ما بعد قرداحي.. الخطوات السعودية المقبلة تجاه لبنان
ما يبدو ظاهرياً أنه انكفاء، لا يعكس باطنياً سوى إحجام عن المساعدة وتبديل للأدوات والمقاربة.
لم تكن السعودية يوماً منكفئة عن لبنان. تم الاصطلاح على هذا التوصيف تجاوزاً خلال الفترة الماضية، في سياق الإشارة إلى حرد الرياض وامتناعها عن تقديم أي مساعدة في خضم الانهيار المالي والاقتصادي الذي يشهده لبنان، وقبل ذلك بسنوات عندما أجبرت سعد الحريري على تقديم استقالته.
في الظاهر، تبدو المملكة كأنها تنفض يدها من كلّ ما يتعلق بلبنان. سفيرها في بيروت غادر العاصمة اللبنانية مرات عدة، وبقي خارجها لفترات غير قصيرة. هي لم تعطِ إشارات رضا عندما حاول الحريري تشكيل حكومة قبل عزوفه عن ذلك، وما زالت إلى اليوم ترفض استقبال رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي أو التواصل معه. لكن بخلاف انقطاع التواصل مع مؤسسات الدولة ومن يمثلها، وهي مهمّة أيّ سفير في البلد المضيف، كان الإعلام ينقل لقاءات محدودة ومنتقاة للسفير السعودي مع فعاليات وأطراف شعبية وسياسية، على رأسها رئيس حزب القوات سمير جعجع وبعض العشائر العربية التي تحاول الرياض الاستثمار فيها.
انكفاء عدائي وليس حيادياً
ما يبدو ظاهرياً أنه انكفاء، لا يعكس باطنياً سوى إحجام عن المساعدة وتبديل للأدوات والمقاربة. هذا "الانكفاء"، إذا صحّ التعبير، لا يستقيم مع افتعال قضية جورج قرداحي. وقد تبيّن لاحقاً، باعتراف سعودي، أنَّ المسألة تتجاوز تصريح وزير، إذ أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان صراحةً في مقابلة مع شبكة "سي أن بي سي" الأميركية أن سبب الوضع الحالي بين السعودية ولبنان "أوسع من مجرّد تعليقات وزير واحد"، وأنَّ المشكلة تكمن في "واقع أن المشهد السياسي في لبنان لا يزال حزب الله يُهيمن عليه".
يتنافى الانكفاء أيضاً مع تصعيد سبق أن تعمَّدته السعودية للضغط على لبنان، كان عنوانه وقتها وصول شحنة مخدرات موضّبة داخل الرمان قادمة من لبنان، تلاها قرار بحظر دخول المنتجات الزراعية اللبنانية إلى المملكة. كما يتنافى الانكفاء مع افتعال قضية أخرى أعقبت قضية قرداحي، وكان عنوانها هذه المرة تسريب محادثة لوزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب. لكن لماذا تفعل السعودية ذلك؟ وماذا تريد من لبنان؟
بدا من سياق التطورات في الأسبوعين الماضيين أنَّ الرياض لم تفتعل الأزمة مع لبنان، إلا لكي تبني عليها توجّهات وسياسات جديدة، لا لكي تقف عند هذا الحدّ؛ حدّ الاعتذار وعودة الأمور إلى نصابها. من هنا، يمكن فهم موقف حزب الله والأطراف السياسية المتحالفة معه في الحكومة، على اعتبار أن أيّ تنازل أو اعتذار في هذه القضية سوف يفتح باب التنازلات على مصراعيه، وسوف يتحوّل إلى ابتزاز لن يتوقف إلا بتحقيق المطالب السعودية ومآربها.
يمكن العثور على ملامح المآرب السعودية في لبنان من خلال العديد من المسارات. أولاً، الوثائق المُسربة حول خطط أعدَّتها السّعودية للبلد الذي رعت نهاية الحرب الأهلية فيه في ما مضى بتكليف أميركي. ثانياً، تغريدات سعودية صادرة عن السفير السعودي إلى جانب بعض الكتّاب. ثالثاً، من خلال الخطابات الرسمية الصادرة عن المملكة وعن حزب الله، إضافة إلى جهات رسمية في كلٍّ من لبنان والسعودية.
الوثائق المُسربة
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، نشرت جريدة "الأخبار" اللبنانية وثيقة مسرّبة أعدّها مستشارو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. في الوثيقة التي وُضعت في العام 2017، تشرح السعودية برنامج العمل التفصيلي لـ"إضعاف" حزب الله، من خلال تحديد الخطوات الواجب القيام بها، والأدوات التي يجب الاستعانة بها. تتوزع الخطة على 4 محاور: سياسي، واقتصادي، وإعلامي، وعسكري.
يتبيّن من خلال الوثيقة أنَّ نيات السعودية تجاه لبنان ليست حيادية ولا حتى إيجابية، بل تنطوي على أهداف سعت إلى تحقيقها، تتعلق أساساً بمواجهة حزب الله. اللافت في المبادرة أنّ بعض بنودها يذكر بوضوح، ومنذ العام 2017، أي قبل حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019، وقبل الانهيار الاقتصادي، اللجوء إلى التضييق الاقتصادي وتشديد المراقبة على تحويلات المغتربين.
يتبيَّن من خلال الوثيقة أنّها تتماهى إلى حد كبير مع الأهداف الأميركية والإسرائيلية في لبنان. كما يتبيّن أن بعض بنودها وُضع بالفعل موضع التنفيذ، وخصوصاً الشق المتعلق بالجانب الإعلامي، مع العلم أنَّه جرى تسريب وثائق سرية خاصة بوزارة الخارجية السعودية نشرتها "ويكيلكس"، تتحدث عن "دعم القنوات الإعلامية اللبنانية والتلفزيونية المعتدلة والوطنية المناهضة لسياسات حزب الله، والعمل معها على وضع سياسات لكشف تجاوزات الحزب وتوجيهاته العقائدية"، وذلك منذ العام 2015. تُظهر الوثائق على سبيل المثال أنّ السعودية دفعت في العام 2012 مليونَي دولار لمحطة "MTV" اللبنانيّة، شرط أن تكون بخدمة المملكة تقنياً وسياسياً.
وعليه، من غير المستبعد أن تلجأ السعودية، ومعها بعض العواصم الخليجية، في الأيام المقبلة، إلى خطوات تتعلق بالتضييق على اللبنانيين المقيمين على أراضيها، واستغلالهم في سبيل الاستثمار بحملة إعلامية تبدأ من مطالبة اللبنانيين المغتربين بتحييد لبنان عن الصراعات، بحجة "أن لا يدفع اللبنانيون الثمن".
هذه الخطوة تمثّل ابتزازاً بدأت تباشيره منذ أن انطلقت الحملة على قرداحي في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أوساط الاغتراب، وفي نشر بيانات وأخبار مشبوهة ومفبركة هدفها توليد الخوف لدى المغترب اللبناني الكفوء الَّذي يتقاضى راتبه لقاء أتعابه، وليس باعتباره مكرمة.
هذا الأمر يتقاطع مع ما ذكرته مصادر لـ"الميادين" من أنّ "بيروت تبلَّغت تلميحات سعودية ببدء ترحيل جزئي للبنانيين من أراضيها إذا فشلت مهمة حسام زكي"؛ الأمين العام المساعد للجامعة العربية الذي زار بيروت في إطار وساطة لم يكشف عنها الكثير.
الخطوات السعودية المرتقبة
ترافقت الحملة المفتعلة ضد لبنان بذريعة موقف قرداحي، ولاحقاً وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، مع حملة إعلامية شهدتها صحف المملكة، وامتدت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ووصلت إلى حد إهانة اللبنانيين. النبرة السعودية العالية خبت في الفترة الأخيرة مع وصول وفد من الجامعة العربية إلى بيروت، في محاولة للتوسط لإنهاء الأزمة، بموازاة اتصالات خلف الكواليس تولاها بشكل أساسي رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي مع الفرنسيين والأميركيين وبعض حكام الخليج.
لوّحت الرياض، ومعها بعض عواصم الخليج، بإجراءات تصعيدية في حال لم تستجب بيروت لإقالة قرداحي كخطوة أولى. أما الخطوات الأخرى المطلوبة، فتبدو انفعالية بعيدة من الواقع، وترتبط إلى حدٍّ كبيرٍ بالمأزق السعودي في اليمن. عبّرت الرياض بصورة غير مباشرة عبر وزير خارجيتها عمّا تريده وتسعى إليه السعودية في بيروت: أن يقف لبنان كلّه بمواجهة حزب الله. بناء عليه، يُفهم بأنَّ المطلوب من اللبنانيين هو إما أن يموتوا في حرب أهلية، وإما أن يعانوا بشكل جماعي حصاراً سعودياً خليجياً ضاغطاً في الأيام المقبلة، ربما تتخلّله توترات أمنية.
مطلب السعودية استدعى توضيحاً من وزير الخارجية اللبناني، الذي لم يجد بدّاً من القول خلال مقابلة مع وكالة "رويترز" إنَّ الرياض تملي شروطاً مستحيلة من خلال مطالبة الحكومة بالحد من دور حزب الله، والذي كذّب ادعاء الرياض، من خلال تأكيده أن حزب الله "لا يهيمن على البلد".
في ظلِّ الفسحة الزمنية الفاصلة بين التصعيد الأول الذي أعقب مواقف قرداحي والخطوات السعودية والخليجية المنتظرة بُعيد سحب السفراء، تبرز مجموعة من الأسئلة المعلّقة بانتظار الأيام المقبلة، لعلّها تجيب عن البعض منها، ومن ذلك: ماذا بإمكان الرياض أن تفعل؟ وهل في حوزتها ما يكفي من الأوراق للضغط على لبنان أو على حزب الله لتحقيق مطالبها؟ وهل الخطوات السعودية تنسجم في هذه المرحلة مع الرؤية الأميركية تجاه لبنان أم هناك افتراق في المقاربات؟
مهما كانت الخطوات السعودية المرتقبة، فإنها على الأغلب لن تؤدي إلا إلى طريق مسدود. ليس هذا بجديد على الرياض التي تنمرّت على "شقيقتها" الدوحة، وقطعت العلاقات معها لنحو 4 سنوات قبل أن تسحب لسانها ومطالبها في نهاية المطاف.
موقف حزب الله، الذي يقرأ التطورات في المنطقة من زاوية واسعة، كان حازماً قبل أيام على لسان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، حين قال: "ليس مطلوباً من المعتدى عليه أن يتنازل ويتذلّل ويعتذر، بل المطلوب من المعتدي الذي هو السعودية أن يتراجع ويعتذر للشعب اللبناني".
على عكس ما تشتهي السعودية، فإنَّ زيادة الضغط على لبنان وعلى اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، ووضع البلد كلّه تحت وطأة الحصار والضغط، من شأنه أن يولّد نقمة ضدها، والأهم أنه قد يفقدها ما تبقى لها من تأثير ونفوذ في لبنان إذا ما قرّرت الذهاب إلى النهاية وفق معادلة صفرية. هذا ما حصل تدريجياً خلال السنوات السبع من عدوانها على اليمن، والتي آلت إلى انقلاب المعادلة هناك رأساً على عقب، لتخسر معها الرياض معظم نفوذها الذي بنته على مدى عقود في واحد من أعرق البلاد العربية حضارة وتاريخاً.
تتّهم الرياض حزب الله منذ سنوات بدعم "أنصار الله" عسكرياً في اليمن. إذا صحّ ذلك، فإنه يؤشر إلى أوراق قوة بيد الحزب لا بيد السعودية، لكنّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله نفى في خطابه الأخير أن يكون للحزب أي دور في الإنجازات التي حققها اليمنيون مقابل العدوان السعودي، مشيراً إلى شبهات سعودية وتقديرات خاطئة حول هذه المساهمة المفترضة.
بمعزل عن ذلك، فإت أقصى ما تستطيع الرياض فعله في سياق الأزمة المفتعلة ضد لبنان هو الإضرار به اقتصادياً وربما أمنياً، وهذا مؤلم طبعاً، على أمل أن يفتح لها ذلك باباً للضغط شعبياً على حزب الله وتحميله مسؤولية وتبعات ما يجري. لكن مقابل الأبواب التي تفتحها الرياض، ثمة من يملك مفاتيح أبواب أخرى.
يصعب اليوم فصل الساحات بعضها عن بعض بقوة الأمر الواقع وزخم التطورات التي انطلقت قبل سنوات، والتي تصدى لها محور المقاومة بعدما أشعلها محور أميركا وحلفائها، من سوريا إلى العراق إلى اليمن، والتي استُخدِم فيها "داعش" وأخواته المولودة من رحم السعودية.
المعركة كانت، وما زالت، أقرب إلى سباقات المسافات البعيدة، لكن الرياض المأزومة في اليمن والقلقة من تطورات المنطقة، في ظل علاقة غير مريحة مع إدارة بايدن ومحادثات مرتقبة مع إيران، تستعجل استخدام عزمها، وتفرّط بما تبقى من طاقتها، على أمل أن تحدث فارقاً، وهذا لن يوصلها غالباً إلى خط النهاية، وربما يخرجها من السباق.