صفقة تبادل أسرى مع حكومة إسرائيلية فيها بن غفير، هل هذا ممكن؟
لطالما كانت السياسة التي تبنتها حكومات "إسرائيل" المتعاقبة، حتى من دون إعلانها، تقوم على استثمار كل جهدٍ استخباري وعملياتي في محاولة تحديد مكان جنودها الأسرى من أجل إطلاقهم.
مرةً أخرى تُدحرِج حماس، وفي ذكرى انطلاقتها الـ 35، كُرة نارٍ مُلتهبة بين قدمي حكومة نتنياهو ولمّا تدخل بعد ملعب السياسية فعلياً، وتضربُ على الوتر الأكثر حساسية والأكثر تعقيداً، الذي يمس الخاصرة الرخوة للمجتمع الإسرائيلي، وهي كيفية تعامل "إسرائيل" مع جنودها الأسرى والثمن الذي يمكن أن تدفعه في مقابل استعادتهم، سواءً كانوا أحياءً أم أمواتاً.
ففي احتفالات حماس بالذكرى الـ 35 لانطلاقتها قال زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار: "سنمهل الاحتلال بعض الوقت لإتمام صفقة تبادل الأسرى، وإلا فإننا سنُغلق هذا الملف نهائياً وسنجِدُ طريقةً أخرى للإفراج عن أسرانا الفلسطينيين".
هذه الخطوة، أضافت وقوداً آخر للجدل الداخلي المُستعر أصلاً في المجتمع الإسرائيلي على خلفية وصول اليمين إلى الحكم، والتصادم الدائر بين "الجيش" الذي ينتمي إليه الجنود الإسرائيليون الأسرى لدى المقاومة، من جهة، ورموز اليمين الفاشي الذي يقف على رأسه بن غفير من الجهة الأخرى.
ففي حين قرأت وسائل إعلامٍ إسرائيلية هذه الخطوة محاولةً من حماس لاستغلال قضية الأسرى "لتعود إلى العناوين الرئيسة في إسرائيل"، رأى ذوو الجنديين شاؤول أرون وهدار غولدن وغيرهم، أن "دولة إسرائيل قد تخلت فعلاً عن مساعيها للقتال من أجل أبنائهم"، إذ صرّح شقيق الجندي هدار، الذي عَرَضت حماس بندقيته في احتفال انطلاقتها، قائلاً: "لقد توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الجميع قرر فعلاً التخلي عنهم، لقد حان الوقت لكي نتوقّف عن الخجل للقتال من أجل الجنود".
أما والد هدار فانتقد سلوك الحكومة في غير مناسبة قائلاً إن "إعادة الأبناء واجبٌ صريح ليس أخلاقياً وحسب، بل هو واجبٌ صريح من التوراة".
لطالما كانت السياسة التي تبنتها حكومات "إسرائيل" المتعاقبة، حتى من دون إعلانها، تقوم على استثمار كل جهدٍ استخباري وعملياتي في محاولة لتحديد مكانهم من أجل إطلاقهم، ولو أتيح لها احتمالٌ عملي بسيط لفعل ذلك، لما مانعت في إرسال مُقاتليها لإطلاق أسرها، مع إدراكها المخاطر المترتبة على عملية الإفراج عنهم، أمّا في حال تعذّر هذا الخيار، فإن عليها أن تقود مفاوضاتٍ تشمل أثماناً "صعبة" لاستعادتهم.
إن الجدل في صحة هذه السياسة كان ولم يزل يمزّق المجتمع الإسرائيلي، وقد اشتد على نحو أساسي بعد "صفقة أحمد جبريل" عام 1985 التي أفرجت بموجبها حكومة "إسرائيل" عن 1150 أسيراً فلسطينياً في مقابل 3 جنود إسرائيليين جرى أسرهم.
حتى ذلك الحين، تأثرت سياسة "إسرائيل" بالضغط العام، وكان إحجامُ حكومة الاحتلال عن فكرة التفاوض للإفراج عن جنديها رون أراد عندما كان ذلك ممكناً عامي 1986 و1987 يرجع في جزء كبير منه إلى الخوف من الرأي العام الذي كان في حال اضطراب بعد صفقة جبريل.
وبعد صدمة صفقة الجندي شاليط التي أُطلِق فيها 1027 سجيناً أمنياً فلسطينياً، قد لا يبدو أن أحداً في المجتمع الإسرائيلي قد يفكر في إطلاق أسرى فلسطينيين أو ترويج صفقة كهذه.
طُرحت الجوانب والتعقيدات كلها المتعلقة بهذه القضية الشائكة للنقاش مراتٍ لا تحصى في المجتمع الإسرائيلي، وعلى مختلف المستويات الأمنية والسياسية والأخلاقية والقانونية، وكذلك الحجج المؤيّدة والمعارضة لصفقات إعادة الأسرى، وظلت الخلافات بين المسؤولين الكبار في النظام الأمني والسياسي وفي النقاش العام من دون تغيير. وظل السؤال الأكبر هل الإفراج عن أسرى فلسطينيين سيؤدي إلى زيادة الخسارة في الأرواح الإسرائيلية؟ وهل استمرار الضغط واستمرار المفاوضات يؤدي إلى تقليص مطالب المقاومة أم لا؟
من الواضح للجميع أنه في هذه القضية، المتعلقة بإعادة "الأسرى الإسرائيليين" مقابل ثمن باهظ، أن هناك شبكةٌ مُعقّدة من الاعتبارات التي تمنع تنفيذ صفقاتٍ من هذا النوع، على رأسها إمكانية الإضرار بأمن دولة "إسرائيل" وحياة مواطنيها نتيجة الإفراج عن أسرى متهمين بتنفيذ عمليات فدائية، أو حتى بقتل إسرائيليين، ما يعني التشجيع على عملياتٍ فدائية إضافية مُحتملة مستقبلاً، مستندين، أي الفلسطينيون، إلى أنه إذا ما جرى اعتقالهم فإنه سيجري إطلاقهم من السجن في صفقاتٍ مماثلة مستقبلاً.
إنّ تحديد "ثمنٍ" لصفقة إفراج عن أسرى لن يكون من الممكن التراجع عنه في مواقف مستقبلية مماثلة، ما يعني الاستسلام "لابتزاز المنظمات الإرهابية" و"تآكل قدرة الدولة على الردع" وفق النظرة الإسرائيلية.
وهذا بدوره يمنحُ التنظيمات الفلسطينية حافزاً لتنفيذ عمليات خطف جنود مستقبلاً، فضلاً عن المخاوف من تقوية التنظيمات الفلسطينية "المتشددة" في مقابل إضعاف المُعتدلة منها.
ولم تغب عن النقاش فكرة الخوف من تمجيد الأسرى الفلسطينيين المُفرج عنهم وتحويلهم إلى "أبطال" أو "رموز" في المجتمع الفلسطيني ووضعهم كقيادة مستقبلية ومتشدّدة للتنظيمات الفلسطينية كما جرى في حال السنوار.
وأخيراً الخشية من الإضرار بمكانة النظام القضائي الذي حَكمَ على هؤلاء الأسرى، والأذى الذي سيلحقُ بذوي قتلى العمليات التي نفّذها هؤلاء الأسرى الفلسطينيين.
يبرز في هذا النقاش الإسرائيلي الداخلي من الناحية الأخرى المبدأ الديني الأخلاقي فيما يتعلق بفداء "الأسرى" الإسرائيليين، والجهود المرجّح أن تبذلها "الدولة" لاستعادة جنودها الذين أرسلتهم في مهماتٍ قتالية لحماية أمنها، وأثره الإيجابي في الحفاظ على الدافع للخدمة القتالية في "الجيش الإسرائيلي"، إذ إن التصرّف بهذه الطريقة جاء كأمرٍ واقعٍ لا مناص منه في ظل غياب بديلٍ عمليٍ آخر للإفراج عن "الأسرى الإسرائيليين" لدى المقاومة.
بل إن بعض الإسرائيليين زعم أن الضرر المتوقّع لأمن "إسرائيل" ليس بهذه الأهمية، معتبرين أن التنظيمات الفلسطينية ستعمل في كل الأحوال لتنفيذ هجماتٍ فدائية بالقدر الذي تستطيعه، وإن لم يكن من خلال الأسرى المُفرج عنهم فمن خلال آخرين.
إن جوهر النقاش الداخلي الإسرائيلي هو السؤال المحوري: "هل إطلاقُ مئات الأسرى الفلسطينيين في مقابل جنديٍ أسير هو استسلامٌ للإرهاب"، وهل هو علامة ضعف؟".
لطالما رددّ الضباط العسكريون الكبار والقادة السياسيون الإسرائيليون مقولة "دع الجيش الإسرائيلي ينتصر، وإلا فإن ضعف المجتمع المدني لن يسمح بالنصر".
إن صمود "دولة إسرائيل" مبنيٌ بصورة محورية على "صمود" مجتمعها ومقدرة قيادتها على التوفيق بين المواجهة العسكرية المستمرة وبناء دولةٍ لها إنجازات في جميع المستويات، والحفاظ على الجبهة الداخلية متماسكة.
إن "قوة إسرائيل وتماسكها" هما مقياس مقدرتها على الاستمرار والنجاح في العمل على هذه الجبهة، ومعرفة أن الحكومة الإسرائيلية ستفعل كل ما في وسعها لإعادة جندي يجري أسره، هي حالة اختبار ذاتي لهذه المُعادلة.
أُثير، بعد عملية "الجُرف الصامد"، كما مّشتها "إسرائيل"، أو "العصف المأكول" وفق حركة حماس، والبنيان المرصوص وفق حركة الجهاد الإسلامي، أثير سؤالٌ عما على "دولة إسرائيل" أن تفعله لاستعادة رُفات جنود جيشها، وكان الافتراض العملي الذي بنى عليه "الجيش" الإسرائيلي إستراتيجيته في هذه القضية هو أن "الجنود لم يعودوا أحياء"، وببساطة "الجثث ليست أبناءنا"، وعندما يموت الإنسان لا يعود موجوداً، لهذا السبب لم يعد بإمكاننا إعادة "الأبناء" إلى بيوتهم"، كما في حال الجندي شاليط.
وعندما يستوعب الأهل والمجتمع الإسرائيلي برمّته أن "الأبناء" لم يعودوا على قيد الحياة، فإن لذلك تأثيراً مُهماً في سقف التوقعات من "الدولة".
صحيحٌ أن "الدولة" أرسلتهم في مهمات خطرة وتقع عليها مسؤوليةٌ "أخلاقية" تجاه الجنود الذين أرسلتهم إلى ساحة المعركة، لكنها ليست مسؤولية مُطلقة. وبالطبع، ومرةً أخرى وفق الرؤية الإسرائيلية، هذا لا ينفي وجود التزامٍ "أخلاقي" باحترام الموتى.
ومع أن الجنود "ليسوا من الأحياء" إلا أن كثيرين يعتقدون أن من الضروري استمرار الضغط على حماس، على نحو أساسي بالعصا، وربما بالجزرة أيضاً، حتى يُعيدوا رُفات "الجنود".
هل من الممكن أن نرى صفقة تبادل؟
إن وجود اعتباراتٍ متناقضة هنا وهناك، يطرح تساؤلاً مثيراً للاهتمام حول الديناميكيات التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى قرار القيادة السياسية الإسرائيلية لإقرار عقد صفقةٍ لاستعادة جنودها، أو إلى تجنبها. فما هو الاعتبار الذي سيكون له الأثر الأكبر في إمكانية حدوث صفقة تبادل، وبالتالي في توقيت تنفيذها!
لقد كُتب وقيل كثير عن الضغط الجماهيري المُكثّف الذي مُورس على المستوى السياسي بمساعدة مستشارين إعلاميين ومختصين بالعلاقات العامة من أجل إطلاق الجندي شاليط، وهو ضغطٌ وصل ذروته ثم تحوّل إلى كتلة نارٍ مُحرجة لم يعد بإمكان القيادة السياسية تحمّلها.
وربما كان هذا الضغط هو الذي أدى إلى قرار المضي في الصفقة حينذاك، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الضغط الذي حدث باستمرار وبكثافة فإن شاليط بقي في أسر المقاومة نحو 5 سنوات و4 أشهر، ولم يعد إلى بيته إلا في نهاية عام 2011! فما الذي سيدفع "إسرائيل" إذاً إلى تنفيذ صفقةٍ ما، وجنودها الأسرى لدى المقاومة حالياً لا يحظون بالضغط الجماهيري نفسه الذي حظي به شاليط، فضلاً عن أن "إسرائيل" كانت على يقين أن شاليط حي!
فهل كان الضغط الجماهيري وحده هو الذي قاد الحكومة الإسرائيلية إلى القرار الذي اتخذته بشأن تنفيذ الصفقة؟ يطرح البعض تفسيراً مفادُه أن توقيت الصفقة كان لاعتباراتٍ سياسية إسرائيلية داخلية نابعة من الاحتجاج الاجتماعي في صيف2011، ومن منطلق طموح المستوى السياسي للعمل على إخماد الاحتجاجات من خلال تقديم إنجازٍ يكون له تأثير "عاطفي إيجابي" قوي في قطاعاتٍ كبيرة من الجمهور الإسرائيلي. فهل يكرّر نتنياهو الموقف الذي اتخذه في صفقة شاليط؟ خصوصاً في ظل استمرار مُحاكمته واستمرار الجدل الإسرائيلي الداخلي العاصف نتيجة سيطرة اليمين الفاشي على الحكم؟ وكيف سيتمكن هذا اليمين، وبن غفير حصراً، الذي يتزعّم تيار التمرّد ضد الجيش بدعوى تقصير قادته وتخاذلهم مع الجنود، من التوفيق بين موقفه هذا، وإدارة ظهره لجنودٍ إسرائيليين أسرى لدى المقاومة الفلسطينية، فهل يتخلّى عنهم وعن أسرهم؟
لكن بعض الإسرائيليين يرون أن توافر قيادة أمنية تثق بقدرة النظام الإسرائيلي "الأمني" على معالجة الضرر المرجّح للأمن نتيجة عودة عدد من الأسرى "الخطرين" إلى الحرية، وهو ما يمكن أن يُسهّل إتمام صفقة إفراجٍ مُحتملة كما حدث في صفقة شاليط.
فقد أبدى نتنياهو أهميةً كبيرة لموقف رئيس الشاباك والأجهزة الأمنية في شأن قضية صفقة شاليط، وذلك حتى يبين للمجتمع الإسرائيلي أن هذا ليس قراراً شعبوياً مدفوعاً باعتباراتٍ سياسية، بل قرارٌ تحظى فيه الاعتبارات الأمنية بالوزن الأكبر.
إذاً من سيكون بإمكانه على المستوى الأمني الإسرائيلي المقبل أن يتعامل بنجاح مع التهديد الأمني الذي سينشأ عن "صفقة" كهذه. وكيف سيتصرف "رجل الأمن القومي" الأقوى في حكومة نتنياهو الذي يتزعم "حزب القوة اليهودية"، الذي حظي بتصويت غالبية جنود جيش الاحتلال، كما أفادت التقارير الإسرائيلية، مع قضية "أمنية عسكرية" تخص الجيش الذي يُحرّضُ عليه ويحاول نزع الشرعية عنه بدعوى ضعف قادته وتقصيرهم، وهو الذي أقنع جمهور ناخبيه، من الجنود على وجه الخصوص، بأنه يملك "القوة" على حل كل المعضلات التي تواجههم بما فيها الأمنية!
بالتأكيد، لموقف بن غفير كما لموقف كل قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تأثيرٌ حاسم في القرارات السياسة الإستراتيجية في المجال الأمني. وبالتأكيد فإن مواقف المؤسسات الأمنية الإسرائيلية ليست ثابتة، بل تخضع للتغير من لحظةٍ إلى أخرى، وفي ظروف زمانية مختلفة. وهنالك حاجة ماسة و"حاسمة" إلى أن يعتمد المستوى السياسي، عند اتخاذ قراراتٍ "صعبة" ومثيرة للجدل على الصعيد الأمني "والشعبي"، على دعم الأجهزة الأمنية في تلك القرارات.
إن مهمة جنود "الجيش" وفق النظرة الإسرائيلية السائدة اليوم، هي حماية المدنيين لا العكس، ولو احتج وتظاهر آلاف المواطنين الإسرائيليين من أجل الإفراج عن جنودهم الأسرى بأي ثمن، فإن هذا لا يعني أن على صُنّاع القرار أن يُتموا صفقة تبادل يُعرّضون فيها هؤلاء المواطنين المدنيين "للخطر" فعلياً. لكن، هل تختمر الظروف السياسية، الأمنية، والشعبية لحدوث نقطة تحوّلٍ حقيقية في قضية صفقة التبادل؟، وهل يمكن الاعتقاد بأن رئيس مجلس الوزراء القادم نتنياهو سينجح في حشد الأغلبية المطلوبة لتنازلاتٍ إضافية في هذا الملف، أو حتى جلبِه إلى التصويت الحكومي. ولنتذكر أن صفقة شاليط جرت في عهد حكومة نتنياهو، ولم تكن تختلف ظروفها كثيراً عن تلك التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي اليوم.