قلب العالم ليس أميركياً
في نظرة الجنود من الجو، تظهر جغرافيا إيران الهادئة، وممرات الصين القادمة، وثبات القوة البرية الروسية في مجالها الحيوي، ولسان حالهم يقول: "قلب العالم ليس أميركياً".
إنّها آسيا الوسطى التي رأى فيها الجغرافي الإنكليزي ماكندر جزءاً من قلب العالم. كان ماكندر مسكوناً بفكرة أولوية القوة البرية على القوة البحرية في الحسم، وبالتحديد عند التموضع في شرق أوروبا وآسيا الوسطى (التي اختلف تعريفها من وقت إلى آخر، ليشمل دولاً أقلّ أو أكثر، واستقرّ التعريف على الدول الخمس: قيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان).
تعرَّضت هذه المنطقة لحالة من السّيولة الإقليمية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية التي شكَّلت لها الحاضنة الواسعة، مع شعور لا يمكن إنكاره عند هذه الدول بحسٍّ من الدونية في ظلِّ الحقبة السوفياتية.
وصلت هذه الحالة من السيولة حدّ الاضطراب في ترسيم الحدود وتوزيع السكّان (طاجيك في أفغانستان، أوزبك في طاجيكستان، وغيرهما من أمثلة التداخل). أثارت السيولة شهية الأميركي، لتكون المنطقة هدفاً لتأسيس القواعد العسكرية في الدرجة الأولى، فبادر الناتو مع عدد من هذه الدول إلى توقيع اتفاقيات الشراكة من أجل السلام، في إطار التمهيد لبناء القواعد العسكرية فيها.
بُنيت قاعدة "ماناس" في العاصمة القرغيزية بشكيك في العام 2001م، كقاعدة دعم للقوات في أفغانستان، وتم إغلاقها في العام 2014م تحت الضغط الروسي والصيني. قبل ذلك، كانت القوات الأميركية قد أسست لها قاعدة في أوزبكستان، وتم إغلاقها في العام 2005م بطلب من السلطات الأوزبكية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المكتب الصحافي في وزارة الدفاع الأوزبكية صرّح في أيار/مايو الماضي بأنَّ العقيدة العسكرية في البلاد لا تتضمَّن نشر القواعد العسكرية الأجنبية فيها، في إشارة واضحة إلى رفض الطلب الأميركي قبل أن يقدّم رسمياً بعد الانسحاب من أفغانستان. وبذلك، فاتت على الولايات المتحدة فرصة "إعادة التموضع" التي دار الجدل حولها إبان الإعلان عن نيات الانسحاب من أفغانستان.
على جبهة الاقتصاد، بقيت هذه الدول من أقلّ دول العالم انغماساً في منظومة العولمة. في نظرة بسيطة إلى سلّم مؤشرات العولمة (Globalization index) للعام 2018 مثلاً، تجد طاجيسكتان في المرتبة 143 عالمياً، وأوزبكستان في المرتبة 131 عالمياً. إنّها اقتصادات عذراء تثير شهيّة المشاريع الاستثمارية التي لا تعرف إلى اللحظة طريقاً لجني الأرباح فيها من دون الوسيط الروسي.
عزلت التكوينات الثقافية والاجتماعية هذه المجتمعات عن العولمة ببعدها الاجتماعي، وعزلتها الاستثمارات الروسية في عهد بوتين عن العولمة ببعدها الاقتصادي (الاستثمار في تركة الاتحاد السوفياتي من البنية التحتية، وتعزيز التعاون في مجالات الآلات والمعدات التكنولوجية، ومشاريع الري والزراعة والتعدين).
مع هذه الوضعية، تنضمّ مجموعة عوامل فاعلة في إمكانية الانفتاح الأوسع على اقتصادات صاعدة، مثل الاقتصاد الإيراني، وإمكانية التفاعل مع مشروع "الحزام والطريق" الذي يعتمد في ممراته الأساسية على آسيا الوسطى (يفسر هذا اهتمام الصّين الكبير بهذه المنطقة، حتى على مستوى جائحة كورونا).
تنظر هذه الدول إلى كلّ ذلك كجوائز استراتيجية متوقّعة، تغنيها عن مغامرات استضافة قواعد عسكرية أميركية في المستقبل، وتزيد من عدم اكتراثها بمؤشرات العولمة التي تضعها في أسفل السلم.
ما لحق بالولايات المتحدة الأميركية من هزيمة في أفغانستان هو الانهيار الكامل لجبل الجليد، مشاهد الطائرة الأميركية المحمّلة بالجنود لا تجد وجهة لها إلا واشنطن، فأفغانستان كانت المحطة الأخيرة بعد تفكيك خواصر الدعم في أوزبكستان وقرغيزيا.
في نظرة الجنود من الجو، تظهر جغرافيا إيران الهادئة، وممرات الصين القادمة، وثبات القوة البرية الروسية في مجالها الحيوي، ولسان حالهم يقول: "قلب العالم ليس أميركياً".