ماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية من سوريا؟
هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن البحث عن مواطنيها المفقودين عبر البوابة الرسمية، كما نقلت وسائل إعلام أميركية.
عادت واشنطن قبل أيام قليلة لتُحمِّل دمشق مسؤولية فقدان مواطنين أميركيين دخلوا إلى الأراضي السورية بشكل غير شرعي، وهو اتهام واجهته دمشق ببيان شديد اللهجة، طالبت فيه الإدارة الأميركية بتنفيذ 5 بنود أساسية هي: "سحب قواتها العسكرية من الأراضي السورية، ورفع الغطاء والحماية عن الجماعات الانفصالية المسلحة والجماعات الإرهابية المسلحة، والامتناع عن سرقة النفط والقمح السوري وتهريبهما، ووضع حد نهائي وغير مشروط للإجراءات القسرية الأحادية الجانب المفروضة من الإدارات الأميركية المتعاقبة على الشعب السوري".
هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن البحث عن مواطنيها المفقودين عبر البوابة الرسمية، كما نقلت وسائل إعلام أميركية. سبق لإدارة ترامب أن وجهت الاتهام ذاته، قبل أن ترسل مبعوثين إلى دمشق طلباً للمساعدة في إيجاد حل لهذا الملف، ولا سيما أن الانتخابات الرئاسية الأميركية كانت آنذاك على الأبواب.
لكن ذلك بقي مجرد اتصال لم يسفر لاحقاً عن أيّ تحول إيجابي يمكن البناء عليه في فتح قناة حوار بين البلدين، بل إن الفترة اللاحقة شهدت مزيداً من التشدد الأميركي في مقاربة الملف السوري، وتحديداً على جبهة العقوبات الاقتصادية.
3 عوامل رئيسية
قبل أسابيع قليلة، كان الباحث الاقتصادي الدكتور منير الحمش يحاول إجراء تحليل لبنية الاقتصاد السياسي للأزمة السورية. وكان من بين النقاط الرئيسية التي ناقشها في بحثه ما يتصل بالدور الأميركي في صناعة الأزمة السورية وتأجيجها.
وقد طرح في سياق ذلك سؤالاً جوهرياً يتردّد منذ نحو 7 عقود من الزمن، ومفاده: ماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية من سوريا؟
الإجابة عن هذا السؤال، وإن كانت تشكّل انعكاساً لطبيعة العلاقات السياسية السائدة بين الدولتين، والمتباينة بين فترة زمنية وأخرى، فإنها في إطارها العام لا تخرج، في رأي الدكتور الحمش، عن محاولة دمج سوريا "في المشروع الأميركي (الشرق الأوسط الكبير)، بما في ذلك الالتحاق بالاقتصاد العالمي، وتطبيق جدول أعمال اقتصاد السوق، وإبعادها عن المشروع النهضوي العربي، ودفعها إلى نبذ القومية العربية، والسكوت عن احتلال الجولان، وتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، ونسيان القضية الفلسطينية وما يتعلق بها".
قد لا يتفق البعض مع هذه الرؤية لأسباب عدة، قد تكون سياسية مرتبطة بالموقف من الحكومة السورية، أو علمية نابعة من تحليلٍ مختلف للواقع، لكن عملياً هناك مجموعة عوامل لا يمكن تحييدها عند محاولة الإجابة عن السؤال السابق، مهما كان الموقف من الحكومة السورية وخياراتها السياسية وحقيقة المشروع الأميركي في المنطقة.
هذه العوامل هي:
- العامل الإسرائيلي: يمكن الاستدلال على حجم تأثير هذا العامل من خلال استعراض بعض الأمثلة، كالتحول الذي طرأ على العلاقات الأميركية المصرية في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد قبل نحو 4 عقود من الزمن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السودان، الذي لم يجد قبل نحو عامين مدخلاً لإزالة اسمه من لائحة العقوبات الأميركية سوى ركوب قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني.
أيضاً، إن التحسن الذي طرأ على العلاقات السورية الأميركية في عقد التسعينيات جاء على خلفية الزخم الذي اكتسبته "مفاوضات السلام السورية الإسرائيلية"، كما أن معظم طلبات كولن باول الشهيرة التي حملها إلى القيادة السورية عام 2003 تركزت على ضمان أمن "إسرائيل". لهذا، إن الموقف من "تل أبيب" يمثل بالنسبة إلى الإدارات الأميركية بوصلة لطبيعة ومستوى علاقاتها الخارجية مع دول المنطقة، والعالم أحياناً.
- العامل الإقليميّ وتحالفاته: الولايات المتحدة الأميركيّة، إلى جانب هدفها في توسيع دائرة المطبعين العرب مع "إسرائيل"، تحاول، وبسبل شتى، تفكيك أيّ تحالف إقليمي في المنطقة، أياً كانت غايته، بما في ذلك مؤسسة الجامعة العربية، ترسيخاً لنفوذها وضماناً لمستقبل "إسرائيل" وأمنها. لهذا، إن واشنطن تريد صراحة من دمشق أن تبتعد عن طهران وحركات المقاومة، وقدمت لذلك مقترحات واضحة مع بدايات الأزمة السورية.
- العامل الاقتصادي: على الرغم من أن سوريا ليست دولة منتجة للنفط بكميات مؤثرة، كما هي حال دول الخليج، فإنَّها قادرة، بسبب موقعها الجغرافي، على أداء دور مساند أو معرقل للخطط والمشروعات الاقتصادية الأميركية.
هذا ما أكّدته مجدداً الحرب الأوكرانية، سواء بالنسبة إلى خطوط نقل الطاقة بين الشرق والغرب، والتي كان يمكنها كسر عملية الاحتكار الطاقوي الروسي، أو لجهة إكمال الحصار الغربي على روسيا.
إن سوريا ليست الدولة الوحيدة التي يمنحها موقعها الجغرافي قيمة مضافة على صعيد العلاقات الدولية، فهناك دول أخرى مشابهة، وهي بمجموعها بمنزلة سلسلة مهمة تشكل سوريا إحدى حلقاتها الأساسية.
فرصة الحوار
وسواء قامت واشنطن بتجهيز مسرح الأحداث في سوريا على مدار عدة سنوات، كما يذهب الدكتور الحمش وغيره، أو استثمرت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعانيها قبل عام 2011، وحاولت إسقاط الحكومة السورية وتفكيك مؤسسات الدولة، كما فعلت في العراق، فإن ما حدث في أفغانستان من خروج مفاجئ للقوات الأميركية، وإفساح المجال لحركة "طالبان" في الاستحواذ على السلطة، يطرح تساؤلات عن إمكانية أن تسقط واشنطن حالة العداء مع دمشق، وتفتح معها قناة حوار يفضي إلى تحقيق نتائج إيجابية، ولا سيما أن مصلحة البلدين حالياً تقتضي منطقياً فعل ذلك.
من مصلحة واشنطن، وإن لم توقّع دمشق مباشرة اتفاق تطبيع مع "إسرائيل"، أن تبعدها قدر المستطاع عن محور طهران وموسكو. في المقابل، إن دمشق حريصة على استعادة حقول نفطها الرئيسية ورفع العقوبات الغربية عن اقتصادها، إنما ذلك يبدو مؤجلاً للأسباب التالية:
- الرغبة الأميركية في استنزاف دمشق سياسياً واقتصادياً إلى أبعد حدّ ممكن. هذا الأمر يمكن استنتاجه بسهولة من خلال تتبع الموقف الأميركي من الحكومة السورية منذ عام 2011.
ورغم إعلان الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال فترة الحرب تخليها عن فكرة إسقاط الحكومة السورية، فإنها في المقابل كانت تعمد إلى تضييق الخناق على دمشق، سواء عبر العقوبات الاقتصادية التي زادت حدتها بعد إصدار قانون "قيصر" أو من خلال استمرارها باحتلال حقول النفط والغاز الرئيسية في البلاد ودعمها مجموعات "قسد" المتهمة بتبنيها مشروعاً انفصالياً.
- تمسك دمشق بتحالفها الاستراتيجي مع إيران وروسيا اللتين ساندتاها في حربها ضد المجموعات والفصائل المسلحة المدعومة غربياً من جهة، وعدم ثقتها بالولايات المتحدة التي تخلَّت عن أنظمة عربية عديدة كانت تدعمها فيما مضى من جهة ثانية. ومن الطبيعي أن تتشدّد دمشق اليوم أكثر في موقفها من العلاقة مع واشنطن، بعد أن تمكّنت من تجاوز مرحلة الحرب الصعبة.
- رفض "إسرائيل" أي تحرك من هذا النوع ما لم تعلن دمشق إنهاء حالة العداء لها؛ فما كان مقبولاً قبل عام 2011 لم يعد كذلك اليوم. اليوم، لدى "تل أبيب" علاقات رسمية مباشرة مع 8 دول عربية، وأقل من ذلك بعلاقات غير مباشرة. وتالياً، فهي غير مضطرة إلى قبول صفقات ما في مقابل التطبيع مع سوريا، ما دامت أبواب الدول العربية تفتح أمامها من دون أي ثمن.
- عدم وجود دولة قادرة على رعاية حوار بهذا المستوى، وخصوصاً لجهة كسبها ثقة الطرفين، كما حدث بعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. آنذاك، أدت روسيا وتركيا والسعودية دوراً رئيسياً في التوصّل إلى اتفاق لاستجواب بعض الضباط السوريين، في مقابل حصول دمشق على ضمانات بعدم اعتقالهم، لكن العلاقات الروسية –الأميركية حالياً متدهورة على خلفية توسع حلف الناتو والحرب الأوكرانية، وسوريا في قطيعة سياسية تامة مع كل من أنقرة والرياض. والسؤال: ما الدولة المؤهلة للقيام بدور الوساطة؟
لا تثق سوريا حالياً سوى بدولتين ترتبطان بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، ولم تتورطا في الحرب السورية؛ الأولى هي سلطنة عُمان المؤهلة فعلياً لقيادة مثل هذا الحوار في ضوء تجاربها، ولا سيما بين طهران وواشنطن، والأخرى هي الإمارات العربية المتحدة التي استقبلت الرئيس بشار الأسد قبل أشهر قليلة، رغم الامتعاض الأميركي، إنما ليست هناك أي معلومات تفيد بتحرك سياسي ما من الدولتين نحو هذا الملف.
- استمرار تحريض بعض دول الإقليم على حكومة دمشق، وفي مقدمتها قطر. مثل هذا التحريض، وإن كان لا قيمة له عند وجود قرار أميركي بالحوار مع دمشق، يمكن أن يؤثّر بشكل ما في المسار الزمني لهذا الحوار وأولوياته، وخصوصاً إذا ما كانت هناك مصالح متضاربة للولايات المتحدة مع هذه الدول، لكن اعتدنا في هذه المنطقة أن ما تريده واشنطن يجد طريقه للتنفيذ من معظم الدول.