كيف أعمت المقاومة في غزة عيون الاستخبارات الإسرائيلية؟
بالرغم من تفوّق "جيش" الاحتلال في المجال الاستخباري، فإن المقاومة قد نجحت في إفشال معظم خطط الاحتلال، والحد بشكل واضح من إنجازاته التي كان يسعى إليها، والتي لو نجحت لغيّرت نتيجة المعركة لصالحه من دون أدنى شك.
كما هي عادتها على الدوام، اعتمدت "إسرائيل " على أجهزة استخباراتها القوية في حربها على قطاع غزة، محاولةً جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الحسّاسة، بما يمكّنها من تحقيق إنجازات ميدانية وعملياتية هي في أمسّ الحاجة إليها، لتمحو ما علق بصورتها من خزي وعار في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، إذ أُصيبت في ذلك الصباح المشهود بهزيمة مدوّية لم يسبق لها مثيل، أسقطت ما تبقّى لديها من هيبة، وكسرت جملة واسعة من خطوطها الحمر التي كانت تشهرها في وجه أعدائها.
في الحرب على غزة التي دخلت شهرها الخامس، كان لدى "جيش" الاحتلال جملة من الأهداف منها ما هو معلن، ومنها ما هو مسكوت عنه لغاية في نفس قادتها السياسيين والعسكريين. كان على رأس تلك الأهداف القضاء على المقاومة، وتدمير إمكانياتها العسكرية والبشرية، إلى جانب، وهو الأهم، استعادة أكثر من 250 أسيراً وأسيرة، نصفهم أو يزيد من الضباط والجنود الصهاينة.
وبالتالي، كان أمام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وتحديداً الشاباك والموساد وأمان، مهمة صعبة ومعقّدة، تتلخّص في الوصول إلى أماكن احتجاز الأسرى، إضافة إلى وضع الخطط بالتعاون مع الوحدات الخاصة النخبوية مثل سييرت متكال، وماجلان، ودوفدوفان من أجل استعادتهم. إلى جانب ذلك، كان يتعيّن على تلك الأجهزة تحديد أماكن وجود قادة المقاومة، وعناصرها الفاعلين، ومعرفة مواقع مرابض صواريخها، لا سيما طويلة المدى منها، إضافة إلى ورش التصنيع، وأماكن تخزين السلاح، والممرات المؤدية إليها سواء كانت تحت الأرض أو فوقها، مع مهمة أخرى بالغة الدقة والحساسية، وهي معرفة أو توقّع خطط الدفاع التي تعمل من خلالها المقاومة، إضافة إلى إمكانياتها التسليحية التي يمكن أن تُستخدم في تلك الخطط.
من أجل كل ذلك، استخدم "الجيش" الإسرائيلي مروحة واسعة من أدواته الاستخبارية، بداية من العملاء والجواسيس على الأرض، أو ما يُطلق عليه اصطلاحاً "الاستخبارات البشرية "، إلى جانب "التجسس الإلكتروني"، من خلال رصد المكالمات الهاتفية وتتبّعها، السلكية منها واللاسلكية، والرسائل النصيّة، ورسائل البريد الإلكتروني، بالإضافة إلى الطائرات المسيّرة بأنواعها المختلفة، والأقمار الاصطناعية العسكرية، والتي تملك منها "إسرائيل " عدداً وفيراً.
يضاف إلى كل ذلك، الجهد الاستخباري الأميركي والبريطاني والألماني، والذي تم الإعلان عنه بشكل رسمي من تلك الدول، وتم تأكيده في ميدان المعركة من خلال الكثير من التطورات، التي لا يسمح الوضع الأمني بالحديث عنها الآن لحساسيتها، وإمكانية تأثيرها سلباً في قدرات المقاومة وإمكانياتها.
ولكن، على الرغم من كل ذلك، وغيره الكثير مما يمكن أن نتحدث عنه بعد انتهاء الحرب، لم تنجح الاستخبارات الإسرائيلية إلا في أقل من 5% من عملياتها، وهي نسبة تكاد تكون كارثية على الاحتلال في ظل ما يملكه من إمكانيات، وفي ظل ما تلقاه من دعم ومساندة من حلفائه في هذا الجانب.
هذا الفشل والإخفاق لم يكونا نتيجة ضعف إمكانيات العدو، ولا نتيجة ضربة حظ صبت في مصلحة المقاومة، وإنما من جراء عمل كبير ودؤوب وممنهج قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية، خصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتمكنتا من خلاله من إبطال معظم مكائد الاحتلال، وإفشال النسبة الأكبر من عملياته الاستخبارية المعقّدة، وتدارك ما نجح فيه من عمليات محدودة في بداية الحرب، ووضع الحلول المناسبة والجوهرية في تلافي المزيد منها من خلال المزيد من الإجراءات، والعديد من الخطوات.
على صعيد "الاستخبارات البشرية " التي كانت تمثّل بالنسبة إلى العدو نقطة قوة وثِقل في ميدان الجهد الاستخباري، عانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، لا سيما جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، الذي يتولى الإشراف على العملاء والجواسيس ومتابعتهم على الأرض، من مشكلات كثيرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالنقص الكبير في عدد "المخبرين" الذين يزوّدونه بالمعلومات من الميدان، وهذا الأمر كان نتيجة تراكمية لعمليات الملاحقة والاعتقال التي قامت بها أجهزة أمن المقاومة خلال السنوات الماضية، وما كانت تقوم به من حملات للتوبة أثمرت نتائج مبهرة وحاسمة، وأدّت إلى تناقص عددهم بشكل لافت وملحوظ. هذا التناقص لا يعني أن عملاء الاحتلال وجواسيسه قد أصبحوا أثراً بعد عين، بل أن هناك عدداً منهم ما زال يعمل، ويقدّم معلومات مهمة وحسّاسة لاستخبارات العدو، وهو الأمر الذي أعلنت عنه المقاومة أكثر من مرة عند حدوث اختراقات أمنية، أدت إلى عمليات اغتيال قادة المقاومة، وإلى استهداف منشآت عسكرية وأمنية تابعة لها.
في الحرب الحالية على قطاع غزة، عمدت المقاومة إلى فرض رقابة صارمة على من تحوم حولهم شبهات أمنية، وإلى الحدّ قدر الإمكان من تحركاتهم، خصوصاً في مناطق العمليات، أو بالقرب من بعض المواقع والمنشآت التي تحظى بأهمية بالغة، وفي كثير من الأحيان تم اعتقال عدد منهم وإخضاعهم للتحقيق الميداني، والذي تم الكشف من خلاله عن معلومات مهمة أدت إلى إفشال مهمات كان ينوي العدو القيام بها.
حتى بعض العملاء الذين كانوا محتجزين لدى أجهزة الأمن في غزة، تم إخراجهم من المقار الأمنية والحكومية، والتحفّظ عليهم في أماكن آمنة تحت حراسة مشدّدة، رغم الظروف الصعبة والاستهدافات الواسعة من طيران العدو لكثير من المواقع والأماكن التي كان يُعتقد أنها تابعة للمقاومة.
كل ما سبق، إضافة إلى الكثير مما نتحفظ عليه حالياً لدواع أمنية، نجح بشكل كبير في فرض حالة من الضبابية لدى أجهزة استخبارات العدو، وصلت في بعض مراحلها إلى حالة من "العمى الكلّي"، لا سيما في ما يتعلّق ببعض الملفات التي سعى العدو بكل قوة للحصول على معلومات بشأنها، ومنها أماكن احتجاز الأسرى الصهاينة.
في ما يخصّ التجسس الإلكتروني من خلال التنصّت، ومراقبة الاتصالات، والرسائل النصية والإلكترونية، فقد عمدت المقاومة إلى إيقاف كل وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي والإلكتروني، ومنعت بشكل حاسم كل عناصرها وكوادرها من استخدام أي وسيلة اتصال علنية حتى لو كانت مشفّرة، إذ إن التجارب السابقة كشفت أن لدى استخبارات العدو أجهزة وإمكانيات تمكّنها من فك تشفير الكثير من الرسائل والبرقيات، وحتى بعض الأجهزة التي استخدمتها المقاومة في أوقات سابقة، وكان يُعتقد أنها آمنة وغير قابلة للاختراق، تبيّن أن بإمكان العدو التجسس عليها، والاستفادة من المعلومات التي تُنقل من خلالها.
في هذه الحرب، أوقفت المقاومة كل أنواع الاتصالات المُشار إليها آنفاً، وآثرت في بعض الأوقات انقطاع الاتصال بشكل مؤقت بين غرف عملياتها، وبين المقاتلين على الأرض، على استخدام تلك الأجهزة، أو ما يُعتقد بأنه آمن نسبياً من بينها.
اعتمدت المقاومة، في المقابل، على شبكة اتصالاتها الخاصة، والتي أمّنت لها بشكل فاعل تواصلاً شبه دائم بين جميع تشكيلاتها، لا سيما بين غرف العمليات، وبين المجموعات المقاتلة في الميدان، وتحديداً تلك التي كانت ترابط في الأنفاق، وكان منوطاً بها جزء مهم من الخطة الدفاعية للمقاومة، والتي تحوّلت في كثير من الأوقات إلى عمليات هجومية، أدّت إلى سقوط العدد الأكبر من الخسائر في صفوف القوات الصهيونية.
إلى جانب ذلك، وفي بعض الحالات التي انقطعت فيها الاتصالات عبر الشبكات الخاصة بالمقاومة، والتي بذلت قوات الاحتلال جهداً كبيراً في محاولة الوصول إلى بعضها، حيث استعانت في ذلك بقدرات أميركية حديثة، ربما نتحدث عنها بعد انتهاء العدوان، قامت المقاومة بالاعتماد على إحدى أقدم وسائل التواصل وتبادل المعلومات من خلال " الرسل البشرية "، إذ قامت قيادة المقاومة بتلقّي تحديثات الميدان التي كانت تجمعها وحدات الرصد التابعة لها، وتطورات المعركة على الأرض، وترسل في المقابل توجيهاتها للمقاتلين من خلال هؤلاء الرسل، والذين قاموا في كثير من الوقت بعمل حاسم للغاية، وساهموا في نجاح الخطط القتالية التي وضعتها المقاومة، رغم المخاطر التي تعرّضوا لها، لا سيما أثناء تحركاتهم التي كانت جميعها محفوفة بمخاطر كبيرة وهائلة.
ولأن العمل في مجالات كهذه يجب أن يكون متكاملاً وشاملاً، حتى يحقق النتائج المرجوّة، فقد انسحب ما قامت به المقاومة على صعيد مكافحة التجسس البشري، والإلكتروني، على مواجهة سلاح "إسرائيل" الأخطر، والأكثر جدوى أي الطائرات المسيّرة، والذي نجح "جيش" الاحتلال من خلاله في تحقيق نتائج مهمة في مواجهات سابقة، إن كان من خلال جمع المعلومات الاستخبارية، أو من خلال تنفيذ عدد كبير من عمليات الاغتيال لقادة كبار في المقاومة، ومقاوميها على الأرض.
في المواجهة الحالية، والتي تُعدّ الأعنف والأشرس بين المقاومة والاحتلال منذ احتلاله فلسطين عام 1948، استخدم الاحتلال مجموعة واسعة من طائراته المسيّرة الحديثة، سواء تلك الخاصة بالتجسّس، أو المنوط بها تنفيذ عمليات قصف جوي.
ولم تكد سماء كل مدن القطاع تخلو دقيقة واحدة من تحليق مئات الطائرات الإسرائيلية، التي أرّقت إلى جانب مهماتها العملياتية والاستخبارية ليل الغزيين، وضغطت عليهم نفسياً إلى الحد الأقصى، من خلال أصواتها الغريبة والمزعجة، وارتباط تحليقها المنخفض تحديداً بعمليات لاحقة قامت بها، أو نفّذها الطيران الحربي.
حسب مصادر عليمة في المقاومة، فقد استخدمت "إسرائيل " معظم ترسانتها من الطائرات المسيّرة، لا سيما تلك الخاصة بجمع المعلومات، فيما لجأت إليها بشكل محدود جداً في تنفيذ مهمات تكتيكية مثل تنفيذ عمليات اغتيال، أو استهداف منازل ومنشآت، حيث اعتمدت في هذا الجانب على الطيران الحربي من طراز F-16، وF-35 بشكل خاص.
من أهم الطائرات التي استخدمها "جيش" الاحتلال في جمع المعلومات طائرة "جولف ستريم 550 "، وهي طائرات أميركية الصنع ومأهولة، يُطلق عليها في "الجيش" الإسرائيلي اسم "نحشون شافيت"، وتختص بأعمال "الاستخبار الإشاري"، الذي يشمل الاستطلاع الإلكتروني الراداري، والاستطلاع اللاسلكي. إلى جانب نوع آخر منها اسمه "نحشون إيتام"، وتعمل كطائرة إنذار مبكر، وهي مزوّدة برادار متطور ثلاثي الأبعاد تستطيع من خلاله تتبّع 100 هدف جوي في وقت واحد حتى مسافة 370كم، إضافة إلى قدرتها على توجيه عمليات جو-أرض، وتحتوي حزمة حماية إلكترونية للإنذار المبكر وتضليل الصواريخ المعادية.
الطائرة الثانية التي استخدمها "جيش" الاحتلال بكثافة هي طائرة "هيرمس 450 المسيّرة "، وتُعرف باسم "زيك"، وهي من صناعة شركة "إلبيت" الإسرائيلية، وهي عبارة عن طائرة تكتيكية مزوّدة بصواريخ تعمل عن بُعد، وقادرة على التحليق والبقاء في الجو لمدة 20 ساعة متواصلة، تحمل الطائرة "زيك " صواريخ متفجرة تزن 150 كجم، ويمكن استخدامها في مهمات الهجوم والاستطلاع، وجمع المعلومات الاستخبارية.
ثالث الطائرات هي "هيرمس 900 المسيّرة"، وتُعرف في سلاح الجو الإسرائيلي بـ "كوخاف" (النجم). تستطيع التحليق في الجو لمدة 40 ساعة متواصلة، وبإمكانها حمل 4 صواريخ جو-أرض من طراز "إيه جي أم-114 هيلفاير، أو صواريخ جو-جو من طراز "إيه آي أم-92 ستينغر" المستخدمة لاعتراض الطائرات والمسيّرات، كما أنها قادرة على حمل قنابل موجهة بالليزر من نوع "جي بي يو-12 فايفواي"، أو قنابل "جيدام" والتي تُستخدم في استهداف المواقع وشن هجمات وتنفيذ اشتباكات واغتيالات وعمليات نوعية.
إضافة إلى الأنواع السابقة، استخدم "الجيش" الإسرائيلي طائرة "إيتان"، وهي أكبر طائرة مسيّرة تابعة له، وهي قادرة على البقاء في الهواء لمدة 36 ساعة متواصلة، ويصل طولها إلى 15 متراً، بينما يقدّر وزنها بنحو خمسة أطنان. وطائرة "هيرون" التي تعمل في مهمات الاستطلاع والتجسس، وتوجيه المدفعية، وتحديد الأهداف، ويبلغ مداها 250 كم، وتطير حتى ارتفاع 10 آلاف متر، وتستطيع البقاء في الجو لمدة 40 ساعة، وتبلغ حمولتها 250 كجم.
إلى جانب كل ما سبق وغيره مما لا نستطيع الإشارة إليه كي لا نطيل، شاركت في عمليات التجسّس وجمع المعلومات طائرات مسيّرة أخرى غير إسرائيلية، وحسب ما توفّر من معلومات، فهي بمعظمها تابعة للجيش الأميركي، وكانت تطير على ارتفاع كبير للغاية، ولا تُصدر أي صوت كمثيلاتها الإسرائيلية، ولم تتم مشاهدتها أو رصدها خلال المعارك السابقة مع "جيش" الاحتلال.
ولكن، على الرغم من كل هذه الإمكانيات الهائلة، والقدرات الفائقة، لم تحقّق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إنجازات يُعتد بها، أو تؤدي إلى نتائج مبهرة حسب ما كانت تتوقع، خصوصاً في موضوع تحديد أماكن الأسرى الصهاينة، أو أماكن وجود قادة كبار في المقاومة، باستثناء بعض عمليات الاغتيال لقادة ميدانيين، أو عدد محدود جداً من منشآت تخزين السلاح والعتاد.
استخدمت المقاومة في مواجهة طيران الاحتلال المسيّر وسائل عديدة، منها عدم استخدام الهواتف المحمولة أو الأرضية، وأجهزة الاتصال اللاسلكي نهائياً، بالإضافة إلى عدم التحرّك في أوقات الليل، التي يُسهل فيها رصد أي حركة على الأرض بسبب خلو الشوارع من حركة السير بشكل تام، إلى جانب استخدام الأنفاق في نقل العتاد العسكري، وحتى في تنقّل المقاومين بين منطقة وأخرى.
وسائل أخرى جزء منها تكنولوجي قامت المقاومة باستخدامها في هذا الإطار لا يمكن الكشف عنها، ساهمت مع ما ذكرناه سابقاً في القيام بعملية " تعمية " شبه كاملة للعيون الإسرائيلية المحلّقة في السماء، والتي كانت ترصد كل شاردة وواردة في طول القطاع وعرضه.
ختاماً، يمكن لنا أن نقول إنه، وبالرغم من التفوّق الهائل لـ"جيش" الاحتلال في المجال الاستخباري، فإن المقاومة بإمكانياتها الضعيفة والمتواضعة، قد نجحت من خلال إدارة سليمة، وخبرة اكتسبتها خلال جولات المواجهة السابقة، وبدعم واضح من حلفائها في الإقليم في إفشال معظم خطط الاحتلال، والحد بشكل واضح من إنجازاته التي كان يسعى إليها، والتي لو نجحت لغيّرت نتيجة المعركة لصالحه من دون أدنى شك.