مشهد العراق الانتخابي.. غموض وتخبّط وارتباك
كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي، أخذ المشهد السياسي العام يشهد المزيد من الارتباك والتخبط وخلط الأوراق، بحيث ما زال الجدل والسجال حول إمكانية إجراء الانتخابات من عدمها يشغل حيزاً غير قليل.
رغم أنه لم يتبقَّ على موعد إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة سوى شهرين، فإنَّ الصورة تبدو ضبابية ومشوشة ومرتبكة إلى حد كبير، في خضم تقاطع المواقف والاتجاهات، وتصاعد التشكيك والاتهامات، واضطراب الميادين والجبهات. ذلك الغموض والتشويش والارتباك يرسم مسارين أو يضع احتمالين؛ إما تأجيل الانتخابات إلى موعد آخر، وإما أن نتائجها ومخرجاتها لن تأتي بجديد يمكن من خلاله تحقيق إصلاحات وتغييرات حقيقية يتطلع إليها جمهور واسع من الشعب العراقي.
ولعلَّ العودة قليلاً إلى الوراء، للإحاطة بظروف قرار إجراء الانتخابات المبكرة وخلفياته، تتيح فهم مجمل التفاعلات والتداعيات الراهنة، فنقطة الانطلاق الرئيسية للانتخابات المبكرة تمثلت بالتظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في مختلف مدن البلاد ومحافظاتها في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، ورفعت الكثير من الشعارات والمطالب الإصلاحية، وشاركت فيها أطراف وشرائح وفئات اجتماعية وسياسية مختلفة، من دون أن يعني ذلك أن العامل الخارجي كان بعيداً عن دائرة الحدث ومحركاته وفواعله.
ولأن المرجعية الدينية في النجف الأشرف كانت قد شخَّصت الخلل والضعف قبل ذلك، ورأت أنَّ هناك ضرورة ملحّة لإصلاح الأوضاع، فإنها تفاعلت إلى حد كبير مع مطالب الشعب المشروعة والمعقولة، إذ بادرت في 20 كانون الأول/ديسمبر 2019، وبعد 3 أسابيع من تقديم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استقالته إلى البرلمان، إلى إصدار بيان تلاه معتمدها الشيخ عبد المهدي الكربلائي على منبر صلاة الجمعة في مدينة كربلاء المقدسة، قالت فيه: "أشرنا في خطبة سابقة إلى أن الشعب هو مصدر السلطات، ومنه تستمد شرعيتها - كما ينص الدستور - وعلى ذلك، فإنّ أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي - لا سمح الله - هو الرجوع إلى الشعب بإجراء انتخابات مبكرة، بعد تشريع قانون منصف لها، وتشكيل مفوضية مستقلة لإجرائها، ووضع آلية مراقبة فاعلة على جميع مراحل عملها تسمح باستعادة الثقة بالعملية الانتخابية".
وشددت المرجعية في ذلك البيان على "ضرورة إقرار قانون انتخابات يكون منسجماً مع تطلّعات الناخبين، ويقرّبهم من ممثّليهم، ويرعى حرمة أصواتهم، ولا يسمح بالالتفاف عليها، وعلى أنّ إقرار قانون لا يكون بهذه الصفة لن يساعد على تجاوز الأزمة الحالية".
وبالفعل، في الرابع والعشرين من الشهر نفسه - أي بعد 4 أيام - أقر البرلمان العراقي قانون الانتخابات الجديد، على خلفية مخاضات عسيرة شهدت مفاوضات ومساومات ماراثونية شاقة بين الفرقاء السياسيين. وقد تألف القانون الجديد من 50 مادة، أبرزها اعتماد الدوائر الانتخابية الصغيرة. وبدلاً من أن تكون كل محافظة دائرة انتخابية، فإنها قسمت إلى أكثر من دائرة بحسب حجمها السكاني، ليكون مجموع الدوائر وفق القانون الجديد 83 دائرة انتخابية، وكذلك إلغاء نظام "سانت ليغو" في توزيع المقاعد، واعتماد قاعدة الفائز الأكبر وهكذا، أي عدم تحويل الأصوات التي يحصل عليها مرشح ما في كتلة معينة إلى المرشحين الآخرين في القائمة.
وفي وقت مقارب، قام مجلس القضاء الأعلى باختيار رئيس جديد لمفوضية الانتخابات وأعضاء مجلس المفوضين من القضاة. بدت تلك الخطوة وكأنها تحول كبير في مسارات العملية الانتخابية، لأنها ستفضي إلى كسر الهيمنة التقليدية الحزبية على مفوضية الانتخابات والقفز خارج الأطر الموضوعة، رغم كلّ ما قيل عن افتقار الفريق القضائي الجديد إلى الخبرة الكافية في إدارة الملف الانتخابي بالمستوى المطلوب.
ولا شك في أن إقرار قانون الانتخابات الجديد واستبدال رئيس المفوضية وأعضائها تعززا بقرار مجلس الوزراء برئاسة مصطفى الكاظمي، الَّذي تولى مهامه في 7 أيار/مايو 2020 خلفاً لعادل عبد المهدي، والمتمثل بتحديد موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة، استجابة لمطالب الجماهير ودعوات المرجعية الدينية، إذ كان من المقرر أن تجرى الانتخابات في مطلع شهر حزيران/يونيو الماضي، بيد أنها أُرجِئت إلى 10 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، لأسباب وصفت بكونها فنية ومتعلقة بطبيعة ومستوى استعدادات المفوضية، إلا أن واقع الحال ومجمل المؤشرات والمعطيات ذهبت إلى أن أسباب التأخير هي في الواقع سياسية أكثر منها فنية.
ولعلَّ مجمل الحراك والتفاعلات الحاصلة في ما بعد أكدت ذلك بمقدار كبير جداً. وكلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي، أخذ المشهد السياسي العام يشهد المزيد من الارتباك والتخبط وخلط الأوراق، بحيث ما زال الجدل والسجال حول إمكانية إجراء الانتخابات من عدمها يشغل حيزاً غير قليل، ولا سيما أنّ الأطراف الداخلية والخارجية التي كانت متحمسة وداعمة إلى حد كبير لإجراء الانتخابات المبكرة في أسرع وقت ممكن، راحت تروج بشكل أو بآخر لفكرة انعدام الظروف الملائمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وتدعو إلى تأجيلها مرة أخرى، وهذا يصدق على بعض القوى والكيانات التي انبثقت عن تظاهرات تشرين، ويصدق كذلك على عواصم غربية، مثل واشنطن ولندن، من خلال تصريحات وبيانات وتحليلات غير رسمية، ومن خلال إشارات، ضمنية تارة، وصريحة تارة أخرى.
وتبع التشكيك في إمكانية إجراء الانتخابات أو الجدوى من إجرائها في ظلّ الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية الراهنة انسحاب ومقاطعة عدد من القوى والكيانات السياسية، من بينها التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، وائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي، والحزب الشيوعي العراقي، وجبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلك.
واللافت في إعلان تلك الكتل هو أن الانسحابات جاءت بصيغة بيانات وتصريحات سياسية، حتى إن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أكّدت أنه لم يصلها أي إشعار أو طلب من أي كتلة سياسية أو مرشح انتخابي تفيد بالانسحاب وعدم المشاركة بالانتخابات المقبلة.
من جانب آخر، إن إعلان مقاطعة البعض تبعه مباشرة انطلاق الحملات الانتخابية لعدد من الكتل والكيانات السياسية، أبرزها تحالف "الفتح" الذي يعد الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان الحالي، فضلاً عن تأكيد قوى وزعامات سياسية عديدة ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، معتبرة أن انسحاب بعض الكتل من السباق الانتخابي، وإن كان مؤسفاً، إلا أنه لا يمكن أن يعطله أو يعرقله، وهي ترى أن معالجة الأخطاء والسلبيات، وتصحيح الانحرافات، وتحقيق الإصلاحات، لا يتم من خلال مقاطعة الانتخابات والتشكيك بمخرجاتها ونتائجها مسبقاً، وإنما عبر المشاركة الفاعلة فيها والعمل الجاد مع مختلف القوى الوطنية لسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها تمرير الأجندات والمخططات الخارجية المتقاطعة مع الإرادة الوطنية؛ تلك الأجندات والمخططات التي - بحسب الأطراف الداعمة بقوة لإجراء الانتخابات في موعدها - يراد منها إبقاء العراق في دوامة الفوضى والاضطراب السياسي والأمني والمجتمعي.
ولعلَّ جانباً من المخاوف والهواجس من مقاطعة الانتخابات يتمثل بتراجع نسب المشاركة فيها، وهو ما أشار إليه رئيس البرلمان العراقي محمد الحبلوسي مؤخراً، حين دعا "القوى التي أعلنت عن مقاطعة الانتخابات إلى العدول عن هذا القرار والمساهمة الفاعلة في الانتخابات، لدفع المواطنين إلى المشاركة بشكل أوسع في الانتخابات". وبالمعنى نفسه تحدثت زعامات سياسية كبيرة، مثل رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي الشيخ همام حمودي، ورئيس تحالف "الفتح" هادي العامري، ورئيس تيار "الحكمة" السيد عمار الحكيم.
من الطبيعي أن انسحاب التيار الصدري يعني عزوف جمهوره عن الإدلاء بأصواتهم. وهكذا بالنسبة إلى الآخرين، وإن كان هناك تفاوت ربما يكون كبيراً في حجم جمهور كلّ طرف من الأطراف المقاطعة حتى الآن، ناهيك بكونه قد يفتح الباب لاضطراب أمني لا يتحمله الشارع العراقي المثقل بالمشاكل والأزمات.
في الوقت ذاته، إنَّ التوافقات والتفاهمات السياسية، ولا سيّما في ما يتعلق بترتيب أوراق ما بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة، ما زالت تعد أفضل الخيارات المتاحة لتجنب الانزلاق نحو الفوضى، وتوفير الأرضيات الملائمة لإنهاء الوجود الأجنبي في البلاد بدلاً من تكريسه في ظلِّ انعدام الاستقرار. وقد شددت المرجعية الدينية في بيانها نهاية العام 2019 على "أهمية إجراء الانتخابات النيابية المبكرة كسبيل للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي".
قد لا تأتي الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق بنتائج ومعطيات وأرقام من شأنها أن تقلب الموازين وتؤسس لمعادلات جديدة، تغيب فيها أو تضعف هيمنة القوى التقليدية من المكونات الرئيسية الثلاثة، الشيعية والسنية والكردية، وقد تشهد عمليات تلاعب وتزوير، وتواجه حملات تشكيك وتخوين، رغم حزمة الإجراءات المتخذة لإضفاء أكبر قدر من النزاهة والشفافية والمصداقية عليها، إلا أن إجراءها بات يمثل تحدياً حقيقياً وخياراً لا بد منه، وإن تقاطعت المصالح، وتباينت الحسابات، واحتدمت الصراعات بين الفرقاء ضمن حدود المكون الواحد أو ضمن الفضاء الوطني العام.