عام على انتخابات العراق.. محلك سرّ!
قبل عام من الآن، كان الجميع يترقب بحذر يختلط فيه التفاؤل مع التشاؤم مخرجات العملية الانتخابية، وما يمكن أن تفرزه من مسارات تصحيحية جديدة للأخطاء والسلبيات السابقة.
بحلول العاشر من هذا الشهر، يكون قد مرّ عام كامل على إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، التي أريد لها أن تكون حلاً ومخرجاً لأزمة سياسية خانقة وخطرة تفجرت وتصاعدت مستوياتها بوضوح عبر التظاهرات الاحتجاجية الواسعة التي اندلعت في مثل هذه الأيام من عام 2019، والتي أفضت إلى استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وبالتالي انهيار حكومته بعد عام ونصف عام من ولادتها.
ولكن بدلاً من أن تكون انتخابات 10 تشرين الأول/أكتوبر 2021 حلاً ومخرجاً للأزمة، كانت بحدّ ذاتها أزمة معقدة وشائكة ومتداخلة في عناصرها وأدواتها ومدخلاتها ومخرجاتها، وأبلغ دليل على ذلك هو أنها أفرزت مشهداً اتسم باضطراب وارتباك سياسي ومجتمعي غير مسبوق، حتى في ذروة التداعيات الأمنية الكبيرة، سواء حين هيمن تنظيم "القاعدة" الإرهابي على الشارع العراقي، من خلال العمليات الإرهابية المتواصلة خلال الأعوام 2005 و2006 و2007، أو بعدما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي في صيف عام 2014 مدناً ومناطق عديدة، ووصل إلى تخوم العاصمة بغداد والمدن الدينية -النجف وكربلاء- وسيطر بصورة شبه تامة على سامراء.
قبل عام من الآن، كان الجميع يترقب بحذر يختلط فيه التفاؤل مع التشاؤم مخرجات العملية الانتخابية، وما يمكن أن تفرزه من مسارات تصحيحية جديدة للأخطاء والسلبيات السابقة. والآن، يترقّب الجميع، في ظلّ أجواء بات يغلب عليها التشاؤم والتفكير في أسوأ الاحتمالات والخيارات وليس أفضلها، الخروج من عنق الزجاجة وإنهاء حال الانسداد السياسي، في خضم حراك جماهيري مرتبك إحياء للذكرى السنوية الثالثة لتظاهرات تشرين الاحتجاجية.
وبين العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021 والعاشر من الشهر نفسه عام 2022، كان معظم -إن لم يكن كلها- الخطوات والمبادرات عقيمة وغير مجدية. وبدلاً من أن تفضي إلى حلحلة الأزمة وتقريب وجهات النظر وترميم الثقة بين الفرقاء، كانت الأمور تزيد سوءاً، والأزمة تعقيداً، والفرقاء تباعداً، والشارع يأساً وإحباطاً.
جاءت الانتخابات بنتائج جدلية مشكوك في صحتها ونزاهتها، لتدفع قوى سياسية معينة، وتحديداً قوى الإطار التنسيقي، إلى تحريك جمهورها رفضاً لتلك النتائج. وبعد ما يقارب شهرين، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات النتائج النهائية، من دون تغيير كبير في النتائج الأولية التي كانت قد أعلنتها بعد إغلاق صناديق الاقتراع بوقت قصير.
وبعد ذلك، صدقت الهيئة القضائية على النتائج، ولم تجد قوى الإطار بدّاً من الإقرار بذلك الواقع والقبول به، على أمل أن تثمر المفاوضات مع التيار الصدري، صاحب العدد الأكبر من المقاعد (73 مقعداً)، تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر من خلال تحالف الطرفين، لضمان حقّ المكون الاجتماعي الأكبر (المكون الشيعي) بالتصدي لتشكيل الحكومة، ولكنْ كان لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر كلام آخر، تمثل بخيار الابتعاد عن التوافق والاتجاه إلى تأليف حكومة أغلبية وطنية مع أطراف من المكونين الكردي والسني.
بالفعل، خطى الصدر خطوات عملية في هذا السياق، عبر تشكيل تحالف ثلاثي ضم كلاً من التيار الصدري، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، وتحالف السيادة بزعامة محمد الحلبوسي وخميس الخنجر.
وقد تم الإعلان عنه رسمياً تحت اسم تحالف "إنقاذ وطن"، في 23 آذار/مارس الماضي، أي بعد 5 شهور ونصف شهر على إجراء الانتخابات، ليطرح مباشرة اسمي مرشحيه لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وهما وزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان ريبر أحمد البارزاني، وسفير العراق في بريطانيا جعفر محمد باقر الصدر.
ورغم أنَّ هذا التحالف ضم نحو 160 نائباً، فإنّه أخفق في إنجاز مشروعه المتمثل بتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية، لأسباب وظروف مختلفة، لعلَّ أبرزها نجاح الإطار التنسيقي في ضمّ وحشد عدد لا يستهان به من الكتل والنواب المستقلين إلى ساحته، ليحول دون تأمين أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، وهذا ما شكل بداية النهاية للتحالف الثلاثي، الذي يمكن القول إنه انتهى وطويت صفحته بقرار الصدر الانسحاب من العملية السياسية وسحب أعضاء كتلته الـ73 من البرلمان، وذلك منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي، مؤكداً في بيان أنه قرر الانسحاب من العملية السياسية حتى لا يشترك مع الفاسدين بأي صورة من الصور، في إشارة إلى بعض قوى الإطار التنسيقي، وليس جميعها.
وكان انسحاب الصدر تعبيراً واقعياً عن وصوله إلى طريق مسدود، مع تأكيد حقيقة أنّ حلفاءه الكرد والسنة لم يكونوا مقتنعين بالقدر الكافي بخيار الأغلبية. وأكثر من ذلك، كانوا يعدون انسحابه خطأ استراتيجياً بالنسبة إلى كيان حصل على المركز الأول في عدد مقاعد البرلمان، وهذا ما تحدث عنه في الآونة الأخيرة القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري.
وما يثبت عدم قناعة الكرد والسنة بذلك، هو أنهم لم يتبنوا خيار الانسحاب، كما فعل حليفهم الصدر، بل سارعوا إلى فتح وتوسيع قنوات التواصل والاتصال مع قوى الإطار للاتفاق والتوافق معها على الاستحقاقات السياسية المطلوبة، بيد أنَّ العقد الإشكالية لم تنتهِ عند هذا الحد، لأن انسحاب الصدر من العملية السياسية (الحكومة والبرلمان) لم يعنِ غيابه وانسحابه من الشارع، وهذا ما جعل الإطار، ومعه الأطراف الأخرى، يبذلون الكثير من الجهود والمساعي لأجل إعادته وإشراكه في كل المفاصل والتفاصيل، إلا أنه اختار الطريق الآخر، بعدما اتخذت قوى الإطار خطوتها العمليّة والمهمة نحو تشكيل الحكومة الجديدة، بترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة المقبلة، وبانتظار تكليفه من قبل رئيس الجمهورية الجديد بعد حسمه من الفرقاء الكرد.
طريق الصدر الآخر تمثل بالعودة إلى البرلمان، ولكن هذه المرة ليس بواسطة النواب المنتخبين من الشعب، إنما بواسطة قواعده الجماهيرية التي وجهها أواخر شهر تموز/يوليو الماضي إلى التظاهر، ثم دخول المنطقة الخضراء والاعتصام داخل مبنى البرلمان، وهذا ما حصل بالفعل، إذ فُهم كل ذلك بأنه رد انتقامي على قوى الإطار ومنعها من تمرير مشروعها لتشكيل الحكومة، كما منعته من ذلك في السابق.
وبعد نحو شهرين من الاعتصام داخل البرلمان، وما أفرزه من أوضاع مقلقة ومضطربة وشلل شبه تام للحياة اليومية، حينما وصل إلى حد الصدام المسلح، أعلن الصدر أواخر شهر آب/أغسطس الماضي، اعتزاله الحياة السياسية، ومن ثم أمر أتباعه بإنهاء الاعتصام ومغادرة البرلمان بالكامل.
ومع ذلك، لم تنتهِ الأزمة، ففي الوقت الذي كانت قوى الإطار وشركاؤها السنة والكرد يحثون الخطى نحو تشكيل الحكومة الجديدة، لم تتوقّف الحملات السياسية والإعلامية والشعبية المضادة لتلك الخطوات، التي زادت ورسخت القناعات بأن أي ترتيبات سياسية يغيب عنها التيار الصدري لن يُكتب لها النجاح على المدى البعيد. هذا في حال نجحت على المدى القصير.
وأخيراً، وقبل أن يكتمل العام الأوّل من عمر الانتخابات البرلمانية بأسبوعين، عاد البرلمان العراقي ليلتئم من جديد بعد نحو 4 شهور على توقف جلساته وأعماله. وبقدر ما بدا ذلك إنجازاً مهماً وخطوة أساسية لكسر الجمود السياسي وتحقيق الانفراج، إلا أن الجلسة التي تضمنت انتخاب العضو المستقل محسن المندلاوي نائباً أول لرئيس البرلمان خلفاً للمستقيل القيادي في التيار الصدري حاكم الزاملي، وتجديد الثقة بالحلبوسي رئيساً للبرلمان، بعدما أعلن تقديم استقالته بصورة مفاجئة، لم تفلح تلك الجلسة في تبديد سحب التشاؤم والقلق وهواجس السيناريوهات والخيارات السلبية الخطرة، ولا سيما مع صمت الصدر، وتلميحات وزيره صالح محمد العراقي بعدم التعاطي مع ما سيحصل ويقرر لاحقاً، والاستعراضات والمظاهر المسلحة لتشكيلات "سرايا السلام" التابعة للتيار الصدري، والتي جاءت متزامنة مع تظاهرات الحراك التشريني في بغداد وبعض المحافظات.
في الواقع، أشرت مجمل مظاهر المشهد السياسي خلال عام كامل إلى حقائق كبيرة وخطرة لا يمكن في أيّ حال من الأحوال تجاهلها أو القفز عليها، هي غياب الثقة بين الشركاء أو الفرقاء السياسيين، حتى هؤلاء الذين شكلوا في الآونة الأخيرة تحالف إدارة الدولة، وهم ذاتهم الذين أداروها -ومعهم التيار الصدري- طيلة 17 عاماً.
وكذلك، إنَّ معارك كسر العظم لم تفضِ إلى تحقيق أيّ مكاسب لأيِّ طرف من الأطراف، ناهيك بكونها جعلت الأمور تدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها. والحقيقة الأخرى تتمثل بأنَّ التوافقات الهشّة، بل إسقاطاتها السلبية، هي الخيار الممكن والمتاح على المدى المنظور، وليس هناك أفضل منها.
وارتباطاً بذلك، فإنَّ تثوير الشارع وحشده وتعبئته يمكن أن يربك الأمور، ويقطع الطريق على الخصم، ويمنعه من الوصول إلى ما يريده ويخطّط له، ولكنه في الوقت ذاته لن يتيح لمن يتبنّاه بلوغ مراده بعيداً عن مطالب الآخرين واستحقاقاتهم.
فضلاً عن ذلك، فإن إيقاع حراك الشارع قد ينخفض ويتراجع، لأنه لا ينفصل في نهاية المطاف أبداً عن مجريات كواليس السياسة وحراكاتها ومخرجاتها الواقعية. ولعل معطيات التظاهرات التشرينية الأخيرة أشرت بشكل أو بآخر إلى هذه الحقيقة.
بعد مرور عام على الانتخابات العراقية، الجميع يراوح مكانه. يعني ذلك بلا أدنى شك أنَّ الإشكاليات والعقد كثيرة وكبيرة وخطرة، ورحيل هذا الاسم ومجيء ذاك لرئاسة الحكومة أو للمناصب الأخرى ربما يبدو مخرجاً أو جزءاً من الحل من جانب، بيد أنه من جانب آخر، قد لا يتعدى كونه انتقالاً بالأزمة من مرحلة إلى مرحلة لاحقة، أو استمراراً للدوران في الحلقة المفرغة ذاتها أو في حلقة مفرغة أخرى لا تختلف عنها إلا قليلاً. وما دامت المقدمات لم تتغيَّر، فمن الطّبيعي جداً أن تكون النتائج كذلك.