قرار الحرب على حزب الله والمعضلة الإسرائيلية
من المهم تأكيد حقيقة سياسية أن "إسرائيل" رأس حربة مشروع استعماري غربي في المنطقة تقوده حالياً الولايات المتحدة الأميركية، وأن الغرب هو من صنع "إسرائيل" ويرعاها.
فتح اغتيال "إسرائيل" نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشيخ صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية من بيروت، الباب على مصراعيه أمام احتمالية تدحرج القتال بين حزب الله والكيان إلى حرب مفتوحة، ناهيك بأن "إسرائيل" تعتقد أنها شارفت على الانتهاء من حربها على غزة، والأهم أن ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر أثبت لقيادة الاحتلال فشل سياسة الاحتواء للتهديدات المتراكمة حوله من محور المقاومة، وأنه يجب عليها العودة إلى سياسة الحسم العسكري وإزالة تلك التهديدات بالقوة العسكرية.
لكنّ السؤال المركزي هو هل تستطيع "إسرائيل" إحداث هذا التحوّل الاستراتيجي في صراعها مع حزب الله؟ وهل الظروف المحيطة، داخلياً وخارجياً، بكيان الاحتلال في ظل العدوان على غزة تساعده على ذلك؟
تؤكد كل القيادات العسكرية والسياسية بشكل مطلق أنه يجب إزالة تهديد حزب الله، ولا سيما كتيبة "الرضوان" عن الحدود الشمالية، وإبعاده إلى شمال نهر الليطاني، من أجل عودة أكثر من 70 ألف نازح إسرائيلي إلى مستوطناتهم في المناطق القريبة من الحدود مع لبنان، بعد هروبهم منها على إثر القتال الدائر مع الحزب منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، والذين يخشون تكرار سيناريو عملية "طوفان الأقصى"، لكن بنسخة لبنانية.
الجدير بالإشارة هنا، أن "إسرائيل" تطرح مسارين لتحقيق ذلك؛ مسار التفاوض الدبلوماسي من خلال تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 من الطرف اللبناني من دون أن تطبق "إسرائيل" ما يطالبها به القرار، ومن ذلك عدم استباحة الأجواء والأراضي اللبنانية والانسحاب الكامل من كل الأراضي اللبنانية، والمسار الثاني، إبعاد حزب الله بالقوة العسكرية من خلال حرب مفتوحة، مستفيدة من حالة الإجماع الإسرائيلي الداخلي سياسياً وشعبياً، والدعم الأميركي الكامل بعد "طوفان الأقصى" على المستويات كافة، والذي مكّنها من الاستمرار بقتل الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من 3 أشهر من دون أن تتشكل ضغوط دولية أو داخلية لوقف الحرب حتى الآن.
ناهيك بأن بعض الجهات السياسية الإسرائيلية لديها مصلحة باستمرار حالة الحرب، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحكومته المتطرفة.
بات الوضع الداخلي السياسي الإسرائيلي أكثر اقتراباً من الأوضاع ما قبل السابع من أكتوبر، من نزاعات داخل الحلبة السياسية سواء بين المستوى السياسي بعضه البعض، أو بين المستوى السياسي وبين "الجيش" والمؤسسة العسكرية، أو سواء بين المستوى السياسي والمؤسسة القضائية، وخصوصاً إذا أضيفت إلى تلك الخلافات خيبة الأمل الشعبية من أداء حكومة نتنياهو وحلفائه من "الصهيونية الدينية" في ملفات مثل الموازنة والنازحين وحقوق جنود الاحتياط ومستحقاتهم المالية والاجتماعية والتعويضات المالية للمناطق التي تأثرت بشكل غير مباشر من حرب غزة... وغيرها.
كل ذلك يؤكد أن إمكانية صمود الجبهة الداخلية الإسرائيلية في حرب جديدة مع حزب الله لن تكون كما كانت في الحرب على غزة، أضف إلى ذلك، أن هذه الحرب الجديدة لم يسبقها فشل عسكري كارثي هدد وجود "دولة" الاحتلال، وأشعر كل مستوطنيها بأنهم مهددون وجودياً، ولذلك لا توجد حماسة شعبية لتلك الحرب كما كانت للحرب في غزة.
كما أن الجهات الضاغطة فعلياً على الحكومة لإزالة "تهديد" حزب الله، حتى ولو بثمن حرب مفتوحة، هم جزء من مستوطني الشمال، وخاصة الموجودين على مسافة 8 كيلومترات من الحدود اللبنانية، وهؤلاء كما صرح الكثير منهم لم تكترث الحكومة بهم كونهم لا يمثلون كتلة انتخابية مؤثرة في المشهد السياسي الإسرائيلي.
هذا الأمر يفسر تجاهل الحكومة تنفيذ المشاريع الدفاعية والتحصينية في مناطق الشمال، التي أقرتها لجان التحقيق بعد حرب تموز 2006، كما صرح بذلك كثيرون من رؤساء بلديات مستوطنات الشمال، وبالتالي تلك الضغوطات التي يمارسونها على المستوى السياسي يمكن تحمّلها أو تأجيلها على الأقل.
يعدّ موقف "الجيش" الإسرائيلي موقفاً داعماً لإزالة تهديد في الشمال، وذلك يعود إلى حرصه على عدم تكرار فشله الاستراتيجي في "طوفان الأقصى"، وما نتج منها من تآكل صورته الداخلية وفقدان ثقة الشارع الإسرائيلي بالقدرة على حمايته، لكن "جيش" الاحتلال لم يعد كما كان قبل 7 أكتوبر، حيث تراجعت قوته في صنع قرارات الأمن القومي الإسرائيلي، وبالتالي باتت تقديراته الاستراتيجية محل شك دائم، وعدم الثقة بها من المستوى السياسي هو السمة الغالبة عليها، ولذلك نشهد هجوماً متكرراً من قبل وزراء الحكومة في جلسات الكابينت على رئيس الأركان، هرتسي هليفي، خاصة بعد تسريبات الجلسة التي تعالت فيها أصوات كلٍ من الوزراء ميري ريغيف ودفيد امسالم وإيتمار بن غفير في وجه هليفي، من دون تدخلٍ من نتنياهو.
هذا الأمر وصفه الكاتب الإسرائيلي، بن كسبيت، بأن "الكابينت السياسي الأمني بات جبهة قتال ثامنة فتحت على الجيش"، ولكن الأخير يدرك أن معركة مع حزب الله في ظل حكومة نتنياهو وحلفائه لا توفر الظروف الموضوعية لتحقيق الانتصار، خاصة مع إدراك قادته أن شراسة تلك الحرب وقوتها ستكون أضعاف الحرب على غزة، وأن تداعياتها الإقليمية والدولية أكثر اتساعاً، وتتطلب قيادة سياسية واعية ومسؤولة تمتلك الرؤية والاستراتيجية، وهذا الأمر مفقود لدى نتنياهو وحلفائه من "الصهيونية الدينية".
إضافة إلى احتياج الحرب إلى استعدادات ضخمة عسكرياً، في ظل استنزاف الحرب على غزة الكثير من القدرات التسليحية والعسكرية، سيما أن جنود الاحتياط يدخلون شهرهم الرابع بعيداً عن عوائلهم وأعمالهم وحياتهم المدنية، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات على قدراتهم القتالية، ناهيك بالتداعيات الاقتصادية لحرب غزة التي عدّت الأكثر تكلفة في تاريخ الحروب الإسرائيلية، والتي بلغت تكلفتها حتى الآن حسب التقارير الاقتصادية الإسرائيلية 217 مليار شيكل (ما يزيد على 58 مليار دولار)، ولذلك فإن "الجيش" الإسرائيلي لا يمكنه فتح حرب جديدة مع حزب الله من دون ضوء أخضر أميركي كامل، والتزام واضح وقاطع بأن يقدم كل ما تحتاجه "إسرائيل" و"جيشها" سياسياً وأمنياً وعسكرياً ودبلوماسياً في سبيل تحقيق انتصار على حزب الله.
لكن الموقف الأميركي رافض، بل حريص على عدم تدحرج حرب غزة إلى حرب إقليمية من اللحظة الأولى، لإدراكها التام أن أي حرب إقليمية ستعيد خلط الأوراق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، بل وفي الحلبة العالمية برمتها، كما أنه بعد اغتيال العاروري، وارتفاع نسبة اندلاع الحرب مع حزب الله، زادت الإدارة الأميركية من نشاطها الدبلوماسي، سواء من خلال زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن للمنطقة، وزيارة آموس هوكستين المتكررة لعواصم الشرق الأوسط، التي تشير إلى أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ما زالت ترى أملاً في إحداث اختراق سياسي من خلال الوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود البرية بين لبنان و"إسرائيل" بالطرق الدبلوماسية، وأنه يمكن تلافي تلك الحرب أو على الأقل تأجيلها لظروف تتوافق مع المصلحة الاستراتيجية الأميركية.
وهنا، من المهم تأكيد حقيقة سياسية أن "إسرائيل" رأس حربة مشروع استعماري غربي في المنطقة تقوده حالياً الولايات المتحدة الأميركية، وأن الغرب هو من صنع "إسرائيل" ويرعاها، وأنه لولا هذه الرعاية والحماية والدعم لما بقيت.
هذه الحقيقة السياسية والتاريخية مهمة لمعرفة اتجاهات مسارات التأثير ومقدار وزن اللاعبين المركزيين في صنع قرارات القضايا الاستراتيجية المشتركة بين "إسرائيل" وأميركا بشكل خاص والغرب الأوروبي بشكل عام، ناهيك بحساسية التوقيت لبايدن، الذي آخر ما يمكن أن يقبله هو أن تشتعل منطقة الشرق الأوسط بحرب جديدة، بكل ما تحمله من تأثيرات استراتيجية على مصالح بلاده، وخاصة الاقتصادية منها في سنة الانتخابات.
لذلك، فإن كل الجهود الأميركية منصبة حالياً على منع تدحرج القتال في الجبهة الشمالية إلى حرب مفتوحة، وهذه الرسالة الأميركية ترسلها كل القيادات الأميركية إلى الإسرائيليين، وخاصة مجلس الحرب والقيادة العسكرية، وهذا يفسر التحذير الأميركي المبطن لنتنياهو بعد عملية اغتيال العاروري ألا يحاول أخذ "إسرائيل" إلى حرب مع حزب الله من أجل مصالحه الشخصية ونجاته السياسية، كما تحدثت بذلك مصادر لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
رغم أن رغبة "إسرائيل" في الذهاب إلى الحرب المفتوحة على حزب الله، تصطدم بالكثير من معوقات القدرة السياسية والعسكرية الإسرائيلية حالياً، ما يشكل معضلة حقيقية أمام اتخاذ قرار الحرب، فإنه لا يمكن استبعاد ذلك السيناريو بشكل جازم، كون نوعية القيادة الإسرائيلية الحالية يغلب عليها العقل الأيديولوجي المشيحاني المتطرف، ممزوجاً بالكثير من المصالح الشخصية السياسية، الذي يجعل قراراتها لا منطقية، ناهيك بأن المناخات الحالية السياسية والعسكرية مشحونة جداً لدرجة أن أي خلل في الميدان يمكن أن يكون شرارة اندلاع الحرب المفتوحة.