"قسد" بين المواجهة والتسليم: زحمة اتّصالات وتحذيرات في الشمال السوري
يُشكّل الموقف الأميركيّ من عملية تركية محدودة في مناطق عين العرب وتل رفعت ومنبج في الريف الحلبيّ، قلقاً كبيراً للكرد.
على مدى أسبوعين كاملين، لم تتوقف التلويحات التركية بعمليةٍ عسكريةٍ بريةٍ كبيرة على مناطق سيطرة ميليشيا "قسد" الكردية في الشمال السوريّ، من دون أنْ تُحدّد تلك التصريحات التي أطلقها أرفع المسؤولين درجةً على المستويين السياسي والعسكري في أنقرة، موعداً لانطلاق تلك العملية. وترافقت تلك التصريحات والتهديدات مع تحريك قوات بريّة على الحدود مع سوريا وعلى الشريط الحدودي السوري من جهة مدينة "إعزاز" تحديداً، لكنّ أيّ توغّل عسكريّ لقوات المشاة التركية نحو العمق السوريّ، لم يبدأ بعد، كما لم تتحرّك الفصائل العسكرية السوريّة المسلحة العاملة في الشمال تحت إمرة أجهزة الأمن ووزارة الدفاع التركية، والتي وُضعت على أهبة الاستعداد لكي تشارك كوجبةٍ أولى أو كنسقٍ متقدّمٍ في الهجوم البريّ.
وحدها الغارات الجوية التي قام بها الطيران الحربي والمسيّر التركيّ على مواقع "قسد"، لم تتوقف طوال الأسبوعين الماضيين إلى أنْ هدأت فجأة في اليومين الأخيرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر، وتوقفت التحشيدات والتعزيزات البرية التركية على الحدود، على وقع مبادرات ووساطات ومحاولات من مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، مع اختلاف أهداف هذه الأطراف ورؤاها للوضع في الشمال السوري، ومواقفها من شكل العملية التركية وحدودها.
ومن جهة موسكو، التي تسعى إلى إقناع الكرد بتطبيق "اتفاق سوتشي" العام 2019، والذي خلُص حينذاك إلى إيقاف عملية تركية عسكرية (نبع السلام) في الشمال والشرق السوريين، مقابل انسحاب قوات "قسد" و"الاشايس" عن الحدود التركية-السورية إلى عمق 30 كيلومتراً، والذي ماطل الكرد في تنفيذه منذ ذلك الحين، ففي هذا السياق، وصل قائد القوات الروسية العاملة في سوريا، ألكسندر تشايكو، يوم الأحد الماضي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى القاعدة العسكرية الروسية قرب مطار القامشلي، ليعقد اجتماعاً مطوّلاً مع القائد السياسيّ لـ "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي ومساعديه، وقد سمع الكرد من جديدٍ إعادةً للمطالب السورية- الروسية التي تقضي بوجوب سحب المجموعات العسكرية الكردية من مواقعها على طول الحدود مع تركيا، وتسليمها لقوات الفرقة الخامسة التابعة للجيش العربي السوريّ، والتي تنتشر على خطوط التماس مع الكرد في أرياف محافظات الحسكة والرقة وحلب، وتسليم جميع المؤسسات المدنية في تلك المدن والبلدات للإدارة السورية، إلّا أنّ المسؤولين الكرد، وإنْ أبدوا استعداداً لمناقشة الانسحاب العسكريّ من بعض المواقع وبدء حوارٍ مع دمشق (كما في كلّ مرة منذ العام 2019)، إلّا أنهم يرفضون حتى اللحظة سحب إدارتهم المدنية من تلك البلدات والقرى وتسليمها لمؤسسات الدولة السورية، وتلك مسألة يرفضها جميع الأطراف وعلى رأسها الدولة السورية.
وكان تشايكو واضحاً في تحذير الكرد من مغبة التعنّت والاستماع إلى الوعود الأميركية التي شكّلت عائقاً رئيسيّاً أمام قبول القيادات الكردية بالحلول السورية والروسية طوال الأعوام الثلاثة الماضية، وأنّ التعويل على الأميركيين و"مبادراتهم" الواهية ستؤدّي إلى حصول العملية العسكرية التركية، والتي سينتج عنها تدخّل الجيش السوريّ والقوات الرديفة له والقوات الجوية الروسية، لاستلام الحدود والمدن والبلدات بالقوة. ويرى الكرد أنّ التسليم بتلك المطالب سيؤدّي إلى خسارتهم كلّ شيء، عسكريّاً ومدنيّاً، وأنّ المواجهة مع الأتراك قد تكون أقلّ ضرراً من التسليم، لأنّ باستطاعتهم تكبيد الأتراك خسائر كبيرة قد تحدّ من توسّع تلك العملية العسكريّة، ويمكنهم بالتوازي الاعتماد على الأميركيين الذين سيخسرون الكثير من نفوذهم وقوتهم ومصالحهم في الشرق السوريّ إذا ما شهدت المنطقة مواجهة عسكرية كبيرة كهذه.
من جهتها، بدأت الولايات المتحدة الأميركية حراكاً سياسيّاً باتّجاه أنقرة، إذ سارع السفير الأميركي في أنقرة، جيف فليك، إلى لقاء وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بعد أيام قليلة من بدء العمليات الجوية التركية ضد المواقع الكردية. وقد عبّر فليك عن "تفهّم" بلاده للمخاوف الأمنية التركية، وحذّر بالمقابل من أنّ أي عملية عسكرية تركية شاملة ضد حلفاء واشنطن الكرد، ستشكّل خطراً كبيراً على سلامة الجنود الأميركيين الموجودين في الشرق السوريّ، وستؤدّي إلى خسارة الجهد الأكبر في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابيّ، والذي يقوم به الكرد بنظر واشنطن، وأنّ استمرار عمليات القصف الجوي والمدفعي التركيّ، سيدفع بالمجموعات الكردية إلى نقل أكبر عدد من مقاتليّ "قسد" إلى الجبهات، وبالتالي تخفيف الحماية على السجون التي تحوي آلاف المقاتلين المتطرفين من التنظيم.
لكنّ فليك سمع المطالب التركية نفسها، والتي تتلخّص في إخلاء جميع النقاط العسكرية الكردية على طول الحدود، والانسحاب إلى عمق 30 كيلومتراً، وإلّا فإنّ العملية العسكرية البرية قادمة لا محالة. ولاحقاً، وفي اليوم الأخير من شهر تشرين الثاني / نوفمبر، أجرى وزير الدفاع الأميركيّ، لويد أوستن، اتّصالاً بنظيره التركي خلوصي أكار، أبلغه فيه رفض واشنطن لأيّ عملية عسكرية تركية ضد الكرد، وأعلن البنتاغون أنّ أوستن أبلغ أكار أنّ واشنطن "تعارض بقوّة" شنّ أنقرة عملية عسكرية جديدة ضد الحلفاء الكرد، ودعا أنقرة إلى خفض التصعيد في الشمال السوريّ.
وكانت واشنطن قد استبقت هذه الخطوة بتقليص عدد دورياتها المشتركة مع عناصر "قسد" في الشرق السوريّ، تحت ذريعة الخطر الذي تُشكّله الغارات الجوية التركية على الجنود الأميركيين، واضطرار "قسد" إلى تقليص دورياتها الموجّهة ضد تنظيم "داعش" بداعي الاستعداد للمواجهة مع الأتراك. كما أفادت مصادر أميركية متنوعة، منها موقع "المونيتور"، بأنّ الولايات المتحدة الأميركية قد أخلت جميع موظفيها المدنيين العاملين في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، باتّجاه منطقة أربيل في شماليّ العراق، تحسّباً لعملية عسكرية تركية وشيكة. وبالتزامن، سحبت واشنطن جنودها العاملين في قاعدة "لافارج" الواقعة في جنوب شرقيّ مدينة عين العرب "كوباني"، في ما عدّه الكرد تنسيقاً أميركيّاً مع الأتراك.
ويُشكّل الموقف الأميركيّ من عملية تركية محدودة في مناطق عين العرب وتل رفعت ومنبج في الريف الحلبيّ، قلقاً كبيراً للكرد، إذ لا تمانع واشنطن عملية كهذه تضع الجيش التركيّ والمجموعات المسلّحة السورية المعارضة في وجه الجيش السوري والقوات الروسية والمجموعات السورية التي تدرّبها طهران في تلك المنطقة، بينما يرى بعض صقور "قسد" أنّ خسارة عين العرب وجوارها، تُوجّه ضربة كبيرة لحلمهم الانفصاليّ ورمزيّته التي شكّلت "كوباني" عنواناً كبيراً له. ويرى بعض القيادات السياسية الكردية أنّ تخلّي واشنطن عنهم في الريف الحلبيّ وريف الرقّة، قد يؤدّي إلى تخلٍّ أميركي أوسع وأشمل عنهم في عموم المنطقة الشرقية في المستقبل القريب.
وإذ يُعوّل بعض القيادات العسكرية الكردية الأخرى على واشنطن، وأنها لن تسمح لأنقرة بعملية تقضي على الكرد تماماً، يبقى الموقف الكردي العامّ غائماً ومضطرباً ومنقسماً ما بين خيار المواجهة وخيار الاتصال مع دمشق والتنسيق معها ومع موسكو وتسليم العديد من المواقع، ومحاولة الهروب إلى الأمام عن طريق المفاوضات والاتصالات بين جميع الأطراف منعاً لتسليم البلدات والقرى ومؤسساتها المدنية للدولة السورية. لكنْ، يبدو أنْ الرهانات الكردية لن تصل إلى نتيجة هذه المرة، وسط إصرار أنقرة على شروطها التي باتت معروفة، وإصرار دمشق على إعادة سيطرتها على جميع أراضيها في الشرق والشمال السوريين، ومساعي دمشق وحلفائها الروس والإيرانيين الهادفة إلى طرد الأميركيين من الشرق في أقرب وقت ممكن وبكل الوسائل المتاحة.
وعلى هذا الصعيد، وبالتزامن مع تنفيذ الجيش العربي السوري والقوى الأمنية، عملية أمنية أدّت إلى قتل زعيم تنظيم "داعش" الإرهابيّ في الجنوب السوري، أبو الحسن الهاشميّ القرشيّ، وهو ما أكّدته "القيادة المركزية الأميركية" بالفعل في بيان لها، دفع الجيش العربيّ السوري بتعزيزات عسكرية كبيرة، تضمّ مدفعية ثقيلة، باتّجاه خطوط التماس مع القوات التركية والمجموعات المسلحة التابعة لها في مناطق الريفين الحلبيّ والإدلبيّ، كما وصلت حشود عسكرية سورية جديدة إلى محيط مدينة "تل رفعت" في ريف حلب الشماليّ، وهي المنطقة الأولى التي من المفترض أنْ تستهدفها العملية العسكرية التركية المتوقّعة. ما يشير إلى أنّ دمشق لن تسمح لأنقرة بالسيطرة على تلّ رفعت ومنبج مهما كلّف الأمر، كذلك أعلن "مركز المصالحة الروسيّ" في قاعدة "حميميم" عدم مشاركة الجانب التركيّ في الدوريات المشتركة خلال الأسبوعين الأخيرين، وعن وجود معلومات لدى المركز تكشف عن مخطط لـ "هيئة تحرير الشام" الإرهابية، لتنفيذ هجمات بالطائرات المسيّرة على قاعدة "حميميم"، ما يدلّ على وجود خطّة سوريّة-روسية لتكثيف الهجمات على تلك المجموعات التي ستعتمد عليها أنقرة في أيّ عملية عسكرية مفترضة.
وعلى الرغم من إعلان مصادر تركية عديدة عن اكتمال التجهيزات العسكرية واللوجستية للعملية البرية، وأنّ الأمر بات متوقّفاً على قرار الرئيس رجب طيب أردوغان، وتأكيد المسؤولين الأتراك أنّ العملية لن تستهدف المصالح الأميركية ولا الروسيّة، ولن تضرّ بها، فإنّ الهدوء الحذر الذي شهدته الحدود وميدان العمليات في الشمال والشرق السوريين مع نهاية تشرين الثاني / نوفمبر وبداية هذا الشهر كانون الأول / ديسمبر، أشبه ما يكون بالهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث كل شيء متوقف الآن على القرار الكرديّ النهائيّ الذي سيكون لواشنطن و"مبادراتها" أو عجزها وتخلّيها أثر كبير عليه. ويمكن القول هنا بناءً على المعطيات في القامشليّ، إنّ الجناح المتشدّد في "قسد" سيأخذ الكرد نحو المواجهة، والأرجح أنّ عمليّة عسكرية تركيّة في الشرق السوريّ تحديداً، قد تنطلق في أيّ لحظة، الأمر الذي سيخلط كل الأوراق في الشمال والشرق السوريين.