معضلة المقاومة في الضفة الغربية والخيارات الإسرائيلية
جميع الخيارات الإسرائيلية معقدة، وصعبة، وتحمل معها العديد من الحسابات بشأن الأمن القومي الإسرائيلي، ولكن في المقابل "إسرائيل" لا يمكنها تحمل استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه.
أعلن "الجيش" الإسرائيلي أنه في الأشهر الأخيرة من عملية "كاسر الأمواج"، تم اعتقال أكثر ألفي فلسطيني، ومصادرة ما يقارب 300 نوع سلاح، وإحباط أكثر من 312 عملية فدائية خلال هذا العام.
ومن الجدير بالذكر أن عملية "كاسر الأمواج" تعتمد في فلسفتها العسكرية والأمنية على استنزاف قدرات المقاومة، وخاصة في شمال الضفة الغربية، بشكل دائم ومستمر، بحيث تحدث تأكلاً تدريجياً للعوامل الدافعة لبقاء حالة المقاومة، وبالتالي الإجهاز عليها من دون الحاجة إلى عملية عسكرية إسرائيلية واسعة ومكثفة على غرار عملية "السور الواقي" عام 2002، التي أعاد بها "الجيش" الإسرائيلي احتلال مناطق السلطة الفلسطينية.
لكن، بالرغم من كل ذلك، يعترف "الجيش" الإسرائيلي بأنه يجد صعوبات جمة في وقف عمليات المقاومة، وخاصة عمليات إطلاق النار في أرجاء الضفة الغربية، وأعلن رئيس الشاباك، رونين بار، "أن هناك زيادة بنسبة 30% في عمليات إطلاق النار مقارنة بالعام الماضي، لقد عانينا من أكثر من 130 عملية إطلاق نار هذا العام، مقارنة بـ 98 في عام 2021 بالكامل، و19 في عام 2020".
لكنّ الأهم، من وجهة نظرنا، أن "الجيش" الإسرائيلي يعترف بأن المقاومة في الضفة الغربية أجادت صنع النموذج الملهم للمقاوم، الذي يمتشق بندقيته ويواجه بها قوات الاحتلال، كما عبّر عن ذلك الاحتفاء الشعبي بنموذج الشهيد إبراهيم النابلسي ومن قبله الشهيد جميل العموري، وخاصة بين الشباب الفلسطيني، مستفيدة من مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما موقع "تيك توك"، وبالتالي تحول تنفيذ عمليات إطلاق النار إلى ظاهرة (ترند) في الضفة الغربية لا سيما في شمالها، إذ سجلت لنفسها 80% من تنفيذ تلك العمليات، بحسب "الجيش" الإسرائيلي.
بدأت تصريحات قادة المنظومتين الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بالإقرار أن عملية "كاسر الأمواج" لا تلبّي الأهداف المرجوة منها، وأن استمرار الأوضاع في الضفة الغربية على هذه الحال يسير بـ "إسرائيل" إلى كارثة أمنية استراتيجية لن يقتصر تأثيرها على مناطق الضفة الغربية فقط، بل سيتعداها إلى مناطق فلسطين المحتلة عام 48.
وأشار تنامي عدد الإنذارات الأمنية لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى نيات تنفيذ عمليات فدائية داخل فلسطين المحتلة عام 48، وعلى ضوء ذلك، باتت "إسرائيل" تفكر في خيارات جديدة لمواجهة المقاومة في الضفة الغربية، أهمها:
أولاً، العمل على زيادة وتيرة عملية "كاسر الأمواج" الإسرائيلية، بشكل كبير، وغير مسبوق، في الضفة الغربية، كون المؤسستان العسكرية والأمنية الإسرائيليتان باتتا مدركتين أن حجم استنزاف المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية من خلال عملية "كاسر الأمواج"، تقابله زيادة أكبر في حجم الروافد الداعمة والمعززة لانتشار المقاومة من قبل الحاضنة الشعبية الفلسطينية.
ويبدو جلياً انتشار التشكيلات العسكرية المقاومة في محافظات شمال الضفة الغربية كافة، وعدم اقتصارها على جنين بلد منشأ الظاهرة، بالإضافة إلى انخراط قطاعات شعبية جديدة في العمل المقاوم، كقناعة فلسطينية شعبية أن فكرة التعايش مع الاحتلال تحت شعار حل الدولتين ما هو إلا وهم كبير، وستار لتمرير مزيد من الاستيطان والتهويد ومحاصرة الفلسطينيين تمهيداً لتهجيرهم وضمّ الضفة الغربية.
بات كل شاب فلسطيني مشروع منفذ عملية فدائية محتملة، ناهيك بتطور نوع التكتيكات القتالية، وبدء ظهور عمليات تفجير العبوات الناسفة في آليات "الجيش" الإسرائيلي، وتكريس مواجهة عمليات الاعتقالات الإسرائيلية من خلال معادلة عدم الاستسلام حتى آخر رصاصة أو الاستشهاد.
وبناءً على ذلك، بات المطلوب زيادة حجم الاستنزاف الإسرائيلي للمقاومة من خلال عملية "كاسر الأمواج"، ليس فقط من خلال زيادة عمليات الاعتقالات وملاحقة المطلوبين، بل أيضاً بإدخال أسلحة جديدة للخدمة العسكرية في ساحة الضفة الغربية، مثل الطائرات المسيّرة المزوّدة بالصواريخ، كإشارة إلى تحوّل استراتيجي في نهج "الجيش" الإسرائيلي؛ فبدلاً من تعزيز عمليات اعتقال المقاومين الفلسطينيين، بما باتت تحمل من مخاطر حقيقية على حياة جنود الاحتلال، واستنزاف لقواته وقدراته العسكرية والأمنية، اختار الذهاب إلى تعزيز عمليات الاغتيال وتوسيع رقعتها بواسطة الطائرات المسيرة، فبالرغم مما يحمله هذا الأسلوب من مخاطر يسعى "الجيش" الإسرائيلي لاستخدامه كنوع من حالة الردع للحاضنة الشعبية الفلسطينية للمقاومة، خاصة في الأماكن ذات الكثافة السكانية، مثل مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس في محاولة لحرمان المقاومة من أحد أهم روافد صمودها وتناميها.
ثانياً، زيادة الضغط على السلطة الفلسطينية للقيام بمواجهة حالة المقاومة المتنامية في الضفة الغربية، من خلال تعزيز التنسيق الأمني بين أجهزة أمن السلطة وبين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية و"الجيش"، بالإضافة إلى مطالبة السلطة بالقيام بحملات أمنية لمنع تهريب السلاح للمقاومة، ومنع وصول الأموال إليها، وفرض قوتها العسكرية والأمنية على معاقل المقاومة في نابلس وجنين، بمعنى آخر أن تقوم السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بما لم يستطع فعله "الجيش" الإسرائيلي والشاباك.
وهنا، تتضح النظرة الإسرائيلية الحقيقية إلى السلطة الفلسطينية، ففي الوقت الذي ترفض "إسرائيل" فتح أي أفق سياسي مع السلطة الفلسطينية، والعمل الدائم على عرقلة أي جهود دبلوماسية، تمنح السلطة الفلسطينية أي أبعاد سياسية لها علاقة بتأسيس دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، تطالب "إسرائيل" بتعزيز دور الأجهزة الأمنية للسلطة، وكأنها تقر بأن وظيفة السلطة الفلسطينية في الرؤية الإسرائيلية مجرد دور أمني لحماية أمن "إسرائيل" ومستوطنيها، بعيداً عن أي بعد سياسي له علاقة بقيام دولة أو حق تقرير مصير.
لكنّ هذا الأمر يصطدم برفض تيار فتحاوي ميداني آخذ بالاتساع داخل الضفة الغربية، ويتجذر مع استمرار حالة المواجهة مع الاحتلال أكثر وأكثر، ويرى التنسيق الأمني مع الاحتلال عملاً خارج الإطار الوطني الفلسطيني، الأمر الذي عبّر عنه بوضوح كل من والد الشهيد رعد خازم ووالد الشهيد إبراهيم النابلسي، رغم انتماء كليهما إلى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
أضف إلى ذلك، الخلافات الفتحاوية داخل الصف الأول في قيادة السلطة على خلافة الرئيس محمود عباس، إذ يرى البعض منهم أن تعزيز التنسيق الأمني مع الاحتلال ورقة استقواء لتيار داخل السلطة على تيار آخر، وبالتالي فقدت "إسرائيل" ورقة مهمة ومركزية في ضبط الحالة الأمنية في الضفة الغربية، بل تحولت قطاعات واسعة من كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وأعضاؤها الكوادر في الأجهزة الأمنية للسلطة، وخاصة في شمال الضفة الغربية، مكوّناً أساسياً من حالة المقاومة في الضفة الغربية.
ثالثاً، الذهاب إلى عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في شمال الضفة الغربية، كما أشار إلى ذلك الكثير من المحللين العسكريين في الإعلام الإسرائيلي، ولكن بالتأكيد هذا النوع من العمليات يحمل في طياته العديد من المخاطر الأمنية والسياسية على "إسرائيل"، أهمها:
- احتمالية كبيرة أن تجد "إسرائيل" نفسها في مأزق توحيد ساحات المواجهة الفلسطينية على غرار معركة "سيف القدس"، وخاصة بعد تثبيت معادلة وحدة الساحات في المعركة الأخيرة في غزة، وبالتالي حجم الاستعداد لأي عملية عسكرية إسرائيلية على شمال الضفة الغربية يتطلب استعداداً لحرب على الجبهات الفلسطينية كافة، في ظل توترات حامية الوطيس بين حزب الله و"إسرائيل" في الشمال بشأن حقل "كاريش"، وهنا يبرز التخوف الإسرائيلي من حرب متعددة الجبهات.
- الضغوطات السياسية والدبلوماسية التي ستواجهها "إسرائيل" على المستوى الدولي، وخاصة أن أي عملية عسكرية في شمال الضفة ستكون محفوفة بالعديد من المجازر الصهيونية على غرار مجازر مخيم جنين عام 2002.
أضف إلى ذلك، أن تلك العملية العسكرية تعدّ بمنزلة رصاصة الرحمة على السلطة الفلسطينية، التي ما زال للمجتمع الدولي مصلحة في استمرار بقائها كعنوان ولو صورياً للشعب الفلسطيني يمكن للعالم التعامل معه بالشكل الرسمي، بعيداً عن فصائل المقاومة الفلسطينية المصنفة "إرهابية" بالمنظور الدولي المنحاز إلى "إسرائيل".
من الواضح أن جميع الخيارات الإسرائيلية معقدة، وصعبة، وتحمل معها العديد من الحسابات على الأمن القومي الإسرائيلي، ولكن في المقابل، "إسرائيل" لا يمكنها تحمل استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، لذلك نعتقد أن التفكير الإسرائيلي سينصبّ على محاولة زيادة وتيرة عمليات "كاسر الأمواج" العسكرية حتى الوصول إلى اللحظة المواتية للبدء بعملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية.