"مسيرة الأعلام" عنوان لأزمة السيادة الإسرائيلية على القدس
اكتشفت "إسرائيل" أنّ كل سياسات الأسرلة ومسح الهوية الفلسطينية الوطنية الجماعية لفلسطينيي الداخل عام 1948، أنّها مجرد أوهام، بعد الهبة الجماهيرية هناك في معركة "سيف القدس".
هناك معادلة سياسية اجتماعية تقول: كلما ارتفعت التوقعات ازدادت الخيبة، فعندما يتم رفع سقف الخطاب الإعلامي والتهديدات السياسية، وتتم تهيئة الجماهير لما هو فوق الممكن، تصبح خيبة الأمل هي واقع حال الجماهير، مهما تحقق من فعل وإنجازات حقيقية، وأوضح مثال على ذلك ما حدث هذا العام في "مسيرة الأعلام" الإسرائيلية، التي تقام في مدينة القدس المحتلة منذ عام 1967، التي يُعمل على تهويدها وزيادة الاستيطان فيها من أجل تغيير طابعها العربي والإسلامي والمسيحي، والشعب الفلسطيني يقاوم. ورغم أنه لم يستطع حتى الآن أن يحرر القدس، ما زال يقاوم ولم ينكسر، فهل نجحت "إسرائيل" حقاً في تمريرها لـ"مسيرة الأعلام" في كسر معادلة "سيف القدس" عام 2021؟
عندما أتت لحظة تاريخية مناسبة للشعب الفلسطيني ومقاومته بأن تجعل القدس عنواناً للوحدة الفلسطينية والمواجهة ضد الاحتلال وتحشيد الأمة خلف قضية القدس والمسجد الأقصى عام 2021م، بعد ما تلقته القضية الفلسطينية من ضربات قوية، سواء من خلال "صفقة القرن"، ومن ثم "اتفاقات أبراهام" التطبيعية، وهرولة البعض العربي نحو الزمن اليهودي، لم يتأخر الشعب الفلسطيني ومقاومته في الاستفادة من تقاطع شهر رمضان المبارك وما يواكبه من وجود الجموع الغفيرة في المسجد الأقصى، بالإضافة إلى محاولات الاستيطان الصهيوني تهجير سكان حي الشيخ جراح، مع استفزازات الشرطة الإسرائيلية ضد المقدسيين في باب العمود، واقتحامهم للمسجد الأقصى، واعتدائهم على المصلين، وضرب راهبات كنيسة القيامة في عيد الأنوار، والتركيز الإعلامي الكبير على كل ما يجري في القدس، كل هذه العوامل التقطتها المقاومة الفلسطينية، واستثمرت تلك اللحظة السياسية والشعبية وبادرت إلى خوض معركة "سيف القدس" بخلاف كل الحسابات والتقديرات الإسرائيلية آنذاك.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ أهم المتغيرات داخل الساحة الفلسطينية حدثت على إثر معركة "سيف القدس" والأحداث التي تلتها، وخاصة الهروب الكبير من سجن جلبوع:
أولاً، دخلت الضفة الغربية على خط المواجهة المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، وبدأت باكورة الحالات العسكرية المنظمة بكتيبة جنين، التي سرعان ما تحولت إلى كتائب عسكرية منظمة في أغلب مدن شمال الضفة الغربية، ومن ثم انطلاق مجموعة "عرين الأسود" في نابلس وما رافقها من زخم جماهيري، ناهيك بالعمليات الفدائية النوعية في قلب الكيان الصهيوني، وداخل الأراضي المحتلة عام 1967م، لتتفجر انتفاضة شعبية وعسكرية في الضفة الغربية، وتعيدها ساحة مواجهة مفتوحة على مدار الساعة مع الاحتلال مرة أخرى بعد محاولات تغييبها لأكثر من خمسة عشر عاماً.
ثانياً، اكتشفت "إسرائيل" أن كل سياسات الأسرلة ومسح الهوية الفلسطينية الوطنية الجماعية لفلسطينيي الداخل عام 1948م، أنها مجرد أوهام، بعد الهبة الجماهيرية هناك في معركة "سيف القدس"، لتسجل "إسرائيل" ساحة قتال جديدة ضدها.
ثالثاً، استعداد ساحات عربية خارجية الدخول في الحرب، حماية للقدس، الأمر الذي برهنت عنه الصواريخ التي انطلقت منتصف شهر رمضان الماضي من جنوب لبنان ومن سوريا.
وبناءً على هذه المتغيّرات، بات الشعب الفلسطيني يخوض حرباً مفتوحة على ساحات وجوده كافة مع الاحتلال، وليس مجرد جولات تصعيدية مع قطاع غزة، كما في السابق، تنتهي بها المعركة بمجرد دخول التهدئة حيز التنفيذ بفعل الوساطات، وبالتالي الحسابات الإسرائيلية باتت أكثر تعقيداً وأكثر شمولية، فقد تيقنت "إسرائيل" خلال العامين الماضيين من معادلة وحدة الساحات، فبات ما يحدث في ساحة يؤثر في الساحات الأخرى كافة، هذه المتغيرات في قواعد الاشتباك بين الفلسطيني والإسرائيلي، كان مطلوباً أن يواكبها خطاب سياسي وإعلامي فلسطيني موضوعي، مرتبط بالواقع الفلسطيني الحالي والإمكانات المتاحة، في ظل حالة الحرب المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي منذ عامين تقريباً على الساحات كافة، والتي تميزها أن جغرافيا المقاومة باتت أكبر بكثير من غزة، بالإضافة إلى أهمية إدراكه للمتغيرات في الساحة الإسرائيلية، التي حدثت في المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي، وأبرزها عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم مجدداً بعد أن كانت معركة "سيف القدس" أحد الأسباب في إبعاده عن كرسي رئاسة الوزراء، ولكن في هذه المرة، نتنياهو يعود بائتلاف حكومي يعدّ الأكثر تطرفاً وفاشية في تاريخ حكومات "إسرائيل"، والذي يضمّ كلاً من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سيموترتش، ممثلي الصهيونية الدينية الفاشية في الحكومة، والتي تعدّ الراعية الرسمية لفكرة "مسيرة الأعلام" منذ انطلاقتها، وتعدّ "مسيرة الأعلام" وما واكبها من أحداث في القدس البوابة الانتخابية التي دخل منها بن غفير إلى الكنيست، تحت شعار فرض السيادة الإسرائيلية على القدس والمسجد الأقصى المبارك، هذا الخطاب الفاشي و الديماغوجي متطرف، وهنا أضيفت أهمية سياسية داخلية للائتلاف الحكومي الحالي إلى "مسيرة الأعلام"، بالإضافة إلى أهميتها كرمزية للسيادة الإسرائيلية على القدس، حيث باتت قضية انتخابية مرتبطة بمستقبل الائتلاف الحكومي وخاصة بن غفير وسيموترتش.
فيكفي الفلسطيني ومقاومته إنجازاً أنه جعل من القدس عنواناً لوحدة الأمة أجمعها، وفي الوقت ذاته، عنوان خوف للإسرائيلي واستنفار دائم، فمسيرة صهيونية في منطقة تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 54 عاماً، تحتاج إلى كل هذه الترتيبات الأمنية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية من أجل تمريرها في القدس المحتلة منذ عام 1967م، واستنفار لشرطتها ومنظوماتها الجوية الدفاعية، وتنفيذ عملية عسكرية في غزة، يدخل على إثرها 3 ملايين مستوطن صهيوني إلى الملاجئ، وتشل حياتهم اليومية على مدار خمسة أيام، وتصل صواريخ المقاومة إلى قلب "تل أبيب"، على مرأى الإقليم ومسمعه، ومن قبل ذلك، زيادة وتيرة عمليات الاغتيالات والاعتقالات على مدار شهرين في الضفة الغربية، ولم يكن الأمر مقتصراً على هذا العام بالمناسبة، ففي العام الماضي، تطلب من الإسرائيلي إجراء مناورة "عربات النار" العسكرية، التي تعدّ الأضخم، وتحليق 170 طائرة عسكرية في سماء فلسطين لتمرير هذه المسيرة، مع تعديل مسار المسيرة لكي لا تخترق الحي الإسلامي في البلدة القديمة في القدس، والاكتفاء برقصة أعلام رمزية في منطقة باب العمود، أعتقد أن هذا إنجاز حقيقي للفلسطيني الذي ما زال يقاوم، ويخوض حرباً مفتوحة مع الاحتلال، في كل الساحات، حيث باتت "إسرائيل" تحتاج في كل مرة تريد أن تنظم بها "مسيرة الأعلام" أن تحتل مدينة القدس مجدداً، الأمر الذي يمكننا القول بكل ثقة إن "مسيرة الأعلام" الإسرائيلية عنوان أزمة السيادة الإسرائيلية على القدس، وليس العكس.