مؤتمر بروكسل الأخير: السوريون يزدادون فقراً ومعاناة
وفقاً لما شهده مؤتمر بروكسل الأخير، فإن الأوروبيين لا يزالون على موقفهم الرافض لإطلاق خطة "إنعاش" سورية حقيقية حتى وإن مات السوريون جميعاً، فهذه الخطة بنظرهم بمنزلة دعم واعتراف بـ"النظام".
على الرغم من أن إجمالي قيمة التعهدات قد زاد بنحو 1.9 مليار يورو مقارنة بالعام الماضي، فإن مؤتمر بروكسل الخاص بدعم سوريا، والذي عقد نسخته الثامنة مؤخراً، لم يخرج عن التوقعات لجهة تراجع قيمة تعهدات الاتحاد الأوروبي بفعل أسباب عديدة تتصدّرها تداعيات الحرب الأوكرانية والأوضاع الاقتصادية العالمية.
إذ تظهر مقارنة بسيطة لتعهدات العام الماضي مع ما أعلن عنه مؤخراً تراجعاً يقدّر بنحو 1.4 مليار يورو، وهو رقم يشكّل ما نسبته 58.3% من إجمالي ما تعهد بتقديمه الاتحاد للعام 2024-2025.
والتركيز على تعهدات الاتحاد الأوروبي ينطلق من اعتباره المموّل الأكبر للعمليات الإنسانية في سوريا، وتالياً فإن أي تغيير يمكن أن يطرأ على المسألة الإنسانية في سوريا سوف يلاحظ من خلال الموقف الأوروبي.
وكما بات معروفاً، فإن نسبة التزام الدول المانحة بتقديم ما تعهدت به لن تتجاوز في أكثر التوقعات تفاؤلاً 50%، هذا في وقت تتفاقم معاناة السوريين نتيجة استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وما يتعرض له اللاجئون في بعض الدول من إجراءات تضييق وممارسات عنصرية، الأمر الذي يؤكد صحة ما يذهب إليه البعض من أن الأزمة السورية تراجعت إلى الوراء في سلم أولويات دول العالم من ناحية، ومن وجود تفاهم غربي غير معلن على إبقاء الوضع السوري على ما هو عليه، رغم مأساويته من ناحية ثانية.
صدمة الأرقام
يكشف أحدث تقرير أممي صدر مؤخراً أن عدد السوريين المحتاجين إلى المساعدة وصل هذا العام إلى عتبة 16.7 مليون شخص، أي ما نسبته نحو 71.1% من إجمالي عدد سكان البلاد الموزّعين على محافظات البلاد ومناطقها كافة، والمقدّر عددهم بحسب التقرير نفسه بنحو 23.4 مليون نسمة. وإذا ما عدنا إلى السنوات السابقة، فسنجد أن معاناة السوريين تزداد وتتعمق أكثر فأكثر، فمثلاً بين عامي 2023 و2024 زاد عدد السوريين المحتاجين إلى الدعم والمساعدة بنسبة 9%، وهذا يعني أنه إضافة إلى دخول أشخاص جدد دائرة الحاجة إلى الدعم والمساعدة، فإن معاناة شريحة واسعة من الأفراد المصنفين سابقاً ضمن دائرة الحاجة إلى الدعم تتعمق أكثر، متأثرة في ذلك بعاملين أساسيين:
الأول، يتمثل في استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في عموم البلاد نتيجة عوامل عديدة منها: العقوبات الغربية، احتلال القوات الأميركية حقول النفط والقمح الرئيسية في البلاد، الوجود التركي غير المشروع والذي يمنع استثمار البلاد لموقعها الجغرافي المتميز على خريطة تجارة الشرق، الأزمات الاقتصادية الإقليمية، تركة الحرب المرهقة من الخسائر والدمار، وبعض السياسات المطبّقة خلال فترة الحرب وما قبلها.
أما العامل الثاني فيتعلق بتراجع حجم المساعدات الإغاثية المقدمة من المنظمات الأممية، وتوقف بعضها لفترات زمنية طويلة. والمثال على ذلك، برنامج الغذاء العالمي الذي أعلن في العام الماضي عن تخفيض مساعداته لتستهدف مساعدة نحو2.5 مليون شخص بعدما كانت تغطي نحو 5.5 مليون شخص.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فالبيانات المتعلقة بالتركيبة العمرية للسوريين المحتاجين إلى الدعم والمساعدة تظهر أن مستقبل البلاد بات فعلياً على المحك مع وصول نسبة الأطفال المحتاجين إلى الدعم، والذين تقل أعمارهم عن 17 عاماً، إلى ما يقرب 45% من إجمالي عدد المحتاجين، في حين أن النسبة الأكبر، والمقدرة بنحو 50%، تضم المحتاجين ممن تتراوح أعمارهم بين 18-59 عاماً. أما النسبة المتبقية، والبالغة نحو 5%، فهي تضم كبار السن والذين تزيد أعمارهم عن 59 عاماً.
ومن بين نحو 13 قطاعاً جرت دراستها لتحديد أوجه الحاجة والدعم، فإننا سوف نختار ثلاثة قطاعات رئيسية في محاولة لاستيضاح ماهية الاحتياج، الذي عادة يرتبط بأذهان البعض فقط بالحصول على الغذاء، فيما هو يتعدى ذلك ليشمل مجمل الاحتياجات الإنسانية.
في القطاع الأول، وهو الأمن الغذائي والزراعة، تذهب التقديرات الأممية المستخلصة من دراسة أوضاع عيّنة قدرها 42 ألف أسرة سورية إلى أن هناك نحو 15.4 مليون سوري يحتاجون إلى الغذاء، دعم سبل العيش، المساعدة الزراعية، والمساعدة من إحدى شبكات الأمان الوطنية. والتوقعات تؤكد أن حالة انعدام الأمن الغذائي، التي يئن من تداعياتها نحو12.9 مليون سوري، آخذة بالاستمرار والتوسع هذا العام أيضاً.
أما الصحة، وهي القطاع الثاني الذي جرى اختياره، فإن التقديرات الأممية تتحدث عن أن عدد السوريين الذين هم بحاجة إلى الرعاية الصحية يبلغ نحو 14.9 مليون شخص، منهم نحو5.1 ملايين نازح، و2.3 مليون طفل دون الخامسة من العمر، و4.1 مليون امرأة في سن الإنجاب. وتعترف الوكالات والمنظمات الأممية بالأثر السلبي البالغ للعقوبات في توفير قطع الغيار للأجهزة الصحية وصيانتها وتوفير الخبرة اللازمة لإصلاحها وارتفاع تكاليف استيرادها، الأمر الذي ظهرت نتائجه خلال كارثة زلزال شباط 2023، حيث فقد الكثيرون أرواحهم من جراء ضعف الرعاية الصحية وتأخر ما سمّي بـ "الصدمات المنقذة للحياة".
ولا يخرج قطاع التعليم عن السياق، فالتدهور الذي شهده هذا القطاع خلال سنوات الحرب لا يقلّ خطورة عما وصلت إليه المؤشرات القطاعية الأخرى.
فاليوم، هناك ما يزيد على7 ملايين طفل سوري دون 17 عاماً بحاجة إلى الدعم والمساعدة للحصول على التعليم. وكما هو معلوم، فإن إحدى المخاطر المهددة لمستقبل التعليم في سوريا ما يتعلق بظاهرة التسرب، والتي استقطبت ما يزيد على 2.4 مليون طفل، إضافة إلى وجود مليون طفل معرضين لخطر التسرب من التعليم.
وتشكل الضائقة الاقتصادية التي تمر بها معظم الأسر السورية سبباً رئيسياً في توسع ظاهرة التسرب وتهديد مستقبل أجيال عديدة، فضلاً عن الدمار الذي لحق بالمدارس وتسرب المعلمين والمدرسين.
المساعدات والعقوبات
وعلينا، في ضوء ما سبق، أن نتخيل ما سيؤول إليه الوضع السوري فيما لو توقفت المساعدات الدولية على محدوديتها هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن تعمّق معاناة السوريين يطرح تساؤلات عن جدوى الاستمرار بهذا الشكل والحجم من المساعدات ما دامت غير قادرة على وقف نزيف الجرح السوري، إذ لا بد من إعادة النظر في الموقف الغربي من مشاريع التعافي المبكر لجهة المبالغ المرصودة، حدود العمل وساحته، والأولويات التي يمكن العمل عليها بعيداً من خطوط الإدارة الأميركية الحمر.
لكن، وفقاً لما شهده مؤتمر بروكسل الأخير، فإن الأوروبيين لا يزالون على موقفهم الرافض لإطلاق خطة "إنعاش" سورية حقيقية حتى وإن مات السوريون جميعاً، فهذه الخطة بنظرهم بمنزلة دعم واعتراف بـ"النظام".
وعادة ما تبرر الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عقوباتها على دمشق بالقول إنها تستهدف الحكومة السورية بغية إجبارها على "الدخول في مسار الحل السياسي للأزمة"، لكن عملياً، فإن جميع أشكال هذه العقوبات ومستوياتها التي فرضت منذ الأسابيع الأولى للحرب أثرت بشكل مباشر في حياة السوريين، وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية بما في ذلك الغذاء والدواء اللذان يقال غربياً إنهما خارج نطاق العقوبات، وتالياً فإن الخطوة الأولى لمساعدة السوريين فعلاً على مواجهة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تبدأ من إزالة مختلف أشكال هذه العقوبات، والانخراط فعلياً في مشاريع التعافي المبكر ودعم سبل العيش وإلا فإن موجات الهجرة لن تتوقف، لأن الهجرة النافذة الوحيدة للأمل المتاحة اليوم أمام السوريين.
وللتذكير، فإن الفترة الممتدة ما بين 2017 و2019، والتي شهدت انحساراً تدريجياً في مساحة المعارك العسكرية، واستقراراً مقبولاً في الوضع الاقتصادي كانت الأقل من حيث أعداد المهاجرين.