مصير المشروع الصّهيونيّ في فلسطين (1-2)

هل ما زالت "إسرائيل" تتمتّع بعوامل القوة التي أهَّلتها منذ نشأتها للبقاء والصمود والعيش في بيئة عربية معادية؟

  • هل تحقيق هزيمة استراتيجية للمشروع الصهيوني هو مجرد حلم وخيال أو أن مؤشرات هزيمته أضحت أكثر واقعية؟
    هل تحقيق هزيمة استراتيجية للمشروع الصهيوني هو مجرد حلم وخيال أو أن مؤشرات هزيمته أضحت أكثر واقعية؟

نشأ على أرض فلسطين كيان إحلالي استيطاني قبل نحو 74 عاماً، سمُي "إسرائيل"، ما اعتُبر نكبة كبرى حلَّت بالشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية. تمترست "إسرائيل" في الأرض الفلسطينية والعربية، واحتلَّت المزيد منها. حلَّت بالعرب هزائم ونكسات، وحلَّت معها الويلات والحسرات، من دون أن تنقطع الآمال بحتمية هزيمة العدو وتفكّك مشروعه الاستيطاني في فلسطين.

دفع العديد من الأحداث والتطوّرات أطرافاً مختلفة إلى التّسليم بحقيقة وجود "إسرائيل" في المنطقة العربية. وقد نادت هذه الأطراف بالكفّ عن إطلاق الشعارات التي تدغدغ مشاعر الجماهير وتعدها بزوال "إسرائيل"، حتى باتت الجماهير منقسمة بين مستسلم لواقع يصعب تغييره، وواثق بأنَّ العدو الغاصب وصل إلى حافة الهاوية وبات على شفا الانهيار.

هل ما زالت "إسرائيل" تتمتّع بعوامل القوة التي أهَّلتها منذ نشأتها للبقاء والصمود والعيش في بيئة عربية معادية أو أنها باتت تفتقد تلك العوامل، ما يضفي مزيداً من الشكوك على مستقبلها؟ وهل تحقيق هزيمة استراتيجية للمشروع الصهيوني هو مجرد حلم وخيال أو أن مؤشرات هزيمته أضحت أكثر واقعية؟!

ارتكز المشروع الصهيوني على عوامل قوة ساهمت في بقائه وصموده حتى يومنا هذا، منها نجاحه في تهجير جزء من يهود العالم إلى فلسطين بالترغيب والترهيب، ثم العمل على طرد أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني خارج أرضه، وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم، وإنشاء المستوطنات الصهيونية، في محاول لتهويد الأرض الفلسطينية والعربية، والعمل على بناء "دولة الرفاهية" وتحقيق مستوى عالٍ لدخل الفرد، لجذب أكبر عدد ممكن من يهود العالم إلى فلسطين.

ساهمت عوامل أخرى في إطالة بقاء المشروع الصهيوني في فلسطين، منها نجاحه في بناء تحالف استراتيجي فريد من نوعه مع الدولة العظمى؛ الولايات المتحدة الأميركية، إضافةً إلى التحالفات القوية مع الدول الغربية، والتي أسّستها "إسرائيل" منذ نشأتها، والعلاقات الدولية، واكتساب الشرعية والغطاء من الدول العظمى، وعامل بناء القوة العسكرية والتفوق العسكري النوعي على مجموع الدول العربية.

راكم المشروع الصهيوني المزيد من النجاحات على صعيد كسر العزلة عنه بوصفه قوة احتلال، وأحدث اختراقات نوعية في الجدار العربي منذ إبرام معاهدة "كامب ديفيد" بين مصر و"إسرائيل" في العام 1979، مروراً بتوقيع اتفاقية "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" في العام 1993، واتفاقية "وادي عربي" بين الأردن و"إسرائيل" في العام 1994، وصولاً إلى اتفاقيات التطبيع أو ما يطلق عليها أميركياً وإسرائيلياً اسم "اتفاقيات أبراهام".

وقد استخدمت "إسرائيل" العامل الديني التوراتي كأداة لجذب اليهود إلى فلسطين، وأنكرت حقوق الشعب الفلسطيني، وتجاهلت كون الفلسطينيين هم سكّان الأرض الأصليين.

تمتَّع القادة المؤسّسون للعدو والجيل الأول الّذي خاض معارك إنشائه بمؤهلات قيادية عالية وتشبّث بفكرة إنشاء "إسرائيل"، في ظلّ بيئة دولية مواتية، ومع مستوطنين لديهم دافعية للبقاء والتضحية من أجل فكرة "إسرائيل". وقد نجح المشروع الصهيوني بالتسلّل عبر الفراغ والضعف العربي في حقبة تاريخية تخلَّصت فيها الشعوب العربية من الاستعمار حديثاً، ولم تتخلَّص من تأثيراته.

ورغم تمتّع العدو بعناصر قوة، فقد ظهرت بوادر لتراجع الوزن النسبي لتلك العناصر، بل فُقد بعضها كليّاً، وظهرت عوامل ضعف لم تتوفر في الماضي أو على الأقل كانت بمستوى أدنى مما عليه الآن، وبرز العديد من المؤشرات على تراجع المشروع الصهيوني وضعفه، ولا سيما في العقدين الأخيرين، منها مؤشرات ذاتية في بنية المشروع الصهيوني، وأخرى موضوعية وواقعية دلّت عليها أحداث الأعوام العشرين الأخيرة ومتغيراتها.

وفي الجانب الآخر من المعادلة، راكم الشعب الفلسطيني تجارب مهمة في صراعه مع المشروع الصهيوني، ترجمت بانتفاضات ومقاومة شعبية وعسكرية، وانتصر في معارك ومواجهات مسلحة مع العدو، وتمكَّن من تحرير أول بقعة فلسطينية منذ النكبة، وهي قطاع غزة في العام 2005.

ورغم عوامل القوة التي مكَّنت المشروع الصهيوني من البقاء والاستمرار حتى الآن، فإنَّ العديد من المؤشرات في السنوات الأخيرة يدلّ على أن المشروع يتراجع ويضعف.

يمكن أن نلخّص أبرز مؤشرات تراجع المشروع الصهيوني، والتي تعكس أزمته الراهنة وتشكّل كوابح في طريق استقراره وبقائه، من خلال دراسة نقاط ضعف المشروع الصهيوني وحجم المهددات التي تعصف به، ومستوى المخاطر من حيث قدرتها على المسّ باستقرار العدو تمهيداً لإلحاق هزيمة استراتيجية به.

نستعرض في الجزء الأول من هذا المقال مهددات البيئة الداخلية للعدو. وفي المقال التالي، نتناول مهددات البيئة الخارجية ومصير المشروع الصهيوني في فلسطين.

تتمثَّل أبرز مهددات البيئة الداخلية للعدو بما يلي:

-     غياب الهُوية الجمعية

يتكوَّن "مجتمع" العدو من خليط من أعراق وثقافات ولغات ومذاهب وطوائف وأحزاب مختلفة. وقد ظهرت على المجتمع علامات تغليب المصالح الخاصّة، العرقية والدينية والحزبية، على المصالح العامّة، وتشهد البيئة الداخلية للعدو صراعاً داخلياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يتفوَّق على الصراع الخارجي. 

لقد فشل العدو في تحقيق الهدف الاسترتيجي منذ نشأته، وهو صهر المجتمع في إطار هوية جامعة وهدف أوحد، والحد من حدة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وغدت منظومته المجتمعية أكثر تأكّلاً وتشتتاً، رغم مضي 74 عاماً على نشأته، واتسعت الهوة القائمة بين العلمانيين والمتدينين، وتفاقمت حالة العداء المتصاعدة بين الأحزاب الدينية الشرقية والغربية والوسطية، ما أدى إلى انهيار الإجماع "الوطني". كما أنَّ العدو فشل في تحديد ماهية "الدولة" اليهودية، فبقيت الفوارق الثقافية والإثنية واللغوية والنفسية قائمة.

-    أزمة النظام السياسيّ الإسرائيليّ

يمرّ النظام السياسيّ الإسرائيليّ بأزمة حادة منذ العام 2018 وحتى تاريخه، فشل خلالها في تشكيل حكومة مستقرّة، ونظّم 4 انتخابات عامة، ما أدى إلى تزايد حالة القلق في "إسرائيل" لدى المفكرين والمثقفين، والتي انعكست في ظهور حالات تمرّد وخروج عن النظام في صفوف المستوطنين، وشيوع حالة من التذمر في مؤسسات "الجيش"، في ظل تعثر خطوات تطوير النظام، إلى جانب عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة العسكرية، ولا سيما في الوحدات المقاتلة.

-    التهديد النفسي

يتحدث الكثير من المحللين والخبراء الصهاينة عن أن انعدام الرغبة في التضحية والبذل والسعي لـ"دولة" الرفاهية والدعة والحرص الشديد على عدم فقدان الجنود في ميادين القتال، أدى إلى حالة نفسية مليئة بالذعر والخوف والتذمر، والمؤشر الأبرز على ذلك هو زيادة حالات الانتحار والهروب من الخدمة في "الجيش".

من جانب آخر، رسّخ شعار "الجيش الّذي لا يقهر ولا يهزم" في الوعي العام لـ"مجتمع" العدو أنَّ المطلوب من "الجيش" أن ينتصر بسرعة، وأن يجلب الهدوء والدعة، ويوفر الحماية للمستوطنين، وهو ما لم يحدث منذ العام 1973، فالعدو خاض معارك مختلفة على الجبهة الفلسطينية واللبنانية، ومُني فيها بخسارة، ولم يحقّق النصر، فاهتزت الثقة بـ"الدولة"، وأُصيب المستوطنون بالإحباط. يُضاف إلى ذلك عدم القدرة على انتزاع الخوف من نفسية المستوطنين الَّذين يعيشون في حالة تهديد دائم داخلي وخارجي.

-    غياب القادة المؤسِّسين

قامت "إسرائيل" على أكتاف قادة لهم تاريخهم العنصري والإجرامي، وتملأهم عقيدة غارقة في عنصريتها وتعصبها القومي. ويبدو أنّ هذا النمط من القيادات ولّى إلى غير رجعة، إذ يتقلّد حكومة العدو اليوم شخص ضعيف، محدود القدرات، قليل الخبرة، فاقد للكاريزما والتأثير، كما أنه لا يحظى إلا بستة مقاعد في برلمان العدو "الكينيست"، هو نفتالي بينيت. ولا تتوفر في أغلب الشخصيات التي يتوقّع أن تخلفه سمات القيادة.

-    تحدي تراجع الثقة بـ"الجيش"

يطلق على "جيش" العدو مسمى "البقرة المقدسة" التي لا يسمح بالمس بها. وفي العادة، يحظى "الجيش" بتقدير عالٍ جداً في أوساط الجمهور الإسرائيلي، إلا أنَّ آخر استطلاع للرأي أكد أن الثقة به اهتزَّت وتراجعت إلى أدنى مستوى لها.

يرجع ذلك إلى تداعيات هزائمه خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما في معركة "سيف القدس"، التي كشفت خشيته الكبيرة من خوض عدوان بري لن يحتمل نتائجه، إضافةً إلى تهم الفساد والرواتب والامتيازات العالية في مقابل مزايا أقلّ لشرائح مجتمعية مختلفة وعوامل أخرى.

-    الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلّة العام 1948

فشل الإسرائيليون في القضاء على الشعب الفلسطيني وتهجير كلّ السكان، وهم السكّان الأصليون، وأصبح الذين تبقوا بعد النكبة الفلسطينية في العام 1948 يشكلون قوة ديموغرافية مؤثرة يصل تعدادها إلى ما يقارب مليوني نسمة، استعادت معركة "سيف القدس" الوعي الجمعي لديهم.

وكشفت أحداث النقب مؤخراً أنَّ الحراك الفلسطيني في الأرض المحتلّة العام 1948 قادم بقوة، وهو ما يعكس الفشل الذريع لكلِّ محاولات طمس الهوية والأسرلة والتهويد. وسيزداد الغضب الفلسطيني كلما زادت الغطرسة والعنصرية اليهودية التي سلبت الفلسطينيين كلّ حقوقهم في أرضهم، وستكشف الأيام القادمة أنَّ فشل الأحزاب العربية التي دخلت كنيست وحكومة العدو، في استعادة حقوق شعبها، ستساهم في تعزيز القناعات بأن الصراع هو على الأرض والهوية والوجود، وليس صراعاً مطلبياً محدوداً. 

تمثل الكتلة الديموغرافية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948 أحد أهم التحديات الوجودية للكيان الغاصب، وهي محطّ نقاش منذ عشرات السنوات بين الصهاينة، بحيث استعمل بعضهم مصطلح "القنبلة الديموغرافية" للإشارة إلى التهديد الذي تشكله الكتلة السكانية لأهل الأرض الأصليين.

أثبتت الأيام أنَّ الهاجس الصهيوني كان في محلّه، وخصوصاً مع تنامي مفهوم دور وسائل الإعلام الاجتماعية التي مدّت وشائج التواصل بين مكوّنات الشعب الفلسطيني، وعزّزت شعور الانتماء لدى فلسطينيي الأراضي المحتلة في العام 1948، فقد تنامت وتيرة الأفعال والمواقف الرافضة للعدو والمؤيدة للمقاومة بشكل كبير منذ معركة "سيف القدس"، وهو ما شكّل صدمة غير مسبوقة للعدو.

تتوفّر المزيد من المهددات في البيئة الداخلية للعدو، والتي تدلّ على ضعف بنيته الداخلية ومناعته الذاتية. وقد تناولنا أبرزها، وسنطرح في المقال القادم مهدّدات البيئة الخارجية، ونركّز على أبرز التهديدات، وعلى مصير العدو في ضوء خطر التهديدات في البيئتين الداخلية والخارجية على مصيره ومستقبل مشروعه في فلسطين.