غضب واشنطن وغموض الرياض.. ماذا يحدث؟
يمكن للسعودية أن تشتغل على المناورة في الضغط على الولايات المتحدة من خلال ورقة أسعار النفط، بالرغم من أن أرامكو تدار من خبراء بريطانيين وفرنسيين وأميركيين.
أثار قرار أوبك+ بخفض إنتاج النفط حفيظة الولايات المتحدة الأميركية، ما دفع البيت الأبيض إلى طلب مراجعة القرار أو تأخيره شهراً، فيما رفضت الرياض طلب الإدارة الأميركية.
من هنا، نشأت بوادر غضب أميركي على السعودية تجسد في عدة تصريحات، أهمها تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن في مقابلة مع شبكة CNN يوم الثلاثاء 11 تشرين الأول/أكتوبر، إذ قال إن السعودية ستواجه عواقب عدم استجابتها للطلب الأميركي برفع الإنتاج للنفط بغرض خفض الأسعار في السوق.
وأضاف في المقابلة نفسها أن الوقت قد حان "لإعادة التفكير" في علاقة الولايات المتحدة بالسعودية، معللاً ذلك بأن المملكة قد دخلت في شراكة مع روسيا لخفض إنتاج النفط، بعد جهود مكثفة من البيت الأبيض لمنع مثل هذا القرار.
في يوم المقابلة نفسه، صرح منسق الاتصالات الاستراتيجية لمجلس الأمن القومي، جون كيربي، في حديث للصحافيين قائلاً: " في ضوء التطورات الأخيرة، وقرار أوبك بلس بخفض إنتاج النفط، يعتقد الرئيس بأنه يجب علينا مراجعة العلاقات الثنائية مع السعودية، لمعرفة ما إذا كانت هذه العلاقة في المكان الذي يجب أن تكون فيه، وأنها تخدم مصالح أمننا القومي".
ودار حديث في الإعلام الأميركي بشأن "إعادة الولايات المتحدة الأميركية تقييم" العلاقة التفضيلية بالسعودية، فهل واشنطن فعلاً غاضبة إلى درجة أن تتخذ خطوات في سبيل تغيير استراتيجيتها التقليدية تجاه الخليج؟
هناك ثابتان يتفق عليهما جميع المحللين، وهما: الثابت الأول: أن العلاقة بين أميركا والخليج ليست علاقة عابرة، خصوصاً السعودية، فبينهما علاقة تجذرت من خلال الثنائية الاستراتيجية (النفط والدولار)، ونتج عن تلك الثنائية عسكرة المنطقة ومراقبة الممرات المائية وما إلى ذلك من وجود عسكري كبير في مياه الخليج.
الثابت الثاني: أن رياح المتغيرات العالمية الحالية تضرب في خطوط موازين القوى لتغيرها، سواء بتقليص نفوذ بعض الكيانات أو تكبيرها، أو بتغيير التحالفات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
بناءً على هذين الثابتين، لا يمكن وضع الخلاف السعودي-الأميركي على منضدة الانتخابات النصفية للكونغرس لنقول إن ما يحصل هو مماحكة انتخابية يراد منها تحسين وضعية الحزب الديمقراطي أمام الجمهوري، ولا نستطيع حصر الموضوع في نطاق الانتخابات فحسب لعدة أسباب:
أولاً: المماحكة ليست أميركية محضة للقول إنها من ضروب الدعايات الانتخابية، إذ للسعودية تصريحات حادة أيضاً، من قبيل تصريح وزارة الخارجية بأن المملكة لا تقبل الإملاءات الخارجية، وجاء ذلك التصريح رداً على طلب أميركا خفض الأسعار عبر رفع الإنتاج.
ثانياً: هناك خطوات عملية تقوم بها السعودية والإمارات وقطر باتجاه روسيا، ولقاءات حدثت في كازاخستان مع الرئيس الروسي على هامش مؤتمر آسيوي، كلقاء الأمير تميم بن حمد الرئيس الروسي يوم الخميس 13 تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
ثالثاً: منظمة أوبك، وإن كانت الولايات المتحدة ليست عضواً فيها، إلا أن لها نفوذاً فيها امتد لعقود، بسبب الشراكة القوية بين الرياض وواشنطن منذ عهد نيكسون، بيد أن تحالف أوبك مع روسيا وعدة دول في صيغة ما يُعرف بـــ "أوبك بلس" أضعف نفوذ واشنطن، كذلك التموضع السعودي حالياً بين القوى الكبرى المتصارعة قلّص بشكل كبير ما كانت الولايات المتحدة تمارسه مع أوبك بارتياح ويُسر، فأوبك بلس مختلفة عن أوبك بطبيعة الحال.
الخيارات الصعبة والممكنة
السعودية أمام خيارات صعبة جداً، وهي غير مهيأة أن تأخذ موقفاً صارماً من الولايات المتحدة الأميركية، لا لأن الأخيرة دولة عظمى ولا يمكن مقارعتها، بل لأن السعودية لا تمتلك مناخاً سياسياً وعسكرياً وحتى اقتصادياً يمكنها من اتخاذ موقف حاد-في الوقت الحالي على الأقل-من الغرب عموماً ومن أميركا خصوصاً، فمنظومتها العسكرية وكل بنيتها التحتية في المجال العسكري مبنية على التقنية الغربية، ما يجعل الاستغناء عن تلك التقنية-في حال تعسرت الأمور- رحلة مسارها أعوام وكلفتها الاقتصادية مليارات، وهذه ورقة يمكن استخدامها غربياً فيما لو استفحلت المنغصات واسودّت الخيارات بينهما.
أيضاً الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج لا يسمح للسياسيين أن يتنفسوا كما يحلو لهم، وهذا الوجود له ضريبته السياسية التي تُدفع من ضلع السيادة الوطنية للدول التي ارتضت به لحماية وجودها وكيانها.
لكن، يمكن للسعودية أن تشتغل على المناورة في الضغط على الولايات المتحدة من خلال ورقة أسعار النفط، بالرغم من أن أرامكو تدار من خبراء بريطانيين وفرنسيين وأميركيين.
وحاجة الرياض للضغط في هذا المنعطف العالمي هي أفضل طريقة للاستفادة من الكبار أجمعهم من دون أخذ مسار متحيز لأحدهم.
الزوايا الحادة في صناعة الموقف
لكن، لا يمكن للمملكة العربية السعودية أن تستمر على هذه السياسة في ظل ضيق سعة المساحات التي يمكن أن يناور فيها اللاعبون الإقليميون، خصوصاً كلاعب مثل السعودية التي تصدر 12 مليون برميل نفط يومياً، فـ"إسرائيل" اتخذت لوناً رمادياً في بداية المشكلة الأوكرانية، لكنها في النهاية أعلنت ميلها إلى الموقف الأميركي، وراحت تدعم الجيش الأوكراني بالسلاح والتقنية، كذلك إيران لم تأخذ موقفاً واضحاً في الأشهر الأولى للحرب، لكن مع خبر بيعها آلاف المسيّرات من نوع "شاهد" لروسيا، تأزمت العلاقة بين طهران وكييف، بل وفسّر الكثير موقف الجمهورية الإسلامية بالاصطفاف ضد الناتو.
من المتوقع أن لا تأخذ السعودية موقفاً من ضم أربع مقاطعات أوكرانية إلى الاتحاد الروسي بشكل واضح، لكن في الوقت نفسه، من غير الممكن أن تصطف الرياض مع موسكو في حرب يعلم الجميع أن طرفيها روسيا والناتو وليس روسيا وأوكرانيا، إذ إن الأخيرة هي بيدق يستعمله الأميركي في وجه بوتين.
سياسة الغموض البناء
مثلما هناك مناوشات على مستوى التصريحات، فإن هناك رسائل تعوّم الموقف السعودي، فقد صرح وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير بأن قرار أوبك+ قرار جماعي، ورفض أن تكون هناك تفسيرات سياسية عدائية تجاه بلاده، كما ترفض مؤسسات وازنة في الولايات المتحدة الأميركية معاقبة دول أوبك+، وعلى رأسها السعودية، بقانون NOPEC الذي ينص على معاقبة التكتلات النفطية بدعوى الاحتكار، ولكن هناك مطالبات بتفعيله.
فإذا كانت السعودية لا تستطيع أن تواجه الولايات المتحدة الأميركية بالأسباب التي تقدمت، ومن أهمها عدم توفر المناخ السياسي والعسكري لذلك، وفي الوقت نفسه، تتخذ مسارات لا ترضي البيت الأبيض، خصوصاً في ما يتعلق بالطاقة، فهل هي تتجه إلى سياسة الغموض البناء
ماذا يعني هذا المصطلح؟ أهم منظري مصطلح الغموض البناء هو ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر، وبحسب عدة مصادر، فإن الغموض البناء هو الاستخدام المتعمد للغة غامضة في قضية حساسة من أجل تعزيز بعض الأغراض السياسية. ويستخدم في هذا الصدد المراوغة وعدم الوضوح كأسلوب ضغط بغية الوصول إلى نتائج معينة.
وتراعي هذه السياسة حداً أدنى وحداً أقصى لاستفزاز الطرف الآخر كي لا تخرج الأمور عن السيطرة.
فإذا كانت السعودية تتخذ الغموض البناء في مسألة الطاقة والاقتراب من روسيا بهذا المعنى مع الولايات المتحدة الأميركية، فهذا تماماً ما أراه، وهو-وإن لم يكن عداءً بواحاً لأميركا-لكنه تطور لافت في السياسة الخارجية السعودية.
وقد كتبت سابقاً عن رغبة الغرب في تأهيل ولي العهد السعودي، وأن قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي صارت وراء ظهورهم، بل ثمة خطوات اتخذت غربياً في هذا الاتجاه، إلا أن محمد بن سلمان قد لجأ إلى هذه السياسة للدفع بحظوة أكبر عند كل الأطراف الكبرى، التي لن يعادي منها أحداً لأنه غير قادر على ذلك، لكن يمكنه الاستفادة منهم جميعاً، وهو يحدّق على عرش أبيه بشراهة.
وتلك الأطراف تعلم محدودية المناورة عند الرياض ومدى قدرتها، لذلك هي تتعامل وفق ذلك المنطوق.
لكن، ما قد يفلت الأمور من عقالها، أن الحمى الاقتصادية التي أزكمت الأسواق العالمية والتضخم الذي صار كتلة سرطانية يُخشى سريانها وتفاقمها، قد يدفع بعض السياسيين الغربيين إلى اتخاذ مواقف حادة من أي دولة تزيد من مشاكلها ولو بصورة موقتة، الأمر الذي يجعل سياسة الغموض البناء للسعودية على حافة المجهول.