مفاوضات ترسيم الحدود.. مساومات على سيادة لبنانية منقوصة

الخرق الإسرائيلي اليومي المتكرر لسيادة الدول المجاورة لفلسطين، وخصوصاً الممانعة منها، يعتبر لدى المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية أمراً طبيعياً .

  • آلية العمل الصهيوني ترتكز على مقاربات متناقضة في جوهرها من حيث الفعل ورد الفعل. 
    آلية العمل الصهيوني ترتكز على مقاربات متناقضة في جوهرها من حيث الفعل ورد الفعل. 

منذ قيام الكيان الإسرائيلي، لم يكن القادة الصهاينة معنيين بتحديد حدوده، إذ إنَّهم كانوا متيقنين بأن زواله قد يكون النتيجة النهائية لهذا الفعل، فالتوسع الدائم حد الوصول إلى تحقيق الحلم بقيام "دولة إسرائيل الكبرى" كان الهدف الأساسي لكلِّ الحروب التي خاضوها منذ العام 1948 وصولاً إلى اجتياح لبنان في العام 1982. 

وإذا كانت معاهدات التطبيع التي وُقعت مع بعض الدول العربية أرست نوعاً من التهدئة وفرضت اعترافاً بوجود الكيان الإسرائيلي، فإنها، وإن كرَّست لدى الدول العربية الموقعة اعترافاً بحدود لا تتخطى حدود فلسطين الطبيعية، لم تشكّل في الوعي الإسرائيلي قناعة بنهائيتها أو بضرورة احترامها انطلاقاً من مبادئ القانون الدولي، فالمنطق الاستراتيجي الصهيوني القائم على أساس ضرورة تكريس مجال حيوي مناسب لما يعتبرونه حاجة للبقاء، كرّس ضرورة مراعاة الظروف التي قد تُقرأ عدم اعتراف بنهائيتها وإمكانية تعديلها انطلاقاً من معطيات الزمان والمكان والظروف الإقليمية والدولية.

لذلك، إنَّ اتفاقيات التطبيع التي وُقّعت مع الدولة المصرية أو المملكة الأردنية شرعت انتقاصاً لسيادة تلك الدول من حيث الترتيبات الأمنية على الحدود، فالكيان الإسرائيلي الذي كان معنياً بكسر التضامن العربي في تلك المرحلة وافق على خط الحدود الذي رسمه الانتداب البريطاني، مقابل التزام الدول العربية بترتيبات أمنية وعسكرية وضمانات سياسية تضمن تفوّقه وقدرته على قضم هذه السيادة متى ناسبت مصالحه وتطلعاته.

وإذا كان مفهوم السيادة هو جوهر البناء التقليدي للعلاقات الدولية، والمنطلق الذي تعتمده الدول في ممارسة علاقاتها الدولية، بالتوازي مع مفهوم المساواة في السيادة الذي كرّسته المعاهدة المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة، فإنَّ المفهوم الإسرائيلي يتوافق أكثر مع أيديولوجية استعمارية تفترض إمكانية تطويع سيادات الدول المجاورة لتحقيق مصالح الكيان التوسعية والاستعمارية. 

لذلك، إنَّ الخرق الإسرائيلي اليومي المتكرر لسيادة الدول المجاورة لفلسطين، وخصوصاً الممانعة منها، يعتبر لدى المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية أمراً طبيعياً تفرضه الضرورات الأمنية ولا يجب الاعتراض عليه.

في المقابل، إنَّ تسجيل أيّ خرق لـ"سيادته"، وإن كان عرضياً أو غير مقصود، سيستدعي رداً عنيفاً، إضافة إلى العمل على إدانته في المحافل الدولية ولدى القوى الكبرى. ولذلك، يمكن القول إنّ آلية العمل الصهيوني ترتكز على مقاربات متناقضة في جوهرها من حيث الفعل ورد الفعل. 

بناءً عليه، يمكن إسناد الموقف الإسرائيلي من المفاوضات الحالية حول ترسيم الحدود البحرية مع لبنان إلى هذه الفرضية، فالكيان لم يكن معنياً بهذا الترسيم قبل اكتشاف وجود كميات واعدة من النفط والغاز في المياه الإقليمية والاقتصادية لكلا الطرفين. 

وإذا عدنا إلى مقاربة الكيان الإسرائيلي للواقع اللبناني، فإنَّ المقاومة بسلاحها وقدرتها على الردع وعلى فرض معادلاتها على الحدود الجنوبية ساهمت في ربط مصير الحدود الجنوبية للبنان بعملية تفاوضية غير مباشرة.

وإذا كان التفاوض بين أي طرفين يستهدف الوصول إلى تحقيق نظرية "رابح رابح"، فإن الكيان الإسرائيلي فرض على الدولة اللبنانية، منذ بدء العملية التفاوضية، سقفاً محكوماً باتفاق غير مبرم عقده ممثل عن الدولة اللبنانية مع قبرص في العام 2007، مع الإشارة إلى أنَّ رفض المؤسسة الدستورية اللبنانية لهذا الاتفاق كان نتيجة يقينها بأنّه لم يراعِ المصلحة اللبنانية، وأنه كان نتيجة سيئة لجهل الوفد المفاوض بحقوقه وعدم قدرته على الإحاطة بحساسية هذا الاتفاق ونتائجه. 

وبالتالي، إنّ الوساطات التي مارستها الإدارة الأميركية عبر السفير الأميركي السابق فريدريك هوف أو الوسيط الحالي عاموس هوكشتاين، لم تستهدف تصحيح الخلل في ترسيم الحدود، عبر العودة إلى ما تنصّ عليه الاتفاقيات الدولية لقانون البحار، وإنما هدفت عبر مراحلها المتلاحقة إلى محاولة إقناع الجانب اللبناني بعدم جدوى البحث عما يحفظ حقوقه القانونية، وبضرورة السير وفق تسوية تضمن الوصول إلى حلّ تقرر الإدارة الأميركية عدالته من حيث تناسبه مع المصلحة الإسرائيلية وما تعتبره كافياً للدولة اللبنانية. 

وإذا كان الجانب اللبناني قد نجح في التملّص من المحاولات الأميركية لفرض خطّ فريدريك هوف كأساس لترسيم الحدود البحرية، فإنَّ التعارض في وجهات النظر اللبنانية بين داعم للتفاوض وفق الخط 23 وآخر متمسك بالخط 29، الذي يمثل الحق القانوني للدولة اللبنانية، دفع الكيان الإسرائيلي، وخلفه الوسيط الأميركي، إلى اتهام الدولة اللبنانية بالمماطلة والتسويف.

وعندما استقرَّ القرار اللبناني على تكليف الجيش اللبناني بالتفاوض مع الكيان الإسرائيلي على ترسيم الحدود، بوفد يرأسه العميد ياسين، بدا جلياً أنَّ الأطراف السياسية اللبنانية أدخلت ملف التفاوض مع الكيان في أجندة سجالاتها الداخلية، وأفقدته الإجماع الضروري لتحقيق المصلحة العليا للدولة اللبنانية.

وعن جوهر الإرادة المحركة لكلا الطرفين في تعاطيه مع الآخر، لم تكن نمطية التفكير اللبناني بعيدة كثيراً عن منطق الزبائنية في التعاطي مع حقوق الدولة اللبنانية، من حيث الاختلاف على الخطوط الواجب اعتمادها وعدم التكاتف خلف الوفود المفاوضة. 

في المقابل، ظهّر السفير الإسرائيلي السابق عوديد عيران الإطار الحاكم لاستراتيجية الكيان في مقاربته لملف الترسيم، حين قال لفريدريك هوف: "كما تعلم، لسنا معتادين على تسوية نحصل بموجبها على 45% من أيِّ شيء"، فالتفاوض وفق مبادئ القانون الدولي لم يكن موضع اهتمام الطرفين.

وإذا كان الطرف الإسرائيلي معنياً بتحقيق المصلحة الإسرائيلية، بغض النظر عن مدى ملاءمة سلوكه للقانون الدولي للبحار، مع الإشارة إلى أنَّه لم يوقع على اتفاقيات هذا القانون، فإنَّ بعض أطراف السلطة في لبنان، وعلى الرغم من توقيعهم على هذه الاتفاقيات، يجهدون في استخدام العملية التفاوضية كورقة للتقرّب من الإدارة الأميركية ومحاولة إبداء حسن النية والسلوك لأسباب مختلفة، من دون أيّ جهد يُذكر للاستفادة مما تقدمه هذه الاتفاقيات من ضمانات وحقوق.

وحيث نجحت الإدارة الأميركية، عبر منظوماتها المالية والسياسية، في تشديد الضغط على الدولة اللبنانية وربط مسار ترسيم الحدود بالمساعدة في التخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها لبنان، لم تبدِ الدولة اللبنانية أي نية للاستفادة مما تمتلكه من أدواتٍ للقوة قد تمكّنها من الحفاظ على حقوقها كاملة، أو على الأقل الوصول إلى تسوية تفصل ملف مفاوضات الترسيم عن أيّ ملف آخر.

ورغم إعلان الأمين العام لحزب الله، في أكثر من مناسبة، استعداده لتقديم أيّ مساعدة تمكّن لبنان من ضمان حقوقه المائية والنفطية، فقد بقيت السلطة اللبنانية متمسّكة بخيار استرضاء الموفد الأميركي. 

وفي هذا الإطار، يمكن تصنيف القرار اللبناني الأخير بالتنازل عن الخط 29، والمفاوضة على الخط 23، بما يضمن للجانب الإسرائيلي تنازلاً لبنانياً عن مساحة تزيد على 1400 كلم.

ولأنَّ هذا القرار أعقب تصريحاتٍ لهوكشتاين، فحواها ضرورة اتخاذ الدولة اللبنانية قرارات مجدية في هذا الملف، لارتباط ترسيم الحدود البحرية، بحسب زعمه، بالقرار الدولي لانتشال لبنان من أزمته، ولارتباطه أيضاً بدعم ملف لبنان في صندوق النقد الدولي، فإنَّ في ذلك إشارة إلى خطورة هذا القرار ومدى تأثيره في قرار الدولة السيادي.

بناءً عليه، إنَّ ما ظهر من تنازل لبناني عن الخط 29 أظهر انصياعاً، عبر الضغوط الأميركية والدولية، للمطلب الإسرائيلي، بما قد يسمح بإضافة لبنان إلى حظيرة الدول الخاضعة في سيادتها لما تقرّره المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وبما قد يساعدها على تخطّي إشكاليتها لتوازن الردع الذي جهدت المقاومة اللبنانية على تثبيته منذ تحرير العام 2000.