في القانون الدولي.. استهداف "إسرائيل" صحافيي الميادين جريمة حرب
استهداف "إسرائيل" للصحافيين لم يشكل وسيلة ضغط عليهم، ولم يخِفهم ويمنعهم من نقل الحقائق التي تجري في الميدان، بل زادهم إصراراً وعزماً على المضي قدماً في تبيان المجازر والوحشية الإسرائيلية.
لم يكن مستغرباً أن تعمد "إسرائيل" إلى استهداف الصحافيين، سواء في لبنان أو غزة، لمنعهم من تغطية الأحداث والمجازر التي ترتكبها بحق المدنيين، إذ بلغ عدد الشهداء في غزة منذ بدء عملية طوفان الأقصى أكثر من 14 ألف شهيد، جلّهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن آلاف الجرحى والمفقودين وتدمير هائل للبنى التحتية والهجوم على مستشفيات شمال القطاع لتخيير السكان بين أمرين لا ثالث لهما إما الموت وإما النزوح نحو جنوب القطاع.
وأظهرت مشاهد الدمار التي عرضت على القنوات التلفزيونية والمقابلات التي أجراها الصحافيون مع سكان غزة، جملة أمور منها أن "إسرائيل" حولت شمال قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للسكن، والمجازر التي ترتكبها تصنف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، كما بينت الوجه الدموي والوحشي للكيان الصهيوني الذي تدعمه الدول الغربية التي تتغنى وتتفاخر بأنها حامي الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطيات في العالم.
بهدف التعتيم على جرائمها، ومنع الصحافيين من نشر الحقيقة، وإفساح المجال للإعلام الغربي الموالي لها لنشر الأخبار والصور المزيفة التي تظهر "إسرائيل" الضحية والمظلومة التي يتم الاعتداء عليها دائماً، وأن ما تقوم به من هجمات على قطاع غزة يأتي ضمن سياق "الدفاع عن النفس"، عمدت "تل أبيب" إلى استهداف الصحافيين وذويهم. مثلاً، قتلت أفراد عائلة الصحافي وائل الدحدوح بعدما نزحوا إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة؛ المكان الذي ادعت أنه آمن.
وبحسب نقابة الصحافيين الفلسطينيين، فقد بلغ عدد الشهداء الصحافيين في غزة 66 شهيداً، بينهم 6 صحافيات، منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، وفاق عدد الشهداء الصحافيين عدد الذين قتلوا على مدار عام 2022، حين بلغ 42 صحافياً في كل أنحاء العالم، من بينهم 15 كانوا ضحايا للحرب الروسية على أوكرانيا استناداً إلى تقرير اللجنة الدولية لحماية الصحافيين.
ولم يكن صحافيو لبنان بعدين كل البعد عن الاستهدافات الإسرائلية، إذ خسر لبنان منذ بدء الاشتباك بين المقاومة اللبنانية وقوات الاحتلال الإسرائيلي على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة 3 صحافيين كانوا ينقلون إلى العالم الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين اللبنانيين، وبث صور حية لاستخدام سلاح الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً بهدف إشعال الحرائق في الغابات وتدمير الأراضي الزراعية في جنوبي لبنان، كما لم تفوّت "إسرائيل" فرصة استخدام هذا السلاح الحارق ضد المدنيين.
بعد استهداف "إسرائيل" الشهر الماضي مجموعة صحافيين في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان، ما أسفر عن استشهاد المصور عصام عبد الله من وكالة "رويترز" وإصابة آخرين، أقدمت وعن عمد على استهداف الصحافيين في قناة الميادين فرح عمر وربيع معماري في غارة في بلدة طير حرفا جنوبي لبنان.
من الناحية القانونية، يوفر القانون الدولي الإنساني الذي وضع من أجل حماية المدنيين في أثناء النزاعات المسلحة وتقييد استخدام الأسلحة الحماية للصحافيين أيضاً.
بموجب هذا القانون، يعدّ الصحافيون مدنيين، وبالتالي يتعين على القوات العسكرية أن تتخذ جميع الاحتياطات الواجبة لحمايتهم. والمادة الأكثر أهمية التي تشير صراحة إلى حماية الصحافيين في النزاعات المسلحة الدولية هي المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 التي تنص على أن الصحافيين المشاركين في مهمات مهنية خطيرة في مناطق النزاع المسلح يجب اعتبارهم مدنيين بالمعنى الوارد في المادة 50 (1) من البرتوكول الإضافي الأول.
وبناء عليه، فإن الهجمات على الصحافيين محظورة تماماً بموجب القانون الدولي الإنساني. وتُمنح لهم الحماية المقررة للمدنيين بموجب المادتين 51 و57 من البروتوكول الإضافي الأول، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تتعلق بحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، وذلك ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية، إذ يفقدون بذلك الحماية المقررة لهم.
بحسب المادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف، فإن استهداف المدنيين عمداً يعد مخالفة جسيمة للبروتوكول الإضافي الأول، وبالتالي يعتبر الهجوم جريمة حرب يدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تطبيقاً للمادة 8 (2)(أ) و(ب)(1) من نظام روما الأساسي.
وإذا طبقنا ما ورد أعلاه على استهداف الصحافيين فرح وربيع، فهي جريمة حرب؛ فـ"إسرائيل" تعمدت توجيه هجومها إلى الصحافيين، أولاً لأنهما يعملان لمصلحة قناة الميادين التي كان الكيان الصهيوني قد أوقف بثها في فلسطين المحتلة قبل أيام عدة من الهجوم، وثانياً بصفتهما صحافيين ينقلان مجريات الأحداث الدائرة في الجنوب بصورة واضحة وصريحة وحقيقية.
من ناحية أخرى، كان الصحافيان موجودين في منطقة مفتوحة قريبة من منازل المدنيين ومن مركز للجيش اللبناني، ومعهما درعهما وخوذتهما التي تحمل كلمة صحافة، ولم يكن معهما لا أسلحة ولا دبابة، ولم يشاركا مباشرة في الأعمال العسكرية لكي تُزال الحماية الممنوحة لهما بموجب القانون الدولي الإنساني، ولم يكن استهدافهما عرضياً لاستهداف مواقع عسكرية، بل كانا هدفاً مقصوداً للهجوم. وبناء عليه، فإن "إسرائيل" تعمدت استهدافهما مرتكبةً جريمة حرب استناداً إلى المادة 8 من نظام روما الأساسي.
وفي إطار آخر، أصدر مجلس الأمن عدداً من القرارات التي تتعلق بحماية الصحافيين خلال النزاعات المسلحة، منها القرار 1738 الصادر عام 2006 والقرار 2222 الصادر عام 2015، اللذان دان فيهما مجلس الأمن الهجمات المرتكبة عمداً ضد الصحافيين والإعلاميين في النزاع المسلح، ودعا حميع الأطراف المتحاربة إلى وضع حد لهذه الممارسات ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
رأينا أنَّ استهداف "إسرائيل" للصحافيين لم يشكل وسيلة ضغط عليهم، ولم يخِفهم ويمنعهم من نقل الحقائق التي تجري في الميدان، بل زادهم إصراراً وعزماً على المضي قدماً في تبيان المجازر والوحشية الإسرائيلية التي ليس لها مثيل.