ماذا بعد سيطرة موسكو على أحداث كازاخستان؟

بدا من رد الفعل الروسي السريع على أحداث كازاخستان أنَّ هذه الأزمة جاءت في موعدها كي يستخدمها المفاوض الروسي كأداة ضغط إضافية على الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو، من أجل فرض وجهة النظر الروسية في الملف الأوكراني.

  • ماذا بعد سيطرة موسكو على  أحداث كازاخستان؟
    التدخل الروسي السريع في كازاخستان كانت له أسباب تتعلَّق بأهمية هذا البلد بالنسبة إلى الاستراتيجية الروسية الإقليمية

رغم أنّ كلّ الأضواء كانت مسلَّطة بشكل تامّ على الجبهة الشرقية المشتعلة في أوكرانيا، وسط التحذيرات الأميركية من اجتياح عسكري وشيك من جانب موسكو، بدا أنّ أصداء هذا التوتر وصلت إلى العاصمة الاقتصادية لكازاخستان - ألماتي - في تكرار لسلسلة طويلة من التوترات الداخلية التي شابت جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، والتي كانت اليد الغربية عاملاً محفزاً فيها. وفي بعض الأحيان، كانت هذه اليد هي وسيلة إشعال هذه التوترات.

وعلى الرغم من وجاهة الاعتقاد السائد بأنَّ الولايات المتحدة الأميركية قد تكون المتسبّب الأساسي بالأحداث التي جرت في كازاخستان، فإنّ الواقع الداخلي في الأخيرة - على المستويات السياسية والاقتصادية والقبلية - يعدّ مؤشراً أساسياً على أنَّ اليد الأميركية شبه غائبة في هذا الصدد، وأنَّ دورها، في حال كان موجوداً، يقتصر على استغلال الظروف القائمة من أجل تسجيل نقاط استراتيجية على موسكو، وخصوصاً أن المساعي الأميركية لوضع قدم لها في هذا النطاق الجغرافي تكثفت بشكل ملحوظ خلال الأعوام الأخيرة.

جذور الأزمة بين الصّراعات الداخلية والخارجية

بداية الأزمة التي شهدتها كازاخستان هذا الشهر تعود بشكل أو بآخر إلى الإرهاصات الاقتصادية السلبية التي أنتجت مساراً احتجاجياً شعبياً متصاعداً بدأ في العام 2011، حين أضرب العاملون في القطاع النفطي احتجاجاً على تدنّي أجورهم، مروراً باحتجاجات شعبية في العامين 2014 و2016، وصولاً إلى ذروة الاحتجاجات في أيار/مايو 2019، والتي تسبّبت بإجبار مؤسس الجمهورية الكازاخستانية نور سلطان نزارباييف على الاستقالة من منصبه. وقبل ذلك، تم إجبار ابنته داريجا على الاستقالة من منصبها كنائبة لرئيس الوزراء في العام 2016. 

لم يكن هذا المسار ناجحاً بنسبة 100%، إذ ظلَّ نزار باييف عملياً بعد استقالته مسيطراً على مفاصل الحكم، وتولى رئاسة مجلس الأمن القومي، في حين تولى رئيس مجلس الشيوخ قاسم توكاييف رئاسة الدولة بشكل مؤقت، ثم أصبح بشكل دائم في هذا المنصب بعد إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

منذ ذلك التوقيت، بدأ صراع مكتوم بين توكاييف ونزار باييف، وخلفهما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وعلى الرغم من انتماء الرجلين إلى قبائل "الجوز الأوسط"، فإنَّ توجهاتهما الخارجية كانت مختلفة كلياً، فنزار باييف الذي ظل في منصبه كرئيس لكازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عمل في بداية فترة حكمه على اتباع استراتيجية مزدوجة في سياسته الخارجية، إذ أقام علاقات جيدة مع موسكو، وانضمَّ إلى رابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، ثم طوّر علاقات بلاده مع روسيا، لتصبح على شكل اتحاد اقتصادي أوراسي تم إعلانه في العام 2015.

في الوقت نفسه، بدأ نزار باييف منذ العام 2008 بتوطيد علاقاته مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وتركيا، مدفوعاً بعدة عوامل، من بينها خشيته من محاولات الهيمنة الروسية، بعد أن بدا أن موسكو استعادت نفوذها الإقليمي والدولي، وخصوصاً بعد حرب أوسيتيا الجنوبية وضمّ شبه جزيرة القرم. 

وقد تصاعد مستوى هذه العلاقات في الجانب الاقتصادي مع الولايات المتحدة، إذ بلغ حجم الاستثمارات الأميركية في كازاخستان نحو 34 مليار دولار، ناهيك بدخول كلا الدولتين في حوار استراتيجي يجري سنوياً منذ العام 2018، وتزايد معدلات التعاون العسكري بينهما، بشكل أصبحت فيه الولايات المتحدة شريكاً أساسياً للجيش الكازاخستاني.

في الجانب الآخر، كان توكاييف ميالاً بشكل واضح إلى استمرار العلاقة مع موسكو، وهو ما كرَّس الازدواج الداخلي في توجّهات البلاد الاستراتيجية، والمترافق مع صراع مكتوم بين توكاييف ونزار باييف، انعكس بشكل واضح على الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد التي تبرز فيها أقلية ثرية، في حين تعاني كل القطاعات الشعبية من ظروف معيشية صعبة، تتناقض مع حقيقة أنَّ هذا البلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي من اليورانيوم، ويحتلّ المركز الحادي عشر ضمن الدول التي تمتلك أكبر احتياطيات الغاز والنفط.

تُضاف إلى ذلك هشاشة الوضع السياسي الداخلي، وملاحقة الأجهزة الأمنية لأيِّ صوت معارض، وهو ما ظهر واضحاً من نتائج الانتخابات التشريعية التي عُقدت منذ عامين، والتي تسيّدها الحزب الحاكم في البلاد "نور أوتان"، وكذلك التهميش الذي تعانيه المناطق الغربية والجنوبية للبلاد، والتي تنتشر فيها العشائر التابعة لقبائل "الجوز الأكبر" و"الجوز الأصغر".

شرارة اندلاع الأحداث في "ألماتي"

في ظل هذا المناخ، اشتعلت الأوضاع هذا الشهر بعد رفع السلطات الدعم عن المشتقات النفطية، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة، اشتعلت في البداية في مدينة جاناوزن الواقعة في مقاطعة "مانكيستاو" جنوب غرب البلاد - وللمفارقة، هي المدينة نفسها التي شهدت إضراب عمال النفط في العام 2011 - ومن ثم امتدّت الاحتجاجات جنوباً وغرباً، لتصل إلى العاصمة السابقة للبلاد "ألماتي"، التي سيطر المتظاهرون لبضعة أيام على معظم المراكز الحيوية فيها، بما في ذلك المطار والمراكز الأمنية. 

هنا، لا بد من التطرّق إلى خطط الجناحين السياسيين الرئيسيين في البلاد - جناح نزار باييف وجناح توكاييف - للتعامل مع هذا الموقف. الفريق الأوّل حاول استغلال هذه الأزمة لإطاحة الرئيس توكاييف، وإعادة الإمساك بشكل كامل بمفاصل السلطة، اعتماداً على انهيار الأجهزة الأمنية "السريع"، والَّذي اتهمت جبهة توكاييف المشرف على لجنة الأمن القومي، كريم ماسيموڤ، الذي شغل سابقاً منصب رئيس وزراء البلاد، ويعتبر من رجال نزار باييف، بالضلوع في هندسته، وهو ما يفسر اعتقاله في 8 كانون الثاني/يناير الجاري، وتوجيه تهمة "الخيانة والتقصير" إليه.

جبهة توكاييف أرادت بدورها التماسك والتخلّص بشكل كامل من تأثير الموالين لنزار باييف على الحكم، فحاولت معالجة الاحتجاجات في بداية الأمر عبر قرارات اقتصادية تم فيها تعديل أسعار الغاز والوقود، وتم بموجبها إحداث تغييرات في بعض المناصب الحكومية، لكن تصاعدت أعمال العنف بشكل أكبر، ما أجبر الرئيس الكازاخستاني على إعلان حالة الطوارئ وإقالة الحكومة وإرسال الجيش لمواجهة المحتجين، وهو قرار كانت له دوافعه، ومنها ملاحظة التأثير الكبير لبعض أقطاب المعارضة الكازاخستانية في الخارج في مسار الأحداث، وعلى رأسهم الوزير السابق مختار أبليازوڤ.

لم يكتفِ توكاييف بذلك، بل قام بسلسلة من الإقالات، شملت إقالة نزار باييف نفسه من عضوية مجلس الأمن القومي، والضغط على أصهرته الثلاثة للاستقالة من مناصبهم الرفيعة، ومن ثم تقدم بطلب عاجل إلى منظمة الأمن الجماعي التي تضمّ روسيا ودول آسيا الوسطى، وطالبهم بالتدخل العسكري لحماية الجبهة الداخلية للبلاد، وهي خطوة أراد بها قطع الطريق على أيِّ محاولة من جانب الولايات المتحدة لاستغلال الوضع القائم جنوب البلاد وغربها. 

تجاوبت موسكو بشكل سريع مع طلب توكاييف، وخصوصاً إذا ما قارنا بين هذه الاستجابة ومواقف روسيا في مناسبات مماثلة، مثل طلب قيرغيزستان المساعدة الروسية خلال أحداث نيسان/أبريل 2010، أو طلب أرمينيا المساعدة خلال حرب إقليم ناغورنو كاراباخ منذ عامين. بالفعل، قامت روسيا، بمساندة من روسيا البيضاء وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان، بنشر نحو 3 آلاف جندي في مدينة ألماتي، قاموا بشكل سريع بإعادة الأمور إلى نصابها.

لماذا تدخَّلت روسيا؟

بدا من رد الفعل السريع من جانب موسكو أنَّ هذه الأزمة جاءت في موعدها كي يستخدمها المفاوض الروسي كأداة ضغط إضافية على الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو، من أجل فرض وجهة النظر الروسية في الملف الأوكراني خلال المباحثات الدبلوماسية التي بدأت الأسبوع الماضي، وشملت لقاء بين دبلوماسيين أميركيين وروس في جنيف، ثم اجتماعاً بين ممثلي حلف الناتو وروسيا في بروكسل، واجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 13 من الشهر الجاري في فيينا. وجهة النظر تلك تم إيجازها في مشروعي معاهدتين قدّمتهما موسكو لإدارة بايدن وحلف الناتو في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

البند الأساسي في هذه الضمانات كان تعهّد الحلف بعدم التوسع في شرق أوروبا، ورفض انضمام دول الاتحاد السوفياتي السابق إليه، وخصوصاً أوكرانيا، وسحب الحلف قواته من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق.

تُضاف إلى ذلك عدة بنود أخرى متبادلة تبدو مرتبطة أكثر بالجانب الاستراتيجي من العلاقة بين شرق أوروبا وغربها، منها تعهّد كلّ من موسكو وواشنطن بإزالة البنية التحتية لنشر الأسلحة النووية خارج أراضيهما، وعدم إجراء مناورات عسكرية تتم فيها محاكاة استخدام أسلحة نووية، والتزام روسيا وحلف الناتو بعدم نشر صواريخ في مناطق تسمح لكلِّ طرف بإصابة أراضي الآخر، والتزام الحلف بتفادي التحرّش بالوحدات العسكرية الروسية في البحر الأسود وبحر البلطيق، وإنشاء مجلس مشترك بين الحلف وروسيا، من أجل حلّ المعضلات الطارئة ذات الاهتمام المشترك.

التدخل الروسي السريع كانت له أسباب أخرى تتعلَّق بأهمية كازاخستان بالنسبة إلى الاستراتيجية الروسية الإقليمية، فهي تعتبر بمثابة "منطقة عازلة" بين روسيا وآسيا الوسطى، وتمثل قيمة اقتصادية كبرى لموسكو، بما تمتلكه من موارد طبيعية، وعلى رأسها اليورانيوم، ناهيك بوقوع القاعدة الروسية الفضائية الأساسية في أراضيها، وهي قاعدة "بايكونور".

وعلى الرغم من أنَّ موسكو نجحت بشكل فعال بتنفيذ أهدافها في كازاخستان، فإنّ وجودها العسكري في هذا البلد ينطوي على مخاطر معتبرة، بالنظر إلى التركيبة السكانية في كازاخستان، إذ تبلغ نسبة السكّان الكازاخستانيين حوالى 70% من إجمالي عدد السكان، فيما توجد أقلية روسية تمثل حوالى 20% من عدد السكان فيها، وهو ما يجعل الوجود الروسي الميداني محفوفاً بالمخاطر، نظراً إلى تصاعد المشاعر القومية في كازاخستان، بشكل يقترب من تصاعدها في أوكرانيا.

خلاصة القول أنَّ موسكو ربما تمكَّنت من فعل ما تريده مرة أخرى، بعد عمليّة استعادة شبه جزيرة القرم، واستطاعت تأمين نظام توكاييف من مخاطر حقيقية كانت تهدد بقاءه، وتنذر بوقوع دولة أخرى من دول شرق أوروبا تحت السيطرة الأميركية، لكن رغم هذه النتيجة، إنَّ توسع الانخراط الروسي الميداني في دول الاتحاد السوفياتي السابق ربما يعمل بمثابة عامل مشتّت للجهود الروسية التي ترى في الملفّ الأوكراني الملفّ الإقليمي الأول في أجندة فلاديمير بوتين، وخصوصاً في حال استمرّ الحضور الروسي في كازاخستان، وبدأت الأيادي الغربية بتحفيز بعض المكوّنات الكازاخستانية على استهدافه.