مسار التهديدات الأميركية في سوريا
الولايات المتحدة أيقنت بعد تراجعها في منطقتي غربي آسيا وشمالي أفريقيا، ارتفاع مستوى الرفض لسياساتها الإملائية، فمن كانت تعدُّهم يدورون في فلكها بدأوا يَصُوغون سياسات جديدة بعيداً عنها.
لم يكن مفاجئاً قرار الولايات المتحدة نشر طائرات 22-F، الأحدث لديها، في الشرق الأوسط، في سياق ارتفاع مستوى انفجار الصراع مع روسيا في سوريا، على نحو يهدّد مسارات الانفراج السوري، بعد حرب متنوعة ومستمرة منذ أكثر من اثني عشر عاماً. فأي مسارات ستسلكها الإدارة الأميركية، وما مدى إمكان نجاحها؟
انخفض الاهتمام بالساحة السورية، كساحة أساسية للصراع، دولياً وإقليمياً ومحلياً، بعد انفجار الصراع في أوكرانيا، في مستوياته الثلاثة أيضاً، في رهان مخطَّط، على انهيار الدولة الروسية في إثر الحرب الأوكرانية، لكنّ نتائجها لم تكن كما خُطِّطت.
أظهرت الحرب في أوكرانيا أن هناك رؤى سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة، في منطقة غربي آسيا، وفي شمالي أفريقيا، بل في أغلبية الدول الأفريقية، أجمعت عبرها هذه الدول على الوقوف إلى جانب روسيا في صراعها مع حلف الناتو، على رغم التناقضات والتباينات الشديدة، بين هذه الدول.
ظهرت نتائج الخيارات الجديدة، في جملة السياسات المتباينة جذرياً، مع تاريخ طويل من الصراعات الإقليمية المتنقلة، والتي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية. ولأول مرة تتشكل قناعات بإخراج المنطقة من حالة الصراع الخشن، إلى إطار التنافس والتعاون الإقليميين الناعمين، تحت المظلتين الصينية والروسية، فكان الاتفاق السعودي الإيراني، ثم العودة السورية إلى الجامعة العربية، من البوابتين السعودية والإماراتية، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشرات قرب الاتفاق السوري التركي، الذي قد يبدأ باجتماع أستانا الرباعي المقبل في كازاخستان، والذي سيُعقد بتاريخ 20 و21 من الشهر الحالي.
أيقنت الولايات المتحدة، عبر حجم تراجعها في منطقتي غربي آسيا وشمالي أفريقيا، ارتفاع مستوى الرفض لسياساتها الإملائية، وأن من كانت تعدُّهم يدورون في فلكها بدأوا يَصُوغون سياسات جديدة، بعيدة عن المصالح الاستراتيجية الأميركية، وخصوصاً بعد أن بدأت تدرك أن هزيمة حلف الناتو في الحرب الأوكرانية ستكون محقَّقة، وبالتالي ثمة ضرورة لعودتها إلى الاهتمام بمنطقة غربي آسيا، التي تُعَدّ المنطقة الأكثر أهمية، في حال ذهبت إلى الصدام العسكري مع الصين، بقطع طرق إمداد الطاقة عنها.
يأتي الاهتمام الأميركي المستجدّ بسوريا، باعتبارها الجغرافيا السياسية الوحيدة، المانعة لتشكل نظام إقليمي خارج سيطرتها المطلقة، بوضعها الحالي، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وإن المحاولات التي يتم البناء عليها، لإعادة سوريا إلى بيئتها الطبيعية، تشكل تهديداً لاستمرار احتلالها منطقة الجزيرة السورية، ومنطقة التنف، بالإضافة إلى العراق، فكان أن سلكت ثلاثة مسارات متنوعة، عسكرية وأمنية وسياسية.
المسار الأول هو العسكري يتم عبر تعزيز الاحتلال في الجزيرة، واستقدام صواريخ هيمارس إليها، مع بدء نشر طائرات 22-F في منطقة الشرق الأوسط.
وترافق ذلك مع تشكيل "جيش سوريا الحرة"، من العشائر العربية في الرقة والتنف، ومحاولات جمع هذا الجيش مع قوات "قسد"، من أجل إعطاء هذه العشائر دوراً عسكرياً أكبر، مع التركيز على حزب اللواء في محافظة السويداء، لإدخاله في التحالف العسكري المحلي، الذي لم يرَ النور بعدُ، وقد لا يراه. والغاية الأساس ربط محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء والتنف بمنطقة الجزيرة السورية، مع تنشيط غرفة الموك في الأردن.
والأمر لا يتوقف في الجنوب، ففي الشمال هناك عمل أميركي على إخراج المجموعات الإسلامية المسلحة، السورية والأجنبية، من سيطرة تركيا عليها، وتأمين سُبل استمرارها مباشرةً بإمرتها.
المسار الثاني ذو طابع سياسي أمني مع دمشق مباشرةً، في محاولة لاستقطابها، في مقابل حل سياسي. ولم تؤدِّ الاجتماعات الأمنية في عُمان والأردن إلى أي نتيجة، بسبب عدم تقديم أي تنازلات سورية، أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
المسار الثالث ذو شقين: الأول داخلي، عبر محاولاتها جعل منطقة الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية، مركز ثِقل للمعارضة السورية، وتعزير اقتصادها بالانفتاح على أربيل والسليمانية، وخصوصاً بعد إعادة فتح معبر سيمالكا، لفك الترابط بين مناطق الداخل ومنطقة الإدارة، مع محاولات وصل مناطق شرقي الفرات بمناطق غربي الفرات، على رغم التناقض الشديد، غير القابل للحل، بين قوى ذات طابع علماني وقومي، وقوى إسلامية مسيطرة، وقوى سياسية مدنية.
الشق الثاني من المسار الثالث يتمثّل بالعمل على تعويم قوى مدنية سورية وغير سورية، بقيادة الملياردير السوري أيمن أصفري، المرشح دولياً لمنصب رئيس وزراء في عام 2015، قبل الدخول العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية، واعتبار هذا التيار هو الخيار الأوروبي للمعارضة السياسية، في أي حل سياسي، وفقاً للقرار 2254، الذي تُجمع معظم القوى المتناقضة على تطبيقه.
لم يكن هذا الملتقى، الذي تم إعلانه في باريس، سوى رد على قوى هيئة التفاوض المُعارضة، التي اجتمعت في جنيف، والتي تمثل الرعاية التركية الروسية، ضمن مسار أستانا الرباعي.
تشكل السياسات الأميركية المتجددة تهديداً جديداً، أمام بدء تعافي السوريين جميعاً، ولا ينحصر الأمر في مناطق سيطرة دمشق، في حال نجاحها في هذا المشروع، فكل الكيانات المتشكلة لا تمتلك إمكان الاستمرار بصورة طبيعية، ولا يمكنها الاعتماد على اقتصاد متمكن.
كما أنّ القوى الإقليمية والقوى الآسيوية الناهضة لا يمكنها أن تقبل استمرار سوريا في وضعها الحالي، لكنّ الرهان على ذلك لا يكفي، فالزمن لا يمكن أن يبقى لمصلحة أيّ طرف، بل قد يكون ضد الجميع بنتائجه، على نحوٍ يُعزّز تهديدات الواقع السوري الحالي، والأمر يتطلب سياسات مغايرة، داخلياً وخارجياً.