عين الحلوة.. عين العاصفة حتى إشعار آخر
في كل مرة تندلع فيها المعارك داخل المخيم وعلى أطرافه، تعج التحليلات والمعلومات المصاحبة بكثير من الفرضيات والافتراضات عن بعدٍ فلسطيني أكبر لهذا الصراع.
ما من رقعة صغيرة في هذا الإقليم تختزل محاوره وصراعاته مثل "عين الحلوة". رقعة صغيرة من الأرض (أقل من كيلومتر مربع واحد) يقطنها عشرات الآلالف من اللاجئين (أكثر من 70 ألف نسمة) باتت اليوم في "عين العاصفة"، مع تواتر التقارير والتغطيات التي تواكب الموجات المتعاقبة من معاركه وحروبه ومعارك الآخرين وحروبهم عليه، كاشفةً عن أفظع القصص والحكايات عن صنوف المعاناة الإنسانية التي طبعت سيرة اللجوء الفلسطيني منذ النكبة وحتى إشعار آخر.
في كل مرة تندلع فيها المعارك داخل المخيم وعلى أطرافه، تعج التحليلات والمعلومات المصاحبة بكثير من الفرضيات والافتراضات عن بعدٍ فلسطيني أكبر لهذا الصراع يتخطى جغرافيا المخيم الضيقة إلى "الانقسام الأعمق والأطول"، وبعدٍ لبناني مرتبط بانقسامات اللبنانيين وصراعاتهم غير المنتهية، وأبعاد إقليمية متصلة بمحاور الإقليم ونزاعاته متعددة الساحات والأدوات، من دون أن ننسى "الإصبع الإسرائيلي السام"، الخبير المجرب، في إثارة الفتن وتغذية القلاقل.
في معارك الشهرين الأخيرين في المخيم وجواره، اندلعت "حرب الروايات المتضاربة" بين الأطراف ذات الصلة، ولم تكن أقل ضراوة من معارك الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي شهدها المخيم المنكوب... لكل فريق روايته التي يحشد فيها "ما طاب" له من شواهد وبراهين، فيما المخيم الذي طفح بسكانه القدامى والجدد يتحول إلى "مربعات أمنية" لكل منها مرجعيته ومنظومته الأمنية وخطوط تماسه.
على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، يمكنك أن تجد "الإسلاميين" بمختلف تدرجات طيفهم السياسي والفكري: السلفية بمدارسها الدعوية والجهادية (بمن فيها المحسوبون على "القاعدة" و"داعش")، وفصائل المقاومة الفلسطينية ذات الهوية الإسلامية (حماس والجهاد)، وحركة فتح وحلفاءها، واليسار الفلسطيني ومن يدور في فلكه من قوى ومجاميع، فضلاً عن النفوذ المستتر لقوى سياسية وأجهزة أمنية لبنانية وعربية، وربما دولية.
طوال أكثر من نصف قرن، أدت فتح على رأس منظمة التحرير (حين كانت العمود الفقري)، بلجانها الشعبية وأمنها الوطني وكفاحها المسلح وبقية أذرعها السياسية والاجتماعية، دوراً حاسماً كمرجعية للمخيم (والمخيمات الفلسطينية في لبنان بعمومها)...
اليوم، لم يعد الأمر كذلك، فالحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، ومنذ ربع قرن تقريباً، صار لها "عمودان فقريان". وفي حالة "عين الحلوة" بالذات، دخل على الخط "عمود فقري ثالث": الجماعات الإسلامية المدججة بالسلاح و"التكفير"، ففقد المخيم مرجعيته، وتحول إلى جزر ومعازل، أخطر ما فيها تحوّل جزء منها إلى ملاذ أوحد وأخير للجماعات التكفيرية على الأرض اللبنانية، بعدما نجح الجيش والقوى الأمنية وحزب الله في تطهير لبنان منها، وصولاً إلى السلسلة الشرقية ومناطق حدودية مع سوريا... والأهم من كل هذا وذاك، وأخطر، أن فتح ذاتها لم تعد "فتحاً" واحدة، بل تحولت إلى مزق وشظايا موزعة على مراكز القوى داخلها والمنشقين عنها وعليها.
لفتح رواية من جزأين؛ ظاهر وغاطس، تقوم أساساً على فكرة "استهداف" فتح، ومن خلفها منظمة التحرير الفلسطينية، وتضع المسألة برمتها في سياق الصراع الداخلي على "الممثل الشرعي الوحيد". في الجزء الظاهر من الرواية، حديث عن "حرب على الإرهاب" تخوضها الحركة نيابة عن الجميع، وفي ذلك رسائل للقاصي والداني لا تخفى معانيها وأهدافها عن أحد...
أما في الجزء الغاطس من الرواية الذي يتولاه ناطقون غير رسميين ومواقع التواصل و"غروبات الواتس آب"، فالحديث أكثر صراحة عن "لعبة" تقوم بها حماس، مدعومة بأطراف من محور الممانعة، بهدف نقل السطوة والقيادة في مخيمات الشتات إلى هذا المحور، وتصفية نفوذ فتح والمنظمة، بزعم تورطها في مشاريع "تصفوية" لقضية الفلسطينيين ومقاومتهم، وتُستحضر في هذا السياق عمليات إطلاق الصواريخ من الأراضي اللبنانية صوب الشمال الفلسطيني، كما تستحضر التقارير عن تحول مخيمات لبنان إلى "قواعد ارتكاز" للمقاومة الفلسطينية المسلحة تسليحاً وتدريباً وتأهيلاً.
لحماس "وحلفائها" روايتها الخاصة، ومن جزأين كذلك، ظاهر وغاطس. في الجزء الظاهر، استمساك بضرورة إسكات البندقيات واستعادة الهدوء وسخرية من شعار "محاربة الإرهاب" الذي ترفعه فتح... أما في الجزء الغاطس من الرواية، فحديث عن نقل "معركة جنين" إلى عين الحلوة، ومد ولاية التنسيق الأمني إلى مخيمات لبنان، ومشروع لملاحقة المقاومة، لا في الضفة الغربية فحسب، إنما في الشتات كذلك، بدءاً بـ"عين الحلوة".
وفي هذا الجزء الذي يتولاه ناطقون غير رسميين لهذا الفريق، استحضار لزيارة اللواء ماجد فرج الأخيرة لبيروت وتقارير عن "ولاء" المجموعة الممسكة بقرار فتح في لبنان للواء فرج، واستذكار لواقعة اغتيال أحد عناصر الجماعات الإسلامية التي سبقت اغتيال اللواء أبو أشرف العرموشي، والتي كانت الشرارة التي أشعلت سهلاً.
الروايتان تستحضران البعد الإقليمي – الدولي لأزمة المخيم ومأساته. فتح تحدثت علناً عن دور استخباري لعواصم "تحتفظ بسفارات لها في بيروت" في إذكاء نار الفتنة، والناطقون غير الرسميين بلسانها يشيرون بأصابع الاتهام إلى إيران وحزب الله... في حين يتهم الفريق الآخر فتح والسلطة بأنها تنفذ مخططاً مشبوهاً بتوقيت مشبوه، كجزء من لعبة "كسب الجدارة والاستحقاق" لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة التي تملي على السلطة إثبات حضورها وسطوتها في الضفة أولاً، وفي مخيمات لبنان ثانياً، لعلّها تخرج من مولد "صفقة القرن الثانية" بقليل من الحمص.
بين الروايتين السائدتين، هناك روايات أخرى لا تجد لنفسها صدى واسعاً في الإعلام، من حديث عن "مخطط" تقوم به جماعات في المخيم لإنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان، وتسريع تفريغ المخيمات من ساكنيها، كما حصل في مراحل سابقة منذ الحرب الأهلية اللبنانية، وبتواطؤ وتدخل من قوى لبنانية ودولية، ودائماً لمصلحة "إسرائيل" وتدخل منها مباشر أو بالوكالة... إلى أحاديث عن "فخ" ينصب لحزب الله لدفعه إلى التورط في منطقة شديدة الحساسية لأمنه ومشروعه ضمن مخطط للإلهاء والمشاغلة.
وحدها الجماعات الإسلامية المقاتلة والأكثر تشدداً لا تجد حاجة لتطوير رواية خاصة بها والعمل على ترويجها، فمن منظور هذه الجماعات، فإن الجهاد ضد "الطاغوت" مهمة مقدسة ومتصلة إلى "يوم الدين"، وحيثما يكون الكفرة والملاحدة والعلمانيون ومن "لم يحسن إسلامهم"، فإن الجهاد فريضة عين على كل مسلم ومسلمة...
هذه الجماعات التي تواجه عنتاً ومشقة لإدامة نفوذها في دول المنطقة، لا تكفّ عن البحث عن ملاذات آمنة أو مواطئ أقدام لها، وعين الحلوة، كما يبدو، كان وجهة مفضلة لها بعد نهر البارد والجرود والسلسلة الشرقية.
النزف بدل الحسم
لم تكن الجولة الأخيرة من القتال بين فتح والجماعات الإسلامية أول المعارك، ولن تكون آخرها، والمرجح أن يبقى المخيم حتى إشعار آخر ساحة للنزال بين هذه الأطراف وغيرها، من دون أن تتوفر لأي فريق القدرة (أو حتى الرغبة في بعض الأحيان) على حسم هذا الصراع.
فتح التي تبدو أكثر من غيرها معنية بالحسم غير قادرة عليه، نظراً إلى انقساماتها وتأكّل مكانتها، وفي ظل غياب حلفاء حقيقيين لها، حتى من داخل فصائل المنظمة، وبوجود أطراف منافسة وازنة، أهمها حماس، ومع تفاقم شتات المرجعية السنيّة اللبنانية التي كان بالإمكان التعويل عليها في توفير غطاء سياسي (وعملاني إن اقتضى الأمر) لخوض معركة الزعامة والقيادة.
والجماعات الإسلامية غير قادرة على الحسم بدورها، وربما تكون غير راغبة فيه، بالنظر إلى عواقبه وعقابيله، فهي تدرك أنها إن خرجت عن حدود انتشارها القائمة حالياً فقد تثير مخاوف المؤسسة اللبنانية الأمنية والعسكرية، والأهم أن ذاكرتها ما زالت محمّلة بصور هزائمها في جرود عرسال والقصير أمام الجيش والحزب، وتدرك أيضاً في الوقت ذاته أنها لن تجد عوناً من حماس أو الجهاد، وذاكرتها ما زالت محمّلة أيضاً بصور المعارك الضارية بين أشقائها في غزة وكتائب القسام.
القوتان الوحيدتان اللتان تملكان قرار الحسم في المخيم وتغليب كفّة طرف على آخر هما الجيش وحزب الله، وكلاهما لا يريد التوغل عميقاً في دهاليز المخيم وحسابات "مربعاته الأمنية"، لأسباب ليست خافية عن أحد.
لكل هذه الأسباب، من المرجح أن يتغلب "سيناريو النزف" على "سيناريو الحسم"، على أن يبقى الوضع في المخيم يراوح ما بين تهدئة وتصعيد يدفع أثمانه الباهظة اللاجئون الفلسطينيون وجوارهم اللبناني المنكوب أيضاً، مع كل ما يحمله سيناريو كهذا من مخاطر التفريغ المتدرج للمخيم من أهله وسكّانه تحت ضغط الهاجس الأمني وتراجع خدمات الأونروا والظروف المعيشية الصعبة، وإضعاف متدرج لحركة فتح وحلفائها وقواعدها الاجتماعية، في مقابل تنامي نفوذ منافسي الحركة وأعدائها.
وعلى الأرجح أن مصائر المخيم باتت متداخلة أكثر من أي وقت مضى مع تطورات الوضع في لبنان والإقليم، بدءاً من ملفات الرئاسة والخانقة الاقتصادية، وانتهاءً بالجهود الأميركية الرامية إلى إتمام "صفقة القرن 2" وانعكاساتها على علاقات القوة وتوازناتها ودينامياتها، سواء في الداخل الفلسطيني أو على جبهة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، دع عند تداعيات الملف السوري الموضوع مجدداً على "صفيح ساخن" ومآلات العلاقات الإيرانية - الأميركية.