لعبة الأرقام الرأسمالية وتحويل الأزمة إلى فرصة
المواجهة التي تدور اليوم في أكثر من مكان في العالم بين الرأسمالية والشعوب المقهورة لا يمكن لها الانتصار بشكل حاسم إلا بالخروج من فخ الأرقام الرأسمالية وتطوير نظام تجاري عالمي جديد يقوم على العدالة.
منذ مطلع القرن الماضي، طوّرت الرأسمالية لعبة أرقام تقود من خلالها المجتمعات العالمية وتدفعها باتجاه تحقيق مصالح المركز الرأسمالي، سواء بشكل مباشر من خلال فرض المزيد من الهيمنة والنهب على مقدرات الشعوب بواسطة أذرعها المالية أو العسكرية أو بطريقة غير مباشرة من خلال تعميم نمط المنافسة الرأسمالي وتحويله إلى ثقافة استهلاكية عالمية.
تتدخل لعبة الأرقام في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية. هناك قائمة لأسعد شعوب العالم، وأفقر شعوب العالم وأكثرها غنى، وقوائم لإجمالي الناتج المحلي للدول ونصيب الفرد من الدخل القومي، وتصنيف موديز الائتماني وتوقعاته لاقتصاد الدول، وآلاف الأرقام الأخرى التي تدخل الباحث في دوامة لا قرار لها.
داخل هذه اللعبة، يمكن أن يُرفع تصنيف الأردن في تصنيف موديز الائتماني رغم ما يعانيه الاقتصاد الأردني من صعوبات تتبدى بارتفاع غير مسبوق في نسب البطالة والفقر وتراجع نسب النمو الاقتصادي، وتظهر مصر على أنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تحقق نسب نمو مقبولة في إجمالي الناتج المحلي، رغم معاناة الاقتصاد المصري وانهيار سعر صرف الدولار وارتفاع نسبة التضخم لتصل إلى 36%.
في الحالتين، تستخدم الأرقام كمكافأة سياسية – اقتصادية على المواقف السياسية "المعتدلة" للدولتين وقبولهما غير المشروط بإملاءات الأجسام المالية الدولية. في مكان آخر، يشير تقرير للبنك الدولي إلى أن الدول الفقيرة تدفع فائدة على ديونها أعلى 12 ضعفاً من تلك التي تدفعها الدول الغنية. ألمانيا، مثلاً، تدفع 0.8% فائدة على ديونها في مقابل 12% تدفعها الدول الأفريقية، والسبب هو انخفاض التصنيف الائتماني للدول الأفريقية. وهنا يستعمل التصنيف الائتماني كسلاح غربي لنهب خيرات هذه الدول.
في قائمة الدول الأكثر فقراً تتنافس، صعوداً وهبوطاً، 10 دول في لعبة تشبه لعبة الكراسي الموسيقية من دون أن يحصل أي منها على فرصة مغادرة ذيل القائمة. تتكرر اللعبة نفسها في الطرف الآخر من القائمة، إذ تتنافس عشر دول أخرى على قمة القائمة. أما بقية العالم، فيلهث للهرب من القاع أو للذهاب إلى الصدارة، فتبيع الدول مقدراتها وثرواتها الطبيعية، وحتى أراضيها، وتشرد أبناءها في أصقاع الأرض للحصول على التحويلات، والهدف رفع وهمي لإجمالي ناتجها القومي، من دون أن يعني ذلك انخفاضاً في نسب الفقر أو البطالة أو تحسيناً في الخدمات العامة المقدمة للمواطنين.
يتصدر البنك والصندوق الدوليان لعبة الأرقام التي تستخدم للحكم على الدول والشعوب، وتفتح الطريق أمام دول وشركات المركز الرأسمالي للسيطرة على الدول المستهدفة. وسط سيل الأرقام، يغيب الهدف الحقيقي من هذا التقرير أو ذاك.
يتطرق تقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي بعنوان "أزمة الشحن عبر البحر الأحمر وتداعياتها العالمية" إلى أهمية الشحن عبر البحر الأحمر الذي يعتبر ممراً لنحو 30% من تجارة الحاويات العالمية، ويوضح أنَّ الشحن عبر هذا الطريق انخفض بنسبة 50%، في حين ارتفع عن طريق رأس الرجاء الصالح بنسبة 100%.
وتظهر الجداول انخفاض الصادرات والواردات في عدّة موانئ على البحر الأحمر، فميناء العقبة، مثلاً، انخفضت الصادرات عبره 180 ألف طن متري والواردات 240 ألف طن متري. أما ميناء جدّة، فانخفضت الصادرات عبره بمقدار 120 ألف طن متري، والواردات 220 ألف طن متري. تنتهي من قراءة التقرير معتقداً أنك أصبحت ملماً بكل الأمور المتعلقة بالأزمة، لكنك إذا تأملت التقرير ستلاحظ غياب أي إشارة إلى ميناء إيلات، وأن الأمور تبدو كأن اليمن يفرض حصاراً بحرياً على الأردن والسعودية ومصر.
يستنتج التقرير أن "أزمة الشحن في البحر الأحمر بمنزلة تذكير صارخ بترابط التجارة العالمية وأهمية الحفاظ على أمان الطرق البحرية وفتحها أمام أنشطة الملاحة".
أما الحل، بحسب التقرير، فيكمن في فتح الأسواق في الدول المحيطة بالتكتلات الاقتصادية أمام عدد أكبر من الدول والشركات الرأسمالية للتغلب على أزمة الشحن، ويخص منطقة شمال أفريقيا بهذا الاقتراح لكونها الأقرب إلى الاتحاد الأوروبي.
أهم ما يوضحه هذا التقرير هو آلية عمل الرأسمالية في تحويل الأزمات إلى فرص لتوسيع هيمنتها على الأسواق ونهب ثروات الشعوب. وفي هذا السياق، تتحول الحروب وأرقام ضحايا مجازر العدوان الغربي – الصهيوني إلى فرصة لفرض المصالح الرأسمالية على المنطقة.
طرح الرئيس الأميركي جو بايدن مبادرة لوقف الحرب في المنطقة. في الوقت نفسه، يوسع "الجيش" الصهيوني عدوانه على غزّة ويرتكب المزيد من المجازر بحق المدنيين.
ترتفع أرقام الضحايا، فيوظفها العالم الرأسمالي في سياق مبادراته، ليظهر بمظهر الحريص على حياة المدنيين، وليستعملها أداة لوضع المزيد من الضغط على المقاومة في غزّة.
يدرك العدو الرأسمالي أن أي وقف لإطلاق النار، سواء كان مؤقتاً أو دائماً، يعتبر انتصاراً للمقاومة، فيربط مبادرته بخطة أخرى تتعلق بشمال فلسطين؛ التهديد بحرب واسعة أو إبعاد مقاتلي حزب الله 10 كيلومترات عن الحدود الفلسطينية. وصلت صواريخ المقاومة ومسيراتها إلى عمق 35 كيلومتراً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فما الفرق الذي ستصنعه الكيلومترات العشرة؟ ببساطة، سترسم صورة نصر لم يتحقق.
في اليمن، تتحدث وكالات الأمم المتحدة عن 11 ألف طفل استشهدوا من جراء العدوان الغربي – السعودي، وهو رقم لا يبتعد كثيراً عن أرقام الأطفال الشهداء في غزة. الفرق أنّ الأزمة في اليمن تصب في مصلحة الغرب الرأسمالي. لذلك، لم يطرح أي مبادرات حقيقية لوقفها. أما الأزمة في غزّة، فتحولت إلى سلسلة من الأزمات العسكرية والاقتصادية والسياسية. لذلك، لا بد من وقفها، لكن بشروط تتيح للتحالف الاستعماري الاحتفاظ بمواقعه ومصالحه ومصالح حلفائه في المنطقة.
حتى اليوم، ما زالت الدول والشعوب تحاول الهرب من دائرة الأرقام المغلقة، لكن المهمة صعبة، فالأدوات المالية المتوفرة، مثل برنامج الدفع العالمي "سويفت"، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة أوبك، كلها أدوات رأسمالية، وإعادة إنتاجها بأسماء جديدة لا يمكن أن ينتج إلا رأسمالية بمسميات جديدة.
إن المواجهة التي تدور اليوم في أكثر من مكان في العالم بين الرأسمالية والشعوب المقهورة لا يمكن لها الانتصار بشكل حاسم إلا بالخروج من فخ الأرقام الرأسمالية وتطوير نظام تجاري عالمي جديد يقوم على العدالة ويضمن حقوق جميع الشعوب المنضوية تحت لوائه.