صندوق النّقد الدّولي مدين للبنان
صندوق النقد الدولي الَّذي تتعامل برامجه مع بلدان تعاني تعثراً مالياً وفشلاً كبيراً في الإدارة، صنَّف أزمة لبنان بأنها من أسوأ أزمات العالم منذ العام 1850.
يُصنّف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان ضمن الأزمات الثلاث الأولى في العالم خلال السنوات الـ150 الماضية، ويعتبرها أسوأ من أزمة اليونان في العام 2008، التي تسبَّبت بتشريد عشرات الآلاف وحدوث اضطرابات اجتماعية، ويرى أنَّها أكثر حدّة من أزمة الأرجنتين التي تسبّبت بفوضى عارمة.
صندوق النقد الدولي الَّذي تتعامل برامجه مع بلدان تعاني تعثراً مالياً وفشلاً كبيراً في الإدارة، صنَّف أزمة لبنان بأنها من أسوأ أزمات العالم منذ العام 1850. ويسير تفاوض لبنان معه اليوم على وقع أغنية فيروز: "تعا ولا تجي واكذب عليّ. الكذبة مش خطية. وعدني انو رح تجي وتعا ولا تجي".
وتعدّ شروط مساعدته الأقسى بين الجهات الداعمة، وهي غير متاحة حتى الآن، نظراً إلى وجود عثرات لا يعتبر الصندوق مسؤولاً عنها، بل العجز الحكومي والمؤسساتي الرسمي اللبناني الذي لم يجد إلى الآن رقماً واحداً متطابقاً عن الخسائر المتوقعة، وتقدّم كل جهة من الجهات المعنية، بدءاً من وزارة المالية، إلى مصرف لبنان المركزي، إلى جمعية المصارف، رقماً على هواها، وهو ما يعوّق أي تفاوض جدي وحقيقي يمكن أن يؤدي إلى نتيجة.
وإذا كانت للمصارف الخاصّة حساباتها ومصالحها، فما الَّذي يمنع المؤسستين الرسميتين، مصرف لبنان ووزارة المالية، من تقديم رؤية علمية مبنية على أرقام واضحة على الأقل؟ لا عجب في ذلك! فمن يغُص في أرقام حسابات المهمة التي أنجزتها وزارة المالية لماليتها للفترة الممتدة بين الأعوام 1993-2017 عندما كان وزير المالية الأسبق آنذاك هو علي حسن خليل، وبطلب منه، يكتشف حجم الفجوات الكبرى بين القيود وبين الداخل والخارج إلى حسابات المالية العامة، والتي ترتقي إلى مستوى الفضيحة.
وإذا وضعنا التخبّط الرقمي اللبناني جانباً، وعدنا إلى شروط صندوق النقد التي وضعها للبنان كإطار لسلسلة إجراءات للبدء بالتعافي الاقتصادي - عليه الالتزام بها ليتمكَّن من الحصول على مساعدة هذا الصندوق - أي قبل بدء حركة احتجاجات الشارع في 17 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، يتبيّن أمام النكبة التي وصلنا إليها اليوم، أنَّها مجرد "مزحة" إزاء ما نشهد من مصائب.
إنّ صندوق النقد، رغم قراراته المؤلمة، والجائرة أحياناً، بحق دول العالم النامي، لم يكن يريد لنا منذ ما قبل انفجار الأزمة، إلا أن نحرّر سعر الصرف ليصل الدولار الأميركي إلى قرابة 3 آلاف ليرة لبنانية كمرحلة أولى، بدءاً من أواخر العام 2019 وبداية العام 2020، وإلى ما يقارب 5 آلاف ليرة كمرحلة لاحقة في العام 2024، وليس إلى ما يفوق 30 ألفاً، كما هو حاصل حالياً، وسيبقى صعوده مستمراً بشكل صاروخي في الأيام المقبلة.
لم يكن الصندوق يريد إلا أن ترفع دولتنا سعر صفيحة البنزين 5 آلاف ليرة مقارنة بما كانت عليه (حوالى 27 ألفاً بالعملة اللبنانية)، وليس تحريرها وتحرير جيوبنا برفع الدعم عنها وعن سائر المحروقات التي تشكّل الشريان الحيوي لحياة الناس، إذ ارتبطت بسعر صرف الدولار الأميركي، ولم يعد لأيِّ قطاع القدرة على الصمود والصعود من القعر والصقيع والظلمة معاً.
كما أنّه لم يطلب من قطاع الكهرباء إلا تنظيماً وهيكلةً وهيئةً ناظمة وتعديلاً مقبولاً للتعرفة ووقفاً للهدر، لا انعداماً لوجوده وتهجيره، والاتكال على المولدات الخاصة غير الشرعية، وفق برامج تقنين قاسية، وعلى هوى أصحابها ومزاجيّتهم، رغم تفلّت تسعيرة فواتيرها مع تفلّت سعر صرف الدولار الأميركي وجنونه.
لم يطلب إلا ضبط عمليات التهرب الجمركي، ووقف التهريب عبر المعابر غير الشرعية، ولم يتمنَّ للحظة لميناء بيروت هذا التفجير الكارثي الذي يعدّ الثالث في العالم، أو أن تشلّ حركته مع ما خلّف من ضحايا، وتتقلّص الإيرادات الجمركية جراء الشّلل اللاحق بحركة الاستيراد والتصدير... وتتحوّل حركة التهريب إلى مسارات معابر شرعية أيضاً في بعض الأحيان.
وفي القطاع العام، طلب ترشيقه والاستغناء عن فائضٍ محشوٍ حشواً بفضل الاستتباع السياسي، لا بفعل الجدارة، ومحشور في الأمكنة التي لا تتسع حتى للعاملين الجديين الكفوئين، ولم يكن يرغب في أن تفرغ جميع الإدارات تقريباً، وتتعطّل مصالح الناس، ويتوقف عمل مؤسسات الدولة جراء ارتفاع كلفة الانتقال من أماكن العمل وإليها، والتي لم يكن ينقص مهزلتها سوى اجتياح كورونا بمتحوراته المتعددة.
وقد طلب هذا الصندوق "اللعين" أخيراً رفع القيمة المضافة 1%، تضاف إلى الـ11% المحدَّدة أصلاً من قيمة المشتريات، لا تحليقها كقيمة حسابية وفقاً لتطاير الأسعار.
أما الموازنة العامة، فهو يعتبر أنّ إعدادها وإقرارها تحصيل حاصل، وأنها من البديهيات حتى في الدول الأكثر تخلفاً، غير أنَّنا تفوقنا في الواقع على سوانا، فالحكومة لم تجتمع لدراستها وإقرارها، ولم ترسل بعد أصلاً إلى مجلس الوزراء، وقضاء الحوائج يتم سراً عبر مراسيم وموافقات استثنائية... ولمَ الاستعجال؟ فالصرف على القاعدة الاثني عشرية يحنّ إلى أيام مجده، حين تربعت القاعدة في المقدمة على مدى 15 عاماً، وهي حاضرة ناضرة بالتصرّف.
نعم، نحن على ما نحن عليه اليوم، نكون قد تجاوزنا الآلاف من الشروط "الجائرة" التي يفرضها هذا الصندوق الدولي. وبناءً عليه، يجب أن يكون هو نفسه في وضعية المدين لنا، لا العكس. يجب أن يكون مديناً لنا وشاهداً على عبثنا ببلدنا؛ هذا العبث الذي يختصر كلّ أبجدية الإجرام بحقّ لقمة عيش أكبر كهل وأصغر رضيع... لعلّ ما نشهده يكون شاهداً ونموذجاً لمشهد تتحتّم مواجهته بشتى السبل، لتجنب تعميمه في أرجاء العالم، في دول يشبه واقعها واقعنا الأليم.