عالم بلا أقطاب
ما زالت أوروبا المهزومة التي تفقد مستعمراتها في أفريقيا تبحث عن مكان لها في العالم متعدد الأقطاب المنشود، وهو ما تفعله اليابان ودول أخرى طامحة إلى تحقيق مصالحها.
مع كل خبر يشير إلى تصاعد المواجهة بين المثلث الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والاقتصادات الصاعدة بقيادة الصين وروسيا، يتصاعد الحديث عن عالم المستقبل متعدد الأقطاب بعد هزيمة الولايات المتحدة بصفتها القطب العالمي الأوحد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية.
تبدو فكرة العالم متعدد الأقطاب مغرية للدول والشعوب التي عانت وحشية القطب الواحد الاقتصادية والعسكرية خلال العقود الثلاثة الماضية. ويبلغ الألق بهذه الفكرة حد اعتبارها إنجازاً تسعى إليه جميع شعوب الأرض المظلومة، كأنَّ التبعية لقطب واحد أو لأقطاب مختلفة قدر تلك الشعوب التي يبدو الحلم بالاستقلال بعيد المنال بالنسبة إليها.
لم تعرف البشرية عبر تاريخها فترة غاب عنها تحكّم قطب أو أكثر في مصير شعوبها ودولها. لذلك، نستطيع القول إن التاريخ البشري كان تاريخ حروب خاضتها أقطاب طامعة، ودفعت ثمنها شعوب مقهورة أتقنت دور الضحية، وكان أقصى طموحها الفوز بسلامتها وحقن دماء أبنائها. استمر التاريخ بتكرار نفسه، ليس مرتين، كما قال ماركس، ولكن لمرات لامتناهية دفع فيها الفقراء من دماء أبنائهم ثمن أحلام الأغنياء.
كذلك، لم تعرف البشرية قطباً غاشماً ومتوحشاً مثل القطب الرأسمالي الذي سيطر على العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، فأزهق مئات الملايين من الأرواح، وأباد شعوباً وثقافات بشكل غير مسبوق في التاريخ.
لعل العقل الذي فكر فيه هذا القطب المتوحش يتجلى بأوضح صوره في لقطة من فيلم "أوبنهايمر" عندما يطلب رئيس هيئة الأركان من الضباط المسؤولين عن القنبلة النووية تجنب تدمير مدينة اكيناوا، لأنّه قضى شهر العسل فيها، ولديه مع زوجته مجموعة من الذكريات التي يتمنى ألا تزول، ورجاهم اختيار مدينة أخرى لتدميرها. بهذا الاستخفاف، نظرت الرأسمالية إلى حياة البشر، فهم ليسوا سوى أرقام حيّة أو ميتة تدور في حلقة ماكينات الإنتاج الرأسمالية.
بدا ابن خلدون كأنه يصف عالمنا اليوم عندما قال إن المغلوب يكون مأخوذاً بتقليد الغالب، فنحن اليوم لا نعترض على فكرة القطبية كوسيلة لإدارة العالم، وينصب اعتراضنا على عدد الأقطاب المقبولة. لا ننظر إلى المعركة الدائرة إلا بعين المهزوم الذي يبحث عن الثأر الذي يتحقق بهزيمة الولايات المتحدة في الدرجة الأولى، وبعض الدول الأوروبية في الدرجة الثانية، مثل بريطانيا وفرنسا، ولا بأس إن قرنّا تلك الهزيمة ببعض الأوصاف التي تجعلها أكثر قسوة، مثل تمريغ أنف الاستعمار وكسر شوكته وغيرها من المصطلحات، لكن جزءاً من الحقيقة يغيب عن الانتصارات المرجوة، فالرأسمالية من دون جنسية، وإن كانت تلجأ إلى القوة الأميركية الغاشمة كوسيلة لتحقيق أهدافها، فإن ذلك لا يعني أن هزيمة دولة بعينها تعني هزيمة الاستعمار.
لنستذكر معاً العراق وأفغانستان عندما جاءت الولايات المتحدة بكل قوتها وقوة حلفائها، ودمرت البلدين، ثم انسحبت مانحة الخصوم الذين حاربتهم نصراً لم يكن من السهل تحقيقه. الهدف الرأسمالي الأساسي من الحرب تحقق، سواء بمحاصرة إيران وخلق بؤر توتر حولها أو بالسيطرة على تجارة المخدرات كواحدة من أكثر أنواع التجارة ازدهاراً ونمواً وتحقيقاً للأرباح، وخلق مجموعات من المقاتلين المدربين لدى الدوائر الأمنية الأميركية، مثل تنظيم القاعدة، واستخدامهم في حروب الوكالة ضد سوريا وليبيا واليمن. جنسية القتلى لا تعني النظام الرأسمالي، سواء كانوا أميركيين أو فرنسيين أو عرباً أو أفغانيين. ما يعني الرأسمالية هو نجاح المخطط وتحقيق أهدافه.
لا شك في أن دولة وحدها لا تملك هزيمة الرأسمالية العالمية، لكن التاريخ سيكتب أن ملامح العالم الجديد بدأت من سوريا، عندما صمد الجيش العربي السوري، وجاء الحلفاء من إيران والتنظيمات المقاومة، وفي مقدمتها حزب الله، ليلحقوا الهزيمة الأولى بالمخطط الرأسمالي في المنطقة، والذي كان "الربيع العربي" المزعوم أداته الرئيسة.
فتح صمود محور المقاومة الباب لعودة روسيا إلى ساحة السياسة الدولية كلاعب أساسي، واحتفظت الصين بدورها السياسي الاقتصادي الداعم لهذا المحور، الذي اتضح بموقفها من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن خلال اتفاقيات التعاون الاستراتيجي التي وقعتها مع إيران وسوريا، وكذلك دورها داخل مجموعة بريكس، إذ يشكل مع الهند الثقل الاقتصادي الأساسي داخل المجموعة.
رغم الدور الذي أداه محور المقاومة والتضحيات التي بذلها في رسم ملامح عالم المستقبل، فإن الغالبية العظمى من مثقفينا ترى أن الانجاز الحقيقي يكمن في صعود روسيا والصين، وربما الهند والبرازيل، لتشكل أقطاباً جديدة، وتبقى بلادنا تدور في فلك التبعية.
قبل أيام، نقلت الميادين خبراً عن موقع "بوليتكو" عن خلاف بين فرنسا وألمانيا حول منظومة صواريخ حماية أجواء أوروبا، ففي الوقت الذي تدعم ألمانيا شراء أنظمة صواريخ ألمانية وإسرائيلية، متعللة بضرورة السرعة بإنجاز المهمة، ترى فرنسا ضرورة صناعة الصواريخ داخل أوروبا، لأن الصواريخ الأميركية ترفع تكلفة الدفاع عن أوروبا وتعزز التبعية العسكرية لأميركا.
ما زالت أوروبا المهزومة التي تفقد مستعمراتها في أفريقيا تبحث عن مكان لها في العالم متعدد الأقطاب المنشود، وهو ما تفعله اليابان ودول أخرى طامحة إلى تحقيق مصالحها. هل يمكن أن يكون في العالم قطب مقاوم، ليس بالمعنى العسكري، ولكن بالفعل الاقتصادي والسياسي والثقافي؛ قطب يناضل من أجل عالم بلا أقطاب، تسوده لغة المصالح المشتركة، واحترام السيادة الوطنية للدول، والثقافات الوطنية للشعوب؟
في هذا العالم، ستسقط الرأسمالية من تلقاء نفسها، لأنها قائمة على استغلال الآخرين وتغليب مصالح الأقلية الغنية على الأغلبية الفقيرة. في عالم بلا أقطاب، ستسود العدالة، وتنتفي الحاجة إلى الحروب، فهل يسعفنا ما وصلنا إليه من معرفة وعلم وتقنية لندرك أن عدو البشرية ليس دولة أو شعباً بعينهم، بل إنه نظام رأسمالي هو سبب كل مآسي البشرية الحديثة، فيكون شعارنا النضالي عالماً بلا أقطاب!