لبنان من دون حوار يفقد رسالته ووجوده

لبنان يمر اليوم بلحظة تاريخية مفصلية، والأزمة وطنية عميقة تتخطى عنوان انتخاب رئيس للجمهورية.

  • الحوار في لبنان.
    الحوار في لبنان.

يتغنّى الكثير من اللبنانيين بما يعتبرونه ميزات وخصائص يتمتع بها لبنان. البلد الذي وصفه المؤرخ كمال صليبي بـ"البيت بمنازل كثيرة" للدلالة على انقساماته الطائفية التي تمنع قيام دولة قوية، يرى فيه كثيرون بلداً بمميزات كثيرة. 

وقد ذهب البعض في تعداد الخصائص إلى حدود التطرف والمغالاة من خلال الحديث عن "الفكرة اللبنانية" المختلفة عن الدول المجاورة، وصولاً إلى طرح فصل لبنان عن محيطه، إلا أن وصف لبنان ببلد "التلاقي" و"صلة الوصل" و"التعدد" و"التنوع" كان محل إجماع بين اللبنانيين على اختلاف مشاربهم وتوجههاتهم. ولعل ما صدر عن البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته الشهيرة للبنان عام 1998 شكَّل تتويجاً لهذه المعاني والمفاهيم والمميزات.

قال البابا آنذاك: "لبنان هو أكثر من بلد. هو رسالة"، ويمكن لأي متابع لخطاباته في لبنان، إضافة إلى الإرشاد الرسولي الذي وقعه أثناء الزيارة، أن يستنتج أن الحوار بين اللبنانيين يعدّ من العناصر والعوامل الجوهرية لتحقيق هذا الشعار الرؤيوي الذي حمله.

أكد البابا أن "مستقبل لبنان قائم على التسامح والحوار"، ورأى أن الحوار من "القيم الرائدة في حياة الأفراد وفي سياسة الدولة".

أما الإرشاد الرسولي، فقد شدد على أن على المسلمين والمسيحيين في لبنان أن "يجدوا في الحوار السبيل الضروري الذي لا غنى عنه للتعايش الودي وبناء المجتمع"، وذهب البابا إلى اعتبار أن الحوار بين المسلمين والمسيحيين في لبنان قادر على أن يقود إلى حوارات مشابهة في البلدان الأخرى، ودعا إلى أن لا يقتصر الحوار على المثقفين، بل أن يتحول إلى" حوار مستمر وفعل يومي من العيش".

وتوجه إلى مسيحيي لبنان تحديداً قائلاً: "ابنوا جسورا جديدة من التواصل بين صفوف الشعب، ومع العائلات والجماعات. بادروا بخطوات تعيد اللحمة مع الآخرين، وتحوّل الريبة إلى ثقة".

كلام البابا تؤكده الوقائع التاريخية؛ فمن شبه الثابت والمتفق عليه أن البلد الذي يعيش توازناً قلقاً لا تقوم له قائمة إلا عبر الحوار بين مكوناته وطوائفه وقواه السياسية. تاريخ البلد يؤكد أن توقف الحوار يعني الحرب والاقتتال والدماء والدمار من جهة، وأن لا إمكانية لإنهاء الحروب والانقسامات إلا من خلال الحوار من جهة ثانية. 

لقد شكل الحوار حلقة اتصال لمعالجة الأزمات أو على الأقل التخفيف من وطأتها وآثارها. حتى في أصعب وأحلك أيام الاقتتال والحرب لم تسقط قنوات التواصل والحوار بين المتقاتلين. وقد عرف لبنان في ذروة الحرب الأهلية القمم الدينية والمؤتمرات الدولية والجولات المكوكية والرسائل المتبادلة. 

صحيح أنَّ حالات إحباط عديدة كانت تصيب اللبنانيين من حوارات مزيفة وغير صادقة وعقيمة في أكثر من مرحلة، وقد عبرت صحيفة "النهار" عن هذا الخلل عبر عدد خاص أصدرته عام 1998 أشار في عنوانه إلى المشكلة: "عثرات الحوار المسيحي الإسلامي"، إلا أنَّ "المعضلة كانت أن حروب لبنان وحلقات العنف أثبتت أن لا بديل من الحوار"، كما يقول كمال ديب في كتابه "هذا الجسر العتيق"، والدليل أن الحرب الأهلية اللبنانية لم تنتهِ إلا بعد سلسلة حوارات تُوجت باتفاق الطائف الذي أنهى الحرب عام 1989. 

قبل الطائف، حصلت الحوارات حول وثيقة سليمان فرنجية عام 1976 ومشروع إلياس سركيس أثناء توليه الرئاسة، ومؤتمري جنيف ولوزان في عامي 1983 و1984، والاتفاق الثلاثي في العام 1985. وبعد اتفاق الطائف، كانت أبرز الحوارات ما عرف باتفاق الدوحة عام 2008. 

اللافت اليوم هو التنكر لكل هذه الوقائع ودلالاتها. يرتفع صوت بعض القوى السياسية رفضاً لمبدأ الحوار على الرغم من حساسية المرحلة التي تمر بها البلاد وخطورتها.

لبنان يمر اليوم بلحظة تاريخية مفصلية، والأزمة وطنية عميقة تتخطى عنوان انتخاب رئيس للجمهورية. إنها أزمة مركبة ومعقدة تتعلق بمستقبل البلد وخياراته واتجاهاته وموقعه وسياساته وحلفائه وأصدقائه وخصومه، ما يضع لبنان أمام مخاطر تتجلى من خلال أسئلة كبرى تطرح في ظل تحولات عالمية وإقليمية مفصلية، ما يتطلب إجابات وطنية كبرى. 

لكن في الوقت نفسه تلوح في الأفق فرصة يمكن للبنانيين، إذا أحسنوا التقاطها، أن يوفروا على أنفسهم الكثير من المصاعب والخسائر. تتمثل الفرصة بانشغال العالم بأزماته وصراعاته الكبرى، ما يسمح بقدر من التدخلات الخارجية مع ميول إلى التهدئة على مستوى الملفات الصغرى لمصلحة الأزمات الكبرى.

كل هذه الظروف تجعل الحوار الوطني أكثر من ضرورة. أما انتخاب رئيس للجمهورية، فيمكن أن يشكل مدخلاً لحل مقبول ومتوازن، ولو بالحد الأدنى. طبعاً، الحوار لا يعني بالضرورة التوافق على كل شيء أو إيجاد حلول لكل المشكلات، إلا أنه يساهم في إدارة الأزمة بما يمنع سقوط البلد.

وبالتالي، فإن رفض الحوار اليوم يحمل الكثير من الدلالات أبرزها: 

أولاً: مخالفة رسالة لبنان وهويته وسبب وجوده.

ثانياً: يظهر رافضو الحوار نوعاً من النرجسية السياسية المدمرة والمنطلقة من إعطاء الطموحات الشخصية والفئوية أولوية على حساب المصلحة العامة الوطنية.

ثالثا: يؤدي رفض الحوار إلى تضييع الفرص وهدر الوقت الذي يدفع المواطنون ثمنه غالياً من مصالحهم وحقوقهم.

رابعاً: يذهب رافضو الحوار نحو الانتحار السياسي، وهو للأسف ما تام تجريبه سابقاً، ولم يؤدِ إلا إلى دفع الأثمان الذي لا يستثني أحداً، بدءاً من الرافضين أنفسهم، مروراً بمن يمثلون شعبياً، وصولاً إلى البلد بأكمله.

خامساً: يساهم رافضو الحوار في تعميق الأزمة إلى حدود تحولها إلى أزمة وجودية. ليس في الاستنتاج مبالغة. سبق لبابا يوحنا بولس الثاني أن ربط وجود لبنان باستمرار الحوار عندما قال: "الاحترام المتبادل والحوار هما أساس البناء والبقاء للبنان".