ما وراء المناورة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية في البحر؟
تجسّد المقاومة الفلسطينية في رسائلها رسالة وفاء للأسرى، تقول فيها أنتم أولوية لا تزاحمها أولوية، وقرار تحريركم وفكّ قيودكم لا رجعة عنه.
إطلاق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أكثر من خمسين صاروخاً دفعة واحدة بينها صواريخ من طراز عيّاش 250 تجاه البحر، وهذه تعد المرة الأولى التي تقوم فيها بإطلاق هذا النوع والكم من الصواريخ دفعة واحدة، في وقت تتزامن فيه اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين من جهة، وعلى الأسرى في السجون الإسرائيلية من جهة أخرى، وتزامناً مع إجراءات انتقامية أقرّها مؤخّراً إيتمار بن غفير الوزير الإرهابي المتطرف في حكومة بنيامين نتنياهو.
اللافت في المناورة الصاروخية، أنها تضمّنت إطلاق صواريخ من طراز عياش 250، وهو الصاروخ الذي استخدمته كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس للمرة الأولى وكشفت عنه في معركة سيف القدس، في أيار/مايو 2021، بعدما أطلقته تجاه مطار رامون الإسرائيلي قرب مدينة إيلات، والذي يضرب مسافة تصل نحو 250 كيلومتراً.
ثمة رسائل سياسية وعسكرية تندرج وراء مناورة صواريخ المقاومة تجاه البحر، من حيث التوقيت والرسائل؟ فمناورة الصواريخ في ظاهرها تجريبية، ومن الناحية العسكرية تأتي في إطار معركة الإعداد والتطوير، واختبار القدرات العسكرية لمنظومة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة، ومدى زيادة دقتها وقدرتها على إصابة الأهداف، وتأتي كرسالة تهديد من المقاومة تؤكد فيها جاهزيتها في حال ارتكبت "إسرائيل" أي حماقة عبر استئناف سياسة الاستهداف العسكري أو الاغتيالات مجدّداً، تقول فيها إنها قادرة على إطلاق هذا الكم والنوع من هذه الصواريخ التي تمّت تجربتها.
الرسالة الأبرز في المناورة الصاروخية أنها حملت في طيّاتها نصرة الفلسطينيين في الضفة الغربية والأراضي المحتلة، وكذلك الأسرى في سجون الاحتلال، فمن حيث التوقيت تأتي في وقت تتواصل فيه عمليات القتل والقمع والبطش واعتداءات المستوطنين بحق الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، واستمرار سياسة التنكيل بالأسرى وممارسة سياسة القتل البطيء بحقهم، ومنع المرضى منهم من تلقّي العلاج وحرمانهم من أبسط حقوقهم.
الأسرى الفلسطينيون يمثّلون قضية وطن وحكاية شعب، والمقاومة الفلسطينية تضع قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية أحد أهم القضايا على أجندتها الوطنية، ومن أبرز الثوابت التي توليها اهتماماً وأولوية، ولطالما ذكرت في مواقفها السياسية قضية الأسرى إلى جانب قضية المسرى، في إشارة الى أنها قضية تحتل أهمية بالغة مثلها مثل قضية القدس واللاجئين وحق العودة، وعملت من أجل حريتهم وما زال لديها جنود إسرائيليون أسرى بهدف تحرير من تبقّى منهم وتبييض السجون الإسرائيلية.
وتعبّر المقاومة الفلسطينية من خلال مناورتها الكبيرة بلغة النار عن رفضها لما يجري من عمليات قمع وانتهاكات إسرائيلية مستمرة بحق الأسرى في سجون الاحتلال، في ظل وجود أكثر من ستة آلاف أسير فلسطيني ما زالوا يرزحون خلف قضبان السجّان الإسرائيلي.
قضية الأسرى وبالنظر إلى مدى الاهتمام الوطني فيها والالتفاف الجماهيري الكبير حولها، هي أشبه بصاعق قد يفجّر مواجهة شاملة مع الاحتلال في أي لحظة مقبلة، إذ ترسل المقاومة الفلسطينية رسالة تهديد عملية لـ "إسرائيل" بالبارود والنار، مفادها أن قضية الأسرى خط أحمر، ولا تقبل استمرار الانتهاكات بحقهم، وتلوّح تلويحاً صريحاً لا لبس فيه أن الاستمرار في الاعتداءات على الأسرى يمكن أن يفجّر مواجهة عسكرية مسلحة، فهي قضية بالنسبة لها لا تقل أهمية عن الثوابت الفلسطينية. وهذا ما لوّح به سابقاً القائد العسكري الكبير مروان عيسى، نائب القائد العام لكتائب القسام القائد محمد الضيف، حول الأسرى ومعاناتهم المستمرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
"إسرائيل" تولي اهتماماً كبيراً بتجارب المقاومة الصاروخية التي تنفّذها بين الحين والآخر، بغية تحديد القدرات التطويرية لها على صعيد المسافة والقوة التفجيرية وآليات الانطلاق والسقوط، وتفرد الصحافة الإسرائيلية دوماً مساحات من التحليل والبحث، والتجربة الأخيرة وصفها الإعلام الإسرائيلي بالصواريخ المرعبة، وعدتها صحيفة يسرائيل هيوم أنها صواريخ تحمل رسالة تهديد مباشر لحكومة نتنياهو.
فالاحتلال ينظر إلى مثل هذه التجارب على أنها وإنْ كانت تجري في عرض البحر، لكنها ستكون موجّهة إلى أهداف استراتيجية مستقبلية حقيقية داخل "إسرائيل"، كمحطات الكهرباء والموانئ والمطارات والمصانع، حال اندلعت مواجهة عسكرية مع المقاومة الفلسطينية.
تجسّد المقاومة الفلسطينية في رسائلها رسالة وفاء للأسرى، تقول فيها أنتم أولوية لا تزاحمها أولوية، وقرار تحريركم وفكّ قيودكم لا رجعة عنه، والمقاومة بمختلف تشكيلاتها لا تدخر جهداً ووقتاً وتخطيطاً من أجل حريتكم، ومن خلفها شعب قرّر ألا يوقف مقاومته، بل هو مستمر فيها حتى استرداد كامل حقوقه.
تكرار المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من تجاربها الصاروخية بشكل دوري يسجّل نجاحاً لها في فرض معادلة الرعب، وتثبت أنها ما زالت متمسّكة بسلاحها رغم محاولات التدجين والاحتواء، وهذا بحد ذاته يعكس النقلة النوعية في تطوّر منظومة الصواريخ لديها، ضمن استعداداتها لأي مواجهة محتملة مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا له دلالات كبيرة.
أهم هذه الدلالات أن الحصار على المقاومة والاستنزاف الإسرائيلي المقصود عبر اتباع استراتيجية المعارك بين الحروب بهدف استنزاف قدرات المقاومة فشل فشلاً ذريعاً ولم يحقّق أهدافه، وأن الاحتلال لم يستطع التأثير على النمو العسكري التصاعدي واستمرار مسيرة التطوير لدى المقاومة، مع وصولها إلى مرحلة متقدمة في تطوير عجلة التصنيع والإعداد، رغم الإمكانات المتواضعة واستمرار الحصار المطبق على قطاع غزة منذ أكثر من ستة عشر عاماً.