت السعوديين والإسرائيليين، ومن خلفهم القوى الغربية، على المسارعة إلى احتواء هذه التحولات وتقديم مقترحات وتنازلات جديدة، الأمر الذي دفع القوى العراقية الرافضة نتائجَ الانتخابات إلى الاعتراض عليها بقوة، وكشف عمليات التزوير الواسعة عبر التلاعب بصناديق الاقتراع الإلكترونية، مع التهديد بتشكيل الكتلة الانتخابية الأكبر وإمكان نجاح ذلك، بالإضافة إلى استمرار الهجوم العسكري لحركة "أنصار الله" على مدينة مأرب وبدء انضمام قبائلها إلى الحركة، في موازاة العمل على تنحية القاضي طارق بيطار الذي يترجم الرغبات الأميركية في لبنان، من خلال بدء الاعتصام في الطيونة في مقابل القصر العدلي.
لم يستطع الأميركيون أن يتحمّلوا مزيداً من خسارة الزمن، عبر عدم قدرتهم على إجبار الإيرانيين على العودة إلى مفاوضات ڤيينا من جديد، ولَم يستطيعوا أن يغيّروا موقف دمشق تجاه مجمل قضايا السياسة الخارجية، ولم يستطيعوا أن يُجبروا القوى العراقية المقاوِمة على قبول نتائج الانتخابات، ولَم يستطيعوا أن يُجبروا حزب الله على قبول وضع جديد يخدم المصالح الأميركيةـ الإسرائيلية، ولَم يستطيعوا إجبار "أنصار الله" على إيقاف هجومهم على مأرب، ولَم يستطيعوا تغيير نتائج معركة "سيف القدس" عبر الحصار والضغوط العربية، فكان لا بدّ من رفع سوية المفاوضات مع هذه القوى إلى درجة التهديد بأننا قد نذهب إلى الحرب، وعدم السماح لها بتثبيت وقائع ما أنجزته، ولو كلّفها ذلك كثيراً.
لا شكّ في أن ما حدث في "تدمر" و"الطيونة" لن يمر بسهولة كما يتصور البعض. فعلى الرغم من التعب والإرهاق اللذين أصابا شعوب هذا المشرق بفعل الحروب التي لم تتوقف منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن، وعلى الرغم من الحجم الكبير للفشل في إدارة الداخل، فإن الطرف الآخر من المواجهة ليس بخير، كما عبَّر عن ذلك ريتشارد هاس بالقول "إن أميركا عملاق مثير للشفقة لا حول له ولا قوة"، وهو الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية الأميركية، وصاحب عقيدة أو عقدة "حروب الأعوام الثلاثين في الشرق الأوسط"، بفعل الحروب التي خاضها ضدنا من جهة، وبفعل اليقين المترسّخ لديه، بأن أمامه سنوات فقط قبل الإقرار بولادة نظام دولي جديد، يتيح لنا فرصة التقاط الأنفاس، والتفكير الواعي والعميق من أجل استثمار هذا التحول لإعادة بناء هذه الأوطان بطريقة مغايرة، وعلى نحو يخدم شعوبها كسائر الشعوب الناهضة.