عودة جامعة الدول العربية إلى سوريا... وبداية التحوّلات الكبرى في الإقليم
بدا واضحاً خلال الأشهر الأخيرة أن ضعف القبضة الأميركية، وفقدانها جزءاً مهماً من قوتها المعهودة، قد ساهم في فكفكة بعض الأزمات على صعيد المنطقة، وإن كانت الأمور لم تصل إلى خواتيمها السعيدة بعد.
كنت قد كتبت في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/أكتوبر من العام الماضي مقالاً حمل عنوان "متى تعود جامعة الدول العربية إلى سوريا"، تحدّثت فيه عمّا تعرّضت له الجمهورية العربية السورية من "حرب كونيّة"، شارك فيها عدد كبير من الدول الكُبرى والصُغرى، وممالك ودويلات ذات أذرع إعلامية طويلة، وآبار نفطية عميقة، وخزائن من المال والذهب، أسالت لعاب آلاف المرتزقة، وأعمت أعين آلاف آخرين من الجهلة، ما جعلهم يندفعون كالجراد الجائع، يهدّمون الحجر، ويقطعون الشجر، ويقتلون النسل، وينهبون ويسرقون، من دون وازع من ضمير أو رادع من أخلاق.
وقد تحدثت حينها عن مواقف بعض الدول العربية من العودة السورية المحتملة لشغل موقعها في جامعة الدول العربية من جديد، وهي إحدى الدول السبع المؤسسة لها في العام 1945 من القرن الماضي. حيث انقسمت الدول العربية في ذلك الوقت إلى 3 فرق، رحّب الفريق الأول بشدة بالعودة السورية المقترحة، فيما استمرّ الثاني على رفضه وعناده، مبرّراً ذلك بأن الظروف لم تنضج بعد لتلك العودة، فيما بقي الفريق الثالث متردّداً، وينتظر أن يحسم أحد الفريقين السابقين الأمر لصالحه.
هذه الاختلافات والتباينات في المواقف العربية، والتي كانت واضحة وجليّة، عبّر عنها الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في الـ 8 من آذار/مارس الماضي، حين قال في ختام اجتماعات الدورة الـ159 لمجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري، إنّ الموضوع السوري تمت مناقشته خلال الاجتماع التشاوري المغلق بين وزراء الخارجية، وأنه لا توجد خريطة طريق أو رؤية واضحة بشأن كيفية التعامل مع هذا الملف في إطار جامعة الدول العربية، وأضاف أن الإطار العام يشير إلى أنه لا يوجد توافق عربي بشأن سوريا.
هذا التصريح من شخصية بحجم أبو الغيط ألقى في حينه بظلال قاتمة على الجهود المبذولة للبدء في فكفكة الأزمة السورية، والتي كان يُفترض لعودتها إلى صفوف الجامعة، أن تشكّل إشارة البدء لإنهاء الأزمة بشكل حقيقي ونهائي، بما يفضي إلى الحفاظ على كل ذرة تراب من أراضيها، وخروج الأغراب والمحتلين من كامل جغرافيّتها، والانطلاق نحو مرحلة الإعمار التي لن تكون سهلة بكل تأكيد.
ولكن رغم تلك التباينات العربية، والاختلاف في الرؤى، والانقسام في المواقف، والتي أعاد تأكيدها وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، على هامش اجتماع جدة في الـ 14 من نيسان/أبريل الماضي، عندما اعتبر أن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية "مجرّد تكهنات"، مشيراً إلى أن أسباب تعليق عضوية دمشق لا تزال قائمة بالنسبة للدوحة.
رغم كل ذلك فقد نجحت الجهود الحثيثة التي بدأت منذ أكثر من عامين، وزاد نسقها منذ بداية العام الحالي في الوصول لتوافق عربي – عربي، على عودة سوريا إلى موقعها الطبيعي، وإلى مكانتها التي تستحقها، لتعود من جديد لتشغل موقعها الذي أُبعدت عنه بفعل فاعل، وبتحريض إسرائيلي وأميركي سافر، وبتدخّلات وصلت إلى حد توزيع الرشى على بعض الدول ولا سيما الفقيرة منها، لشراء أصواتها وتغيير مواقفها.
حيث أعلنت جامعة الدول العربية في بيان رسمي أنها اتخذت قراراً بالإجماع باستعادة سوريا عضويّتها واستئناف مشاركتها في اجتماعات مجلس الجامعة، اعتباراً من يوم الأحد الـ 7 من أيار/مايو للعام 2023، كما قرّرت استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات الجامعة، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها في التاريخ نفسه.
وقد بدا هذا القرار مفاجئاً للبعض، ولا سيما أن بعض الدول العربية المتنفّذة، والتي كانت تعارض بشدة العودة السورية، لم تبدِ قبل الاجتماع الاستثنائي الذي تمّ عقده في القاهرة، تغييراً جذرياً على توجّهاتها السابقة، ولم يخرج عنها أي إشارة قد يُفهم منها أنها بصدد التراجع عن موقفها المتصلّب، أو التراجع عن آرائها القديمة.
وهذا ما يجب أن يدفعنا للتوقف عند الأسباب التي أحدثت هذا التغيير، وهل هي متعلّقة فقط بالدول العربية التي صوّتت على القرار، أم بدول كبرى أخرى تملك حق التدخّل في هكذا قرارات كما جرت العادة! وهل هناك علاقة لتوقيت اتخاذ القرار، بما يجري من تغيّرات مهمة على مستوى المنطقة والإقليم! وهل سيكون هذا القرار مقدّمة لقرارات أخرى تساهم في حلحلة أزمات أخرى تعاني منها المنطقة، بما يمكن أن يؤدي إلى انفراجة كبيرة في كثير من الملفات التي أرهقت خلال السنوات الأخيرة كاهل شعوب المنطقة، ودفعت مئات الآلاف منهم ليصبحوا لاجئين في مشارق الأرض ومغاربها.
في اعتقادي هناك 3 أسباب رئيسية لهذه الاستدارة الملفتة في مواقف بعض الدول، ولا سيما الخليجية منها، والتي تقدّمت خلال سنوات الحرب صفوف المعادين للدولة السورية، وساهمت في تمويل الجماعات التي كانت تقاتل هناك بمئات ملايين الدولارات، وزوّدتها بأحدث الأسلحة، ووفّرت لها شبكة من الدعم الإعلامي المنقطع النظير، والذي رفع شعار "استمرّ في الكذب حتى يصدّقك الناس".
أولاً: صمود وثبات الدولة السورية
في اعتقادي أن هذا السبب كان حاسماً للغاية في ما وصلت إليه الأمور حتى الآن، إذ إنّ الجمهورية العربية السورية تعرّضت لهجمة عالمية كبرى، شارك فيها مئات آلاف المقاتلين، بإشراف مباشر من غرف عمليات يقودها مستشارون عسكريون، ورجال استخبارات من أقوى دول العالم، في مقابل إمكانيات الجيش العربي السوري، وقلة موارده، ولا سيما بعد فرض كل أنواع الحصار عليه.
إلا أن الدولة والنظام لم يسقطا، خصوصاً عند الموجة الأولى من الهجمات المنسّقة، والواسعة، والتي حظيت بحملة من الأكاذيب والمغالطات والفبركات لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً، حيث نجحت القوات السورية، مدعومة ببعض القوات الرديفة في إسقاط مخططات أعدائها، وفي إفشال وكسر موجاتهم الهجومية المتتالية، وفي تكبيدهم خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، والتي كشف الاستيلاء على جزء منها مشاركة أميركية وغربية مباشرة في مجريات الحرب.
وبالتالي ساهم صمود وثبات الدولة، وحفاظ مؤسساتها الرئيسية على هيكلها الإداري والتنفيذي رغم ما تعرّض له من هزّات، في إيصال رسالة للجميع، بأنها أي الدولة تملك كل الأهلية لممارسة أدوارها السياسية ضمن صفوف المؤسسات العربية، وأنها ما زالت تملك رؤية واضحة وغير مشوّشة، على صعيد كل القضايا التي تهم شعوب المنطقة، وأن مكانها الأساسي هو بين الدول التي تقرّر مستقبل المنطقة، من خلال ما تملكه من قدرات وإمكانيات، وما تحوزه من خبرات ومهارات.
ثانياً: دعم ومساندة الحلفاء
بعد اشتداد الحرب على سوريا، وفتح بعض الدول المجاورة لحدودها البرية، ومطاراتها الجوية، أمام وصول المقاتلين والسلاح، والتأييد السافر الذي أبدته تلك الدول للجماعات المقاتلة في الأراضي السورية ضد الجيش، بما فيها تلك الجماعات المصنّفة إرهابية، والتي ارتكبت جرائم وموبقات يندى لها جبين الإنسانية، شعر حلفاء سوريا من محور المقاومة بالخطر، وتبيّن لهم من مجريات المعارك أنّ الكفّة بدأت تميل لمصلحة الجماعات التكفيرية، خصوصاً مع تزايد الدعم المُقدّم لها، وهو ما أدى إلى سقوط مدن استراتيجية بأيديهم، الأمر الذي أعطاهم دفعة معنوية هائلة ساهمت في توجّههم للسيطرة على دمشق.
إلّا أنّ تدخّل حلفاء سوريا، ولا سيما من إيران وحزب الله، سواء بالمقاتلين، أو بتوفير السلاح، وما تبعه لاحقاً من تدخّل روسي، قد ساهم بشكل واضح في توزان الكفّة في الميدان، ومن ثم الانتقال من الدفاع للهجوم، في عمليات نوعية، قلبت موازين المعركة، وأدت إلى انكفاء القوات المعادية إلى مناطق حدودية، لتعيش تحت كنف قوات الاحتلال الأميركية والتركية في الشرق والشمال السوري.
وبالتالي ساهم هذا التفوّق العسكري في الحفاظ على أكبر مساحة جغرافية ممكنة من الأراضي السورية، ولا سيما تلك التي تحظى بكثافة سكانية كبيرة، وموقع اقتصادي هام، وهذا ما أفقد الطرف الآخر للشرعيّة التي حاول مراراً وتكراراً سلبها من الدولة، وسعى من خلالها بدعم أميركي وعربي واضح للسيطرة على مقاعد سوريا في المؤسسات العربية والدولية والأممية.
ثالثاً: تراجع الدور الأميركي في المنطقة
بات واضحاً للجميع أن السيطرة الأميركية على كثير من مقاليد الأمور في المنطقة قد بدأت في الأفول، وأن هناك انكفاء أميركياً نسبياً في عموم المنطقة والعالم، بفعل عديد التطورات مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والنهضة الصينية المستمرة، سواء اقتصادياً أو حتى عسكرياً، وشعور العديد من دول العالم الأخرى بضرورة التخلّص من التبعية لأميركا، ورهن مستقبل دولها وشعوبها للأميركي، الذي لم يكن حليفاً لأحد سوى نفسه.
وقد ساهم هذا التراجع في تفلّت عديد الدول مثل المملكة العربية السعودية من الانصياع للقرار الأميركي، ومحاولة فتح قنوات اتصال جديّة مع دول كانت وما زالت تُعتبر عدواً مركزياً لأميركا كإيران، والذهاب باتجاه البحث عن مصالح الدول بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
وقد بدا واضحاً خلال الأشهر الأخيرة أن ضعف القبضة الأميركية، وفقدانها جزءاً مهماً من قوتها المعهودة، قد ساهم في فكفكة بعض الأزمات على صعيد المنطقة، وإن كانت الأمور لم تصل إلى خواتيمها السعيدة بعد، على غرار التفاهمات السعودية الإيرانية برعاية صينية، وهذا الأمر تحديداً ساهم في تغيّر الموقف السعودي من عودة سوريا للجامعة العربية، والذي ألقى بظلاله على مواقف العديد من الدول الأخرى، وفي المقدمة منها مصر وقطر.
وبناء على ما تقدّم، فنحن نعتقد أن هذه الانفراج الكبير والمهم سيكون له بالتأكيد ما بعده، سواء على صعيد التوصّل إلى حل نهائي للأزمة السورية، بما يضمن عودة كل النازحين إلى أرضهم وديارهم، ورفع كل أشكال الحصار المفروض عليها، وخروج كل القوات المحتلة من أراضيها، أو على صعيد الانتقال لإنهاء أزمات أخرى من قبيل الأزمة في اليمن ولبنان والسودان، وصولاً إلى وضع استراتيجية دفاع عربي وإسلامي مشترك، تقف صفاً واحداً في وجه قوى الشر في المنطقة وعلى رأسها العدو الصهيوني.
نحن نعرف أن الوقت ما زال مبكراً للوصول إلى هذا الأمر، والأمة بحاجة إلى كثير من العمل في هذا الجانب المليء بالتعقيدات والتحديات، ولكن هذا يجب ألّا يمنعنا كأمّة واحدة، تجمعها أواصر الدين والعقيدة والنسب والدم، من مواصلة التحرّك نحو الأمام، مملوئين بكثير من الأمل، ومسكونين بكثير من الحب، ومقتنعين بأنّ الغد سيكون أجمل وأفضل.
في الختام نعود لنردّد من جديد ما ختمنا به مقالنا السابق، بأننا على يقين بأن هذه الأرض الطيبة التي دفع أبناؤها الغالي والنفيس من أجل الدفاع عنها في وجه الغرباء، ستعود كاملة في يوم من الأيام، من العراق شرقاً حتى تركيا شمالاً، ومن الأردن جنوباً حتى فلسطين ولبنان والبحر المتوسط غرباً، ستعود بكل سنتيمتر من مساحتها لا ينقص منها شيء، وسيخرج الغزاة عاجلاً أم آجلاً من شرقها وشمالها صاغرين يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وتعود مدينة الياسمين لجمالها ونضارتها بعد أن تنفض عن كاهلها غبار الحرب وتعب السنين.