ضرب ناقلة النفط الإسرائيلية.. خارج الحسابات
حتى لو حاول العدو الإسرائيلي الاعتماد على البحرية الأميركية من أجل حماية سفنه التي تَعبُر تلك المنطقة، فلن يكون هذا بالأمر الهيّن، ناهيك بالتكلفة المادية التي ستترتب على إجراءات كهذه.
في محاولة لقراءة ما بين السطور فيما ورد في الصحافة الإسرائيلية، يمكن أن نستنبط عدم توقُّع العدو الصهيوني الهجومَ الأخير على ناقلة النفط الإسرائيلية، من خلال ثلاثة أوجه على الأقل، بحيث تَمَثَّل الوجه الأول بالتِّقْنية المستخدمة، وتجسّد الهدف الثاني في نتيجة الهجوم. أمّا الهدف الثالث والأخير فيكمن في ساحة الاستهداف. ولعل في هذه الأوجه الثلاثة ما يضيف إلى هذه الضربة أبعاداً مغايرة لسابقاتها استهدفت سفناً إسرائيلية، كما سيأتي. وسيتبنى هذا المقال، جدلاً، الرواية الإسرائيلية الأميركية البريطانية، والتي مفادها أن إيران هي التي تقف وراء هذه الضربة الهجومية.
استُهدِفت يوم الجمعة، 30 تموز/يوليو ناقلة النفط "م/ت ميرسير ستريت" (M/T Mercer Street) في أثناء مرورها في بحر عُمان خلال رحلتها من تنزانيا إلى الإمارات، وكانت ترفع العَلَم الليبيري، إلاّ أن الشركة التي تتولّى تشغيلها هي شركة "مجموعة زودياك"، المسجلة في مدينة لندن، والتي تعود ملكيتها إلى الملياردير الإسرائيلي إيال عوفر. ونُفِّذ الاستهداف المزدوج بواسطة طائرتين مسيَّرتين انتحاريتين، بحيث ضربت المُسيَّرة الأولى جسم الناقلة، الأمر الذي أدّى إلى أضرار مادية في الناقلة. وبعد الضربة الأولى، جاءت المُسيَّرة الثانية لتضرب برج المراقبة، على نحو مباشر، مُوْقِعَةً قتيلين من طاقم الناقلة.
من هنا، نجد أن الوجه الأول، المتمثّل بتِقْنية الاستهداف، جاء مغايراً، إذ كان ضد هدف بحري متحرِك، وليس ثابتاً. ويلزم المُسيَّرات حتى تتمكن من إصابة هدف، من مثل هذه الشاكلة، أن تكون قابلة للتحكم فيها وتوجيهها بعد إطلاقها، على عكس الأهداف الثابتة التي يكفي معها برمجة المُسيَّرة بإحداثيات الهدف مسبَّقاً، الأمر الذي يكشف امتلاك إيران تِقْنيات تحكُّم في المُسيَّرات وتوجيهٍ لها، وهو لم يكن لدى الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية علمٌ به، كما صرّحا عقب الهجوم. وقالا إنهما الآن يعكفان على تحليل طبيعة هذه التقنية المستخدَمة. فهذا الاستهداف الأخير يُرجِّح، إلى حدّ كبير، صحةَ التصريحات الإيرانية بشأن قدرات طهران البحرية الفعلية، بحيث دار جدال بشأن هذه القضية عقب مناورات "الرسول الأعظم 15"، في كانون الثاني/يناير من هذا العام، فجادل تايلر روجوواي، على سبيل المثال، في مقال نُشر في 17 كانون الثاني/يناير 2021، في أن وصول صواريخ "أرض بحر" الإيرانية إلى مسافة 1000 ميل في عمق المحيط الهندي، وسقوطها على مسافة لا تتجاوز 100 ميل من الأسطول البحري لحاملة الطائرات الأميركية "يو أس أس نيميتز" ( USS Nimitz)، لا يتعدى عن كونه استعراضاً إيرانياً فارغ المضمون، بحيث إن مجرد إيصال مقذوف بحري إلى مسافة قريبة من هدف بحري متحرّك، لا يعني مطلقاً امتلاك القدرة الفعلية على إصابة أهداف من هذه الطبيعة، نتيجةً للتعقيدات المرتبطة بتقنيات التحكم والتوجيه.
أمّا الوجه الثاني، فيتمثّل بتعمُّد إسقاط قتلى في الهجوم، أو على أقل تقدير عدم الاكتراث لسقوط قتلى. ففي هذا الهجوم الأخير، استهدفت المُسيَّرة الثانية، على نحو مباشِر، برجَ المراقبة في الناقلة، بينما نجد أن الهجمات المماثلة السابقة كانت تتجنب بصورة واضحة إسقاط قتلى. وفي هذا رفعٌ لمستوى التحدي، ومؤشّر على كون إيران مستعدة للتصعيد إذا أقدم العدو على ردة انتقامية، وهو ما يعني محاولة لتغيير قواعد الاشتباك الراهنة.
ويبقى الوجه الثالث والمتمثّل بساحة الاستهداف، والذي لعلّه مربطَ الفرس في هذه الحادثة، ولاسيما إذا ما قُرِن بالوجه الثاني الآنف الذكر، بحيث يمكن البناء عليه في السياسة. فإدخال بحر عُمان ضمن ساحات الاشتباك كان مفاجئاً للعدو الصهيوني، على نحو واضح، وجغرافياً. فإنّ هذه الساحة تقع ضمن مجال إيران الحيوي، ويسهل عليها العمل فيها، على عكس العدو الصهيوني الذي سيكون من الصعب عليه مواجهة هجمات كهذه بالمُسيَّرات، في تلك المنطقة البحرية. وحتى لو حاول العدو الإسرائيلي الاعتماد على البحرية الأميركية من أجل حماية سفنه التي تَعبُر تلك المنطقة، فلن يكون هذا بالأمر الهيّن، ناهيك بالتكلفة المادية التي ستترتب على إجراءات كهذه، الأمر الذي سيرفع قيمة النقل البحري بصورة ملموسة على الكيان الصهيوني. وتدرك إيران حيوية ممرات النقل البحري هذه للكيان الصهيوني، كون 90% من البضائع المنقولة بحراً له تمرُّ في هذه الممرات المائية، التي باتت ضمن دائرة الاستهداف.
يقرأ البعض هذا الهجوم الأخير في خانة الردّ على العدوان الإسرائيلي، الذي استهدف مطار الضبعة السوري، والذي قالت تقارير غير مؤكَّدة إنه "سقط فيه شهداء لإيران وحزب الله". وتستنتج هذه القراءة أن إيران قرّرت بدء الرد على الاعتداءات الصهيونية المتكررة على مواقع إيرانية في سوريا، لكن من دون أن تُحمِّل الدولة السورية عبء تبعات هذا الرد، كونه جاء من خارج الأراضي السورية.
لكن، علاوة على هذه القراءة، يمكن وضع هذا الهجوم في سياقٍ أوسع. فلقد تعرّضت في الماضي ناقلات نفط إيرانية لاعتداءات إسرائيلية في أثناء نقلها مشتقات نفطيةً إلى سوريا، الأمر الذي حدا بالبحرية الروسية إلى أن تشرع في تأمين خط هذه الناقلات. أمّا اليوم فأعلن حزب الله، غيرَ مرة، وجودَ أفكار جدية لحل أزمة الوقود اللبنانية، عبر استيراده من إيران، الأمر الذي أثار موجة قلق ورفض لدى الصهيوني ظهرت في معظم التصريحات الصادرة من داخل الكيان. وهنا، إذا أخذنا في الاعتبار طُولَ الفترة الزمنية نسبياً بين الاعتداء على مطار الضبعة السوري والهجومِ على ناقلة النفط الإسرائيلية - علماً بأن توجيه ضربة بحرية كهذه لا يلزمه كثيرٌ من الإعداد، الأمر الذي قد يُطيل مدة الردّ - علاوة على عدم تأكيد سقوط شهداء في العدوان على مطار الضبعة، يصير مستساغاً وضع هذه الهجمة في دائرة الردود على الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على ناقلات النفط الإيرانية، في محاولة لتعديل قواعد الاشتباك، وعلى نحو يؤمِّن حماية للسفن الإيرانية المتّجهة إلى سوريا، وأيضاً لتلك المحتمل أن تتوجه إلى لبنان في المستقبل القريب، ولاسيّما أن الروسي لن يكون مهتماً بتقديم الحماية لأي سفن إيرانية متّجهة إلى لبنان.
هذا الهجوم هو الأول من نوعه، من حيث كيفيته ومكانه وطبيعته، التي أسقطت قتلى. وإذا كانت إيران تسعى لإعادة رسم قواعد الاشتباك وتوسيعها، كما جادل هذا المقال، فربما يلزمها القيام بعمليات نوعية أخرى تكون على شاكلة الهجوم الأخير، ولاسيما أن العدو الصهيوني وداعميه الأميركيين لن يسلّموا بقواعد الاشتباك الجديدة بعد أول حادثة، بحيث صرَّحا بأنهما يدرسان الحادثة وكيفية الرد عليها. لكنّ الحاكم في تحديد مآلات هذه الجولة يبقى عدم استعداد كل من الإسرائيلي والأميركي للذهاب إلى صِدام عسكري مباشِر مع إيران ومحور المقاومة. وهذا يُضيِّق، إلى حدّ بعيد، الخيارات المتاحة للصهيوأميركي، بينما يظل لدى محور المقاومة عددٌ من الخطوات التكتيكية التصعيدية، والتي يمكن استخدامها وقت الحاجة.