مشروع المقاومة والتحرير قبل إنهاء الانقسام

مصير "إعلان الجزائر" سينتهي إلى مصير كل اتفاقيات المصالحة السابقة المدفونة في مقبرة الاحتلال والسلطة وصحراء "أوسلو" والانقسام.

  • مشروع المقاومة والتحرير قبل إنهاء الانقسام
    مشروع المقاومة والتحرير قبل إنهاء الانقسام

ترسخت في أذهاننا منذ حدوث الانقسام الفلسطيني قبل عقدٍ ونصف عقد من الزمن بعض الأفكار السياسية والقناعات الوطنية محورها ربط الوحدة بإنهاء الانقسام، واقتران التحرير بزوال الانقسام، وجعل إنهاء الانقسام مدخلاً حتمياً لتحقيق الوحدة الوطنية، وممراً جبرياً لإنجاز مشروع التحرير، وشرطاً أساسياً لتحقيق الأهداف الوطنية...

وبعد "إعلان الجزائر" الذي صدر في ختام مؤتمر "لمّ الشمل الفلسطيني" منتصف شهر تشرين الثاني/أكتوبر الماضي، لا نكاد نجد فلسطينياً واحداً يؤمن بأنَّ الاتفاق سيجد طريقه إلى التطبيق، ويُنهي الانقسام فعلاً، ويحقق الوحدة الوطنية، ولم تكن الجزائر إلا محطة أُخرى شهدت كتابة فصل آخر من مسرحية "خيبتنا" التي سبقتها فصول من الخيبة كُتبت في محطات سابقة أخرى في مكة والقاهرة وغزة وبيروت وإسطنبول وموسكو وغيرها. وقد آن الوقت لمراجعة هذه الأفكار والقناعات وتغييرها.

"إعلان الجزائر" هو مجرد اتفاق شكلي على مبادئ عامة تفتقد التفاصيل التي يتربص فيها شيطان الانقسام والخصام، وتخلو من وجود آليات التطبيق التي تُحطّم قطار الوفاق والاتفاق، ويُقفز على قضايا الخلاف الجوهرية التي تصطدم بها كل جهود المصالحة والموافقة... 

وقد حصر إعلان الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية المُفرّغة من قوى المقاومة الأساسية، وحصر الشراكة السياسية عبر آلية الانتخابات العامة التي بدأ بعدها عصر الانقسام الفلسطيني، وحصر مفهوم المصالحة الوطنية في إنهاء الانقسام حول سلطة تحت الاحتلال، وأكَّد احتكار تمثيل الشعب الفلسطيني لمنظمة فقدت روحها الثورية ومضمونها النضالي وأهدافها التحريرية ومشروعها الوطني...

كذلك، ركّز الإعلان على إعادة إنتاج نظام سياسي عموده الفقري السلطة التي ابتلعت المنظمة ومشروعها الوطني وأنتجت الانقسام، بدلاً من بناء نظام سياسي وطني ينسجم مع مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين.

مصير "إعلان الجزائر" سينتهي إلى مصير كل اتفاقيات المصالحة السابقة المدفونة في مقبرة الاحتلال والسلطة وصحراء أوسلو والانقسام، التي يحضر بعد توقيعها التفاؤل الممزوج بالأمل والرجاء، ثم التفاؤل المشوب بالترقب والحذر، ثم يغيب التفاؤل ويبقى الترقب والحذر... وصولاً إلى التشاؤم المصحوب بالنحس والتعس. 

وقد كتبتُ عن هذه الحال من الخيبة والإحباط في مقالات سابقة، منها مقال "قصة الراعي والذئب واتفاقيات المصالحة الفلسطينية"، الذي جاء فيه: "ما أشبه قصة الراعي والذئب بقصتنا مع المصالحة! لم يعد أحد من الشعب الفلسطيني يُصدّقهم للسبب نفسه الذي فقد أهل القرية الثقة بالراعي جراءه"، ومنها مقال "وفود الفصائل في موسكو.. فرصة جيدة للتسوّق"، الذي جاء فيه: "أمام وفود الفصائل الموجودة في موسكو فرصة جيدة للتسوّق وزيارة الأماكن السياحية الجميلة، على أمل وجود فرصة أُخرى للتسوّق والسياحة في عاصمة أُخرى أبعد من موسكو وأكثر بُعداً من المصالحة". 

ومن هذه المقالات "فيلم المصالحة لم يعد يجذب المشاهدين"، الذي قلت فيه: "ما زال الجمهور الفلسطيني المشاهد لفيلم المصالحة غير واثق بأدوار المصالحة، وغير مُصدّق لها، وغير مقتنع بأبطال الفيلم بعدما أدوا أدوار الانقسام ردحاً من الزمن"، ومنها "المصالحة الفلسطينية.. لماذا التفاؤل حذر؟"، الذي ذكرت فيه "أنَّ المشكلة ليست في توقيع الاتفاق، بل في تطبيقه... الذي يصطدم بانعدام الإرادة السياسية لإنهاء الانقسام، ومراكز القوى المستفيدة من الانقسام".

تكرار الفشل في تطبيق اتفاقيات المصالحة الفلسطينية برهان على وجود تحديات كبرى ومعوقات عُظمى أمام المصالحة والوحدة تجعلها مستحيلة في ظلّ الواقع الحالي، ويُمكن إجمال أهمها في وجود الاحتلال الحاضر الغائب في كل محاولات التطبيق كلاعب مركزي يسعى لإبقاء الانقسام والصراع الداخلي خدمة لمصلحته، ووجود السلطة المؤسِسة لحال الانقسام عندما قبل صانعوها بدور ضبط أمن الاحتلال وقمع المقاومة، فأسّسوا بذلك لوجود فريقين متناقضين داخل الشعب الفلسطيني، ووظيفة السلطة المرتبطة بوجودها، سواء في الجانب الأمني أو المدني، كإدارة مدنية لشؤون السكان تحت الاحتلال، وعدم أداء هذا الدور يعني إسقاطها إسرائيلياً وغربياً، وحتى عربياً، وهذا يصطدم باتفاقيات المصالحة.

ومن التحدّيات والمعوقات الأخرى، فلسفة المصالحة القائمة على إعادة إنتاج النظام السياسي الفلسطيني الذي أوصلنا إلى مأزقَي السلطة والانقسام، والتي تدور إمّا حول إدارة سلطة منقسمة وإما تقاسم سلطة موحدة، هروباً من إقامة سلطة وطنية وفق استحقاقات مرحلة التحرير الوطني. 

إن مفهوم إنهاء الانقسام لدى النظام الرسمي الفلسطيني والعربي هو إدخال المقاومة الفلسطينية في بيت الطاعة الأميركي وتطويع فصائل المقاومة تحت سقف أوسلو. هذا المفهوم يُناقض رؤية المقاومة، ومضمون الوحدة الوطنية لدى جماعة أوسلو هو الحفاظ على شكل إطار منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني من دون مضمون الوحدة التي أُسست على المشروع الوطني الفلسطيني ونهج المقاومة الشاملة.

تجاوز هذه التحدّيات والمعوقات يحتاج إلى تحرير الإرادة الفلسطينية من قيد الاحتلال، وتحويل وجود السّلطة إلى رافعة للاستقلال، وتغيير وظيفة السلطة لتخدم المشروع الوطني الفلسطيني، وتبديل فلسفة المصالحة لتنتج نظاماً سياسياً فلسطينياً يُناسب مرحلة التحرير الوطني، وتركيز مفهوم إنهاء الانقسام على إنهاء نهج التسوية والعودة إلى مشروع المقاومة والتحرير، وليكن مضمون الوحدة الوطنية هو وحدة فلسطين: الأرض والشعب والقضية والمقاومة.

وحتى تجاوز هذه التحديات والمعوقات، لا خيار سوى الذهاب إلى مشروع المقاومة والتحرير قبل إنهاء الانقسام، بل إنَّ مشروع المقاومة والتحرير هو الذي سيُنهي الانقسام، فوحدة الشعب الفلسطيني وطلائعه المجاهدة وقواه المناضلة وحركته الوطنية في ميدان الجهاد والثورة والمقاومة هي الوحدة الحقيقية التي يلتحق بها كل المؤمنين بمشروع المقاومة والتحرير من الشعب الفلسطيني والوطن العربي والأمة الإسلامية، في جبهة فلسطينية وعربية وإسلامية واحدة، بوصلتها القدس، وهدفها فلسطين، ونهجها المقاومة، وركيزتها الوحدة، وعدوها "إسرائيل"... وهذا يتطلَّب من قوى المقاومة البدء بتشكيل "جبهة مقاومة إسلامية وطنية" تواصل مشروع المقاومة والتحرير ليكون مدخلاً للوحدة والتحرير معاً.