مبادرة بيدرسون "خطوة مقابل خطوة": أولويات دمشق الاقتصادية!
تنفيذ هذه المطالب الاقتصادية ليس بذلك التعقيد، الذي يمكن أن يواجه مطالب وملفات أخرى كملف المفقودين والمخطوفين والمعتقلين.
يبدو أن مبادرة "خطوة مقابل خطوة" لا تزال هي الخيار الوحيد المتاح أمام بيدرسون في محاولته تحقيق تقدم ما في مسار العملية السياسية. وربما هذا ما جعله يخصص وقتاً ليس بالقليل لها في أثناء مباحثاته مع المسؤولين السوريين خلال زيارته الأخيرة دمشق. لكن إلى الآن لا تزال هذه المبادرة مجرد أفكار لم تتبلور بعد إلى خطة نهائية متفق عليها بين جميع الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية، وتالياً فإن من غير المرجح قريباً أن تكون هناك خطوات عملية وجوهرية تؤشر إلى بدء تنفيذ المبادرة المشار إليها.
المتتبع للموقف السوري، وما يصدر من بيانات وتصريحات رسمية بين الفينة والأخرى، يخلص إلى أن جزءاً كبيراً من المطالب الحكومية في إطار المبادرة سوف تتركز على قضايا اقتصادية ملحة باعتبارها تحمل في طياتها مصلحة شعبية لا يمكن أن يعارضها أي طرف، إلا إذا كان هناك من لا يزال يعتقد أن من شأن ممارسة مزيد من الضغوط الاقتصادية على دمشق أن يسرّع عملية تفكيك الحاضنة الشعبية لـ"النظام"، إضافة إلى أن تنفيذ هذه المطالب الاقتصادية ليس بذلك التعقيد، الذي يمكن أن يواجه مطالب وملفات أخرى كملف المفقودين والمخطوفين والمعتقلين.
ثلاثة مطالب أساسية
أول المطالب الاقتصادية، التي تصر دمشق على أنها جزء أساسي لا يمكن تجاهله في أي جهود دولية لحل الأزمة سياسياً، يتمثل في رفع العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على البلاد، التي أسهمت إلى جانب عوامل وأسباب أخرى، داخلية وخارجية، في تفاقم وضع السوريين الاقتصادي والمعيشي، لاسيما منذ تشديد الولايات المتحدة الأميركية حصارها الاقتصادي على البلاد في منتصف عام 2019، وهو العام الذي كان يتوقع له أن يحافظ على التحسن الاقتصادي الذي بدأت ملامحه بالتشكل منذ بداية عام 2018 متأثراً بالأوضاع الأمنية والاقتصادية.
وبحسب التقديرات البحثية المستقلة فإن الخسارات الاقتصادية السورية جراء العقوبات الخارجية شكلت ما نسبته 28% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد في السنوات الأولى من عمر الأزمة، وهي نسبة زادت كثيراً بدخول قانون قيصر الأميركي حيز التطبيق في منتصف عام 2020، وهذا هو أحد أهم الأسباب، إلى جانب تأثيرات انتشار فيروس كورونا، التي جعلت خسارات الاقتصاد السوري تقفز إلى نحو 70 مليار دولار عام 2020 على الرغم من توقف المعارك على نحو شبه تام وتحسّن الوضع الأمني، في حين أن خسارات السنوات التسع الممتدة بين عامي 2011 و2019 كانت تبلغ في معدل وسطي لها نحو 58.8 مليار دولار سنوياً تبعاً لتقديرات المركز السوري لبحوث السياسات المستقل.
ومطلب العقوبات لا يشمل ما تفرضه واشنطن وحلفاؤها من إجراءات ضد عمليات توريد وتصدير السلع والاستثمارات المباشرة وحسب، وإنما يشمل أيضاً رفع الحصار عن المعابر البرية والمرافئ البحرية وشركات الطيران بغية تسهيل حركة التواصل التجاري الخارجي واستعادة البلاد مكانتها على خريطة تجارة الترانزيت الإقليمية، وهو إجراء تتشارك فيه دول إقليمية ودولية كتركيا، الأردن، وغيرهما.
لكن تطبيق هذا المطلب دونه صعوبات عدة أبرزها ما يتعلق بالموقف الأميركي، سواء لجهة سياسة الإدارة الأميركية الحالية الرافضة حالياً لمجرد تخفيف مستوى العقوبات، أو لجهة موقف الكونغرس الذي عدل أخيراً بعض بنود قانون قيصر لتكون أكثر تشدداً، وهذا يعني أن تخفيف العقوبات بحاجة إلى توافق بين الإدارة الأميركية والكونغرس، وإن كان قانون قيصر قد سمح للرئيس الأميركي بتخفيف بعض العقوبات، رابطاً ذلك بتحقيق تقدم على صعيد الحل السياسي، فما الثمن الذي ستطلبه الإدارة الأميركية في مقابل تخفيفها العقوبات؟ وهل تقبل به دمشق؟
المطلب الثاني، وهو أكثر تعقيداً، ويتعلق باستعادة الحكومة السورية السيطرة على حقول النفط والغاز التي تحتلها القوات الأميركية في منطقة الجزيرة. مطلب تعده دمشق مكملاً لمطلب رفع العقوبات، إذ إن عودة الحكومة لاستثمار الحقول النفطية والغازية الواقعة في تلك المنطقة سيمكنها من توفير احتياجات البلاد من المشتقات النفطية والغاز الطبيعي بصورة كاملة، وبتقليص فاتورة مستورداتها إلى حد كبير، والأهم إنعاش القطاع الإنتاجي المتعثر حالياً بفعل ضعف حوامل الطاقة.
وبحسب بيانات سابقة لوزارة النفط والثروة المعدنية فإن نحو 93.5% من إنتاج البلاد النفطي المقدر قبل الأزمة بنحو 385 ألف برميل يومياً كان يأتي من حقول المنطقة الشرقية، التي وصل إنتاجها اليومي آنذاك إلى نحو 360 ألف برميل تتوزع على المحافظات الثلاث تبعاً لما يلي: الحسكة بإنتاج يومي قدره 225 ألف برميل، دير الزور بنحو 125 ألف برميل، والرقة بنحو 10 آلاف برميل. وتضيف البيانات المذكورة أن إنتاج المنطقة من الغاز الطبيعي كان يصل قبل الأزمة إلى نحو 8 ملايين متر مكعب يومياً، وذلك من إجمالي إنتاج البلاد اليومي، والمقدر آنذاك بنحو 21 مليون متر مكعب يومياً، أي ما نسبته نحو 38%. أما إنتاج المنطقة من الغاز المسال فقد وصل في الفترة المذكورة إلى نحو 470 طناً يومياً مشكلاً بذلك ما نسبته 70% من إجمالي إنتاج البلاد البالغ نحو 670 طناً يومياً.
هنا أيضاً يبدو الأمر شائكاً ومعقداً على الرغم من إمكانية توقع حدوث سيناريوهين اثنين:
-الأول أن تحافظ واشنطن على وجودها العسكري في المنطقة الشرقية، انتظاراً لصفقة كبيرة أو قرار داخلي مشابه لذلك الذي اتخذ في أفغانستان، لكن مع السماح لمؤسسات الحكومة السورية بدخول المنطقة، وإعادة تشغيل واستثمار بعض الحقول النفطية في إطار اتفاق ما تجري صياغته برعاية روسية-أميركية، ويشكل مدخلاً إلى تفاهم بين الحكومة السورية والفصائل الكردية. إنما هذا السيناريو سيكون مرهوناً بوجود رغبة أميركية في التحاور مع موسكو حيال سوريا من جهة، ووجود قناعة لدى الفصائل الكردية المسيطرة على المنطقة بحتمية التفاهم مع دمشق من جهة ثانية.
-الثاني أن تنسحب القوات الأميركية من الجزيرة السورية على نحو تمهيدي أو مفاجئ. وهذا بقدر ما هو مستبعد قياساً إلى ملامح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، فإنه قابل للتحقق أيضاً، لاسيما إذا كانت هناك متغيرات جديدة تدفع واشنطن نحو هذا الخيار، وبالتأكيد لن يكون لهذه المتغيرات علاقة بمساعي الحل السوري لسببين: الأول الفجوة الكبيرة في المواقف والسياسات الكبيرة المتشكلة بين دمشق وواشنطن، التي يبدو أن ردمها صعب جداً اليوم. والثاني اعتقاد الإدارة الأميركية أن انسحابها من سوريا سوف يفسح في المجال لموسكو لتتحكم بالملف السوري كاملاً، خصوصاً في ضوء العلاقة الجديدة المتشكلة بين موسكو وأنقرة.
المطلب الثالث، الذي يبدو أن الأطراف بمعظمها مقتنعة على نحو متفاوت بأهميته، يتعلّق بضرورة قيام المجتمع الدولي بتقديم مساعدات مباشرة لدعم عملية الانتقال من العمل الإغاثي إلى مشروعات التعافي المبكر، التي تتعدّى ما تقدّمه حالياً بعض الدول عبر المنظمات الأممية على صعيد إصلاح بعض المرافق الخدمية ومساعدة الأسر على تنمية مدخولها، فضلاً عن المساعدات الإغاثية المباشرة، التي كان لها دور مهم في الحد من تفاقم سوء الأوضاع الغذائية لعدد من الأسر.
فحجم الخراب والدمار الذي لحق بالقاعدة الإنتاجية والخدمية وتدهور الأوضاع الاقتصادية منذ عام 2020 يفرضان مقاربة جديدة ومختلفة، لاسيما مع ازدياد الحديث عن رغبة بعض دول الجوار في إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال فترة زمنية قريبة، وهو ما يتطلب دعماً دولياً لدمشق لضمان عودة هؤلاء وتلبية احتياجاتهم الأساسية ومتطلبات استقرارهم. وكما هو معلوم فإن التبرعات الدولية للملف الإنساني في سوريا تراجعت على خلفية الحرب الأوكرانية، وثمة تخوف من إمكانية حدوث تراجع أكبر مع ملامح تصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية. وبحسب البيانات الأممية فإن ما جرى توفيره من تمويل لهذا العام لم تتجاوز نسبته 27.5% من إجمالي ما تعهدت الدول في مؤتمر بروكسل بتوفيره ويبلغ نحو 4.4 مليارات دولار.
تشكل نظرة كل طرف إلى مصطلح التعافي المبكر إحدى النقاط التي تحتاج إلى نقاش موسع بين جميع الأطراف للوصول إلى تحديد واضح لهذه العملية، واحتياجاتها، ومراحلها المستقبلية، وعلاقتها بالمبادرة الأممية "خطوة مقابل خطوة"، والتزامات كل طرف لإنجاحها. وعليه فإن تجربة المنظمات الأممية في سوريا خلال سنوات الأزمة يمكن أن تشكّل أرضية يستفاد منها في الاتفاق على إطار مرجعي لمشروع التعافي المبكر بمستوياته ومراحله المختلفة.
انفتاح مضبوط
ليس هناك شك في أهمية جميع الملفات في مسيرة العملية السياسية، بدءاً من ملف المفقودين والمخطوفين والمعتقلين مروراً بملف اللاجئين والمهجرين، وليس انتهاء بملف النقاش حول الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية، إنما يبدو أن الاقتصاد سيكون مرافقاً ومرادفاً لكثير من تلك الملفات، ولنتذكر أن المبادرة الأردنية قبل أكثر من عام بدأت خطوتها بانفتاح اقتصادي محدود تمثل في زيادة الحركة على المعبر الحدودي بين البلدين، ثم محاولة إحياء مشروع نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأرضي السورية، وكذلك فعلت الإمارات عبر دخول شركة إماراتية ميدان الاستثمار في الطاقات المتجددة بالتعاون مع وزارة الكهرباء السورية، وحتى في الحديث الأخير المتعلق بإمكانية حدوث تقارب سوري تركي فإن التوقعات ترجح احتمال أن تكون البداية عبر البوابة الاقتصادية.
لكن في جميع تلك الخطوات، فإن الانفتاح الاقتصادي على دمشق كان مضبوطاً بسرعة معينة ومشروطاً بخطوات لاحقة، ويبدو أن مبادرة بيدرسون ستأخذ هي الأخرى هذا المنحى في البدء إلى حين ضمان انطلاق المبادرة واطمئنان جميع الأطراف إلى أنها تسير في اتجاهها الصحيح.